الاعتدال في مملكة التكفير
مفهوم الاعتدال في العقل السياسي والديني السعودي يكتسي شكلاً مخاتلاً، إلى الحد الذي يجعله فريداً ويندرج في سياق «الخصوصية» السعودية. فما تسالم فلاسفة الحقوق والسياسة على وصفه اعتدالاً، قد لا يكون كذلك البتة في السعودية، فهو اعتدال مقارنةً بالتدجيج الكثيف للخطاب العنفي، وما يعتقده البعض تطرّفاً، قد يصبح نموذجاً متقدّماً في الاعتدال.
فالاعتدال في المفهوم الوهابي السعودي يراوح بين تقويض الدولة كحقيقة تاريخية واجتماعية، ووصفها وسيلة لضمان حرية التفكير، ومصدراً للأمن المجتمعي، أو حتى بكونها التجسيد التام لإرادة المجتمع لحظة بلوغه الرشد الروحي والاخلاقي والعقلي.
لا بدّ من معايير جديدة للاعتدال، في ظل تمدّد مساحة العنف والتطرّف، واتخاذهما أشكالاً راديكالية غير مسبوقة، تتجاوز حدود الساديّة، والهلوسة، والعبثية والتعطّش إلى الدماء.
في السياسة، يأخذ الاعتدال السعودي شكل المصادرة المطلقة لإرادة المجتمع، وفرض الوصاية التامة عليه. على سبيل المثال، من يتأمل في كلمة سعود الفيصل، وزير الخارجية السعودي، خلال كلمة المملكة السعودية في افتتاح مؤتمر «جنيف 2» حول سوريا في مدينة مونترو السويسرية في 22 كانون الثاني الجاري، يشعر بأن الرجل كان أميناً في التعبير عن جوهر الحكم الملكي الشمولي في بلاده، فهو لم يمنح وفدي الحكومة والمعارضة في سوريا فرصة اللقاء والحوار والاتفاق، إذ اختار لهما «فخامة الرئيس»، الجربا، وحدّد لهما مستقبل سوريا، لا يكون فيه للأسد دور، وتلا بعد ذلك قائمة متطلبات، منها فتح ممرات إنسانية، واطلاق المعتقلين، وإرساء أسس انتقال سريع للسلطة، على أساس أن «الائتلاف الوطني» المعارض الممثل الشرعي الوحيد للشعب السوري، وافترض بعد ذلك أنه بهذا يستطيع السوريون تحقيق طموحاتهم وتطلعاتهم.
بالمناسبة، فإن انتقائية الفيصل لا تنفك عن الاعتدال السعودي، فهو حين يطالب بانسحاب العناصر الاجنبية كافة من سوريا، لا يتردد في حصر هذه العناصر في الحرس الثوري وحزب الله، فيما تصبح التشكيلات القاعدية بدءاً من «النصرة» و«داعش» وصولاً إلى «الجبهة الاسلامية» المدعومة سعودياً خارج الحصرية تلك.
لا ريب في أن ما تقوم به التنظيمات الارهابية هذه، وباقي التشكيلات القاعدية التي تتغذى على الوهابية فكراً، والبترودولار السعودي مصدراً مالياً، تسير عكس التاريخ الانساني، وهي تعيد الإنسان الى مرحلة التوحش والهمجية، إلى ما قبل الدولة، باعتبارها مرحلة من التحضر والتعايش بين بني الإنسان لضمان أمنهم واستمرارهم.
في الأدبيات الوهابية التي تعتنقها تنظيمات القاعدة، بكل فروعها، ثمة نفور شامل من فكرة الدولة، وحضور راسخ لمفهوم الجماعة والامارة، حيث يبدو الفارق بين وسائل تجسيد قيمة الحق. ففي الدولة المدنية لا قيمة للحق الا بما ينبعث في هيئة القانون الناظم لعلاقة المحكومين فيما بينهم، وبينهم وبين الحاكم، أما في الإمارة، بالمعنى الديني، فإن التجسيد يأخذ شكلاً عنيفاً. وإذا كانت غاية الدولة هي الحرية والأمن، فإن غاية الجماعة ـ الإمارة في المنظور الوهابي هي الحق الطبيعي الذي يتنازل عنه المؤمنون والعمل من أجل الجماعة. بكلمات أخرى، تجسّد تنظيمات القاعدة جماعات عابرة للدولة وعليها، أي إن وظيفتها لا تقتصر فقط على تجاوز حدود الدولة، بل هي تسعى الى تحطيمها أيضاً، بكل الوسائل المتاحة.
