أجندة الحروب في الشرق الأوسط بين (الكبير) و(الجديد)
الجمل: شهد النظام الدولي عدداً من المتغيرات والتبدلات، التي غيرت في طبيعة هياكله البنيوية، والقيمية والتفاعلية. وبالاستناد إلى معطيات الخبرة التاريخية الخاصة بهذا النظام الدولي نجد أن عملية الانتقال من مرحلة إلى أخرى، لم تكن تتم بشكل سلمي سلس، بل كانت تتم وفقاً لمخاضات عسيرة، تصاحبها الكثير من الأوجاع المؤلمة والباهظة الثمن، ويمكن الإشارة إلى التبدلات التي حدثت في النظام الدولي خلال المئة عام الماضية، على النحو الآتي:
• النقلة الأولى: في مطلع القرن الماضي، كان ترتيب النظام الدولي يتميز بتعددية الأقطاب، وكانت الدول الأكثر قوة وهيمنة على هذا النظام تتمثل في الامبراطورية العثمانية، الامبراطورية البريطانية، الامبراطورية الفرنسية، الامبراطورية النمساوية- الهنغارية، والامبراطورية اليابانية.. وكانت هذه القوى تتقاسم وتتحