الإسلام الذي «Made in USA»
يميل الأميركيون إلى الاعتقاد بأن « كل الوحوش قابلة للترويض». ربما هو رهان ينحدر من تقاليد حملات رعاة البقر على القطعان البرية، غير أن مجال تطبيقه يطال البشر، ومنهم العرب والمسلمون أيضاً؛ وهم منبع «القلق» وفق الرواية الأميركية.
وفعلاً، خلال حربها على الشيوعية استطاعت أميركا ترويض الوحش «الجهادي»، الذي نشأ في الهند وباكستان منذ سنوات الأربعين وترعرع في أفغانستان إبان سنوات السبعين، وحظي بكرم حاتمي من لدن الإسلام النفطي. وقد أشرفت الإدارة الأميركية على تكوين إعلاميين وصحافيين وكتّاب رأي في عدد من المنابر الإسلامية، إلى أن صار مفهوم الجهاد دارجاً على لسان كل من يتكلم باسم الإسلام. أثناء ذلك قام البنتاغون بتدريب وتسليح المجاهدين الأفغان وإعدادهم لحرب، كان متوقعاً أن تستغرق مئة عام على الأقل. وكان رونالد ريغان الذي استقبل نفراً من المجاهدين الأفغان داخل البيت الأبيض عام 1985، أول من اصطلح عليهم باسم المقاتلين من أجل الحرية (!). والجدير بالتذكير، أن العصر الذهبي للإسلام الجهادي شهد سقوط القضية الفلسطينية من الأدبيات الجهادية، لفائدة أولوية القتال ضد الشيوعية الملحدة. وتُركت فلسطين للتيارات العلمانية اليسارية والليبرالية والقومية.
فجأة، أو على حين غرة، انهار المعسكر الشيوعي، فلم يجد الوحش الجهادي من عدو أمامه سوى أن يرتدّ إلى نحره، فاستدار خلفه ليضرب العمق السعودي والداخل الأميركي والبيت الباكستاني.
هكذا شعر الأميركيون بأن جهداً جهيداً ينتظرهم لأجل إعادة وحش الجهاد إلى عقاله وتقليم أظافره. وعلى المنهاج نفسه اهتدت المراكز البحثية الأميركية إلى تسويق مفهوم قرآني آخر، يعوّض مفهوم الجهاد ولا يقل إثارة وجاذبية عنه: الوسطية. وصار إسلاميو دول الربيع العربي من تونس ومصر وليبيا واليمن لا يترددون في إدراج إيديولوجياتهم ضمن الإسلام الوسطي. ومرّة أخرى، كانت قضية فلسطين الغائب الأكبر عن كل الخطب الرّبيعية للإسلاميين. هل يقود «ترويض الوحش» إلى أن يفقد ذاكرته، فينسى أم قضايا الأمة: فلسطين؟
ضمن الأرشيف الاستراتيجي الأميركي ما يؤكد أن الحركات الدينية «اللاعقلانية»، يسهل أن تتحول عبر الترويض وبسرعة قياسية أحياناً - من موقف الخصام والعداء إلى موقف الوئام والولاء. وهذا الرهان مطلوب أميركياً، طالما يمكنه أن يجعل التطبيع مع إسرائيل أكثر تجذراً في الوعي الإسلامي. وهو رهان ممكن واقعياً، طالما أن الخبرة التاريخية تُظهر كيف تحولت الحركات البروتستانتية الأميركية في منتصف القرن الماضي من موقف العداء الشديد لإسرائيل إلى موقف الحليف الأكبر لإسرائيل. ومن دون شك، يقدم خطاب حزب النور السلفي في مصر نموذجاً لإمكانية تحوّل الخطاب الديني الإسلامي نفسه، من موقف العداوة «الدينية» مع إسرائيل إلى إمكانية الصداقة «الدينية» معها.
وعلى هدي الرهان ذاته، تسعى المراكز الفكرية الأميركية المهتمة بالشرق الأوسط إلى تقديم العديد من التوصيات للإدارة الأميركية. وتعتبر مؤسسة راند Corporation RAND، أكبر مركز فكري في العالم (مقرها في ولاية كاليفورنيا) وهي أحد أهم المؤسسات الفكرية الأميركية المؤثرة على مراكز صناعة القرار في الإدارة الأميركية، خاصة فيما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط. ويعتبر فرع المؤسسة في قطر من أقوى وأنشط الفروع، وهو الذي أشرف على إصلاح المنظومة التعليمية في إمارة قطر، كما يؤكد البعض.
ليس غريباً أن حزب النهضة في تونس وحزب العدالة والتنمية في المغرب واتحاد المحاكم الإسلامية في الصومال، يعتبرون أنفسهم وسطيين ومعتدلين لمجرد أنهم لا يجهرون بالخلافة مثل الإخوان المسلمين. وليس غريبا أن الإخوان المسلمين في مصر يعتبرون أنفسهم وسطيين ومعتدلين لمجرد أنهم يؤمنون بالتدرج نحو غاية الخلافة بخلاف حزب التحرير. وبالجملة، ليس غريبا أن يبدو الإسلاميون كافة في موقع الوسطية والاعتدال لأنهم لا ينتقدون العولمة الرأسمالية. وليس غريباً أن السلفيين أصبحوا يرون أنفسهم أحق بصفة الوسطية والاعتدال طالما أنهم أدركوا المطلوب حين وعدوا باحترام، ليس حقوق المرأة، وإنما المعاهدات مع إسرائيل، بل ألمحوا بالمزيد. نعم، تكاد الوسطية تصير اليوم منطقة منزوعة الموقف. وهذا هو المرتقب من إسلام صُنع في أميركا.
سعيد ناشيد
المصدر: الوطن
إضافة تعليق جديد