تأسيساً على التناقض بين الدولة والجماعة، فجّرت تنظيمات القاعدة (داعش والنصرة) وخلائطها المؤتلفة في «الجبهة الاسلامية» النزعات الطائفية، وباتت الرؤية الوهابية للحرب الاهلية في بلاد المسلمين هي المرشد العام لما يجري من نزاعات. وقد أرسيت تصوّرات طائفية لصراعات مسلّحة تدور رحاها في المجال العربي، وأعطيت الصراعات صفة دينية وطائفية، وكأن ثمة تصفية حساب مذهبية بين السنة والشيعة تديرها الوهابية، وترى أنها الفرصة التاريخية التي لا يمكن تعويضها بالنسبة إليها حيث تشعل الحرب وتتفرج عليها وتحصد أرباحها.
في جولة خاطفة على مواقع الجماعات القاعدية على الشبكة العنكبوتية، تتظهّر الوهابية كأيديولوجيا مشرعنة للعنف بكل أشكاله. في فيديو كليب، يظهر أحد كوادر «داعش» من السعوديين لتبرير قتال الجيش العراقي، ويقول بزهو «إننا تناحرنا معهم على لا إله إلا الله»، وهي العبارة المفتاحية للوهابية وافتراقها عن بقية المسلمين السنة والشيعة. ملاحظة أخرى في الشريط المصوّر، ظهور خلفية نشيد بنبرة نجديّة واضحة، فيما ظهر قائد داعشي آخر وهو يهدّد بقطع الرؤوس.
في موقع «منبر التوحيد والجهاد» المتخصّص في نشر أخبار القاعدة بكل فروعها، الذي يحمل شعاراً «قوام الدين بكتاب يهدي وسيف ينصر»، تبدو الوهابية هي العقيدة الدينية لتنظيمات القاعدة بكل فروعها، حيث تستمد جميعها من الوهابية رؤيتها الكونية وتصوّرها الديني في الجهاد. وبمجرد مطالعة خاطفة في أيقونة «سلسلة تصحيح المفاهيم» تبدو العقيدة الوهابية بأركانها نافرة من قبيل: توحيد الألوهية، توحيد الاسماء والصفات، الولاء والبراء... كما تكشف قائمة الكتب المختارة في الموقع عن المرجعية الوهابية التي تستمد منها كتابات شيوخ الجهاد.
ما يلفت أن العنصر السعودي في التنظيمات القاعدية وباقي التشكيلات القاعدية الصغيرة بات مطلوباً ليس لضرورة تمويلية فحسب، بل ولمستلزمات قتالية، وإرشادية، وفقهية. فإلى جانب تزايد أعداد السعوديين وسط فرق الانتحاريين في سوريا، فإن ثمة حضوراً للمشايخ الوهابيين وسط الجماعات القاعدية المتناحرة في سوريا والعراق.
الشيخ عبد الله المحيسني، أحد كبار شيوخ الجهاد في بلاد الشام، قدم من بريدة وسط السعودية والتحق بركب المقاتلين في سوريا، وتنقّل بين الجماعات المسلّحة المرتبطة بشبكة القاعدة. وبعد نشوب القتال فيما بينها، تقدّم في 25 كانون الثاني الجاري بمبادرة عنوانها «مبادرة الأمة». يعدّ المحيسني أحد صقور التحريض على القتال في سوريا، وله خطب في مساجد المملكة تحرّض الشباب على الهجرة إلى دار الرباط في بلاد الشام، وذهب بنفسه للقتال، وكان يستنفر العلماء وطلبة العلم الشرعي للهجرة الى سوريا والقيام بواجب الدعوة إلى هداية السوريين. وكشف في خطبة له في أحد مساجد المملكة عن أن من بين المجاهدين أنفسهم من لا يصلي ولا يعرف أموره دينه، ولا بد من مجيء الدعاة لهدايتهم.
في مبادرته للصلح بين «داعش» و«النصرة» و«الجبهة الاسلامية» وغيرها من تنظيمات القاعدة يقول المحيسني «وقدِ التقيتُ جميع الأطرافِ المتقاتلةِ اليوم، وسمعتُ منهمْ تقارُباً في وُجَهاتِ النظرِ، وإقراراً بوجوبِ التحاكمِ إلى شرعِ الله». ويضيف: «وقد كان مما استبشرنا به ورأيناه علامة خير بإذن الله؛ أن حكيم الأمة: الشيخ المجاهد الدكتور أيمن الظواهري قد أصدر كلمته... يدعو إلى ما عزمنا على الدعوة إليه». وتضمنت بنود المبادرة ما يشير الى العقيدة الوهابية للمجموعات المعنيّة بها، وقال ما نصّه «قامَ إخوانُكم في مركزِ دعاةِ الجهادِ بترشيحِ عشرةِ أسماءٍ من شرعيّيْ الفصائلِ التي اعتزلتْ الفتنةَ، كصقورِ العزِّ والكتيبةِ الخضراءِ وكتائبِ جندِ الأقصى، وغيرِهم وهُمْ جميعاً مجاهدونَ مرضيوُ العقيدةِ فيما نحسبُهم...»، والعقيدة المرضي عنها هنا ليست شيئاً آخر غير الوهابية.
وذكر في البند التاسع أسماء الجماعات القاعدية المتقاتلة والمعنية بالمبادرة وهي: الدولة الإسلامية في العراق والشام - الجبهة الإسلامية - جيش المجاهدين - جبهة ثوار سوريا، جبهة النصرة.
وكان المحيسني قد وجّه نداء في منتصف كانون الثاني الجاري الى «داعش» وعدد من الفصائل، وكان يقول إن القتال الدائر فيما بينها «قتال فتنة» ينبغي اعتزاله والنأي عنه. وقال إنّ «القتال اليوم في الشام بين الفصائل المجاهدة إنما هو قتال فتنة بين المسلمين».
ما يلفت أن «القاعدة» وتحت عناوين أخرى (النصرة وداعش والجبهة الاسلامية... وغيرها) باتت مكوّناً مقبولاً في التداول الاعلامي والديني اليومي. ولم تعد ظاهرة منبوذة أو ناشزة، لذلك يستنفر بعض المشايخ الوهابيين للدفاع عنها. الداعية المثير للجدل محمد العريفي لم يتردد في إعلان دعمه لتنظيم «داعش»، وإن تلطى خلف عناوين أخرى، حين رأى أن حملة الجيش العراقي على مقاتلي التنظيم استهداف للسنة في العراق، وخاصة في الأنبار. وقال في تغريدة له «ما يقع في أنبار العراق من أعظم المصائب». ودعا الى نصرة مقاتلي «داعش» وأيضاً بالتلطي خلف عناوين مخاتلة مثل «أهل السنة، وأهلنا في العراق»، واستعمال مفردات تحريضية من قبيل أن أهل الأنبار يتعرضون للقتل والتشريد والتجويع.
شنّ داوود الشريان، من على قناة «إم بي سي» لمالكها الوليد بن ابراهيم، هجوماً لفظياً مباغتاً على مشايخ الصحوة، وبالاسم مثل سلمان العودة، ومحمد العريفي، ومحسن العواجي. وكان ينطوي موقف الشريان على تهديد بأن هؤلاء المشايخ لن يفلتوا هذه المرة، بعدما أفلتوا من تجربتي أفغانستان والعراق.
في المقابل، أصدرت جمعية «حسم» للحقوق المدنية والسياسية بياناً في 27 كانون الثاني الجاري انتقدت فيه موقف الشريان، وعدته «محاولة تبرئة النظام السعودي من خروج الشباب السعودي للقتال في الخارج»، وحمّلت الجمعية النظام المسؤولية الكبرى، لأنه هو من صاغ التعليم وثقافة المجتمع وفرض عليه «آيديولوجيته المتطرّفة والإقصائية»، وبالتالي «حتى الأشخاص الذين تتهمهم السلطة بالتشدد هم نتاج مدرستها». وأرجعت الجمعية خلاف السلطة مع المشايخ معها «ليس لتشددهم، لكن لأنهم وجهوا تشددهم تجاه السلطة، لا تجاه المجتمع فقط كما أراد النظام».
في الأخير، إذا كان التطرف يتمثّل في شواء الجماجم أو تحويلها الى كرة تتقاذفها الأقدام، كما في فيديو كليب يظهر مقاتلي «داعش»، فإن الاعتدال يكون بحرق أجساد عناصر الأخيرة، كما تفعل «الجبهة الإسلامية» المدعومة تمويلاً وتسليحاً وتدريباً من السعودية.
فؤاد إبراهيم
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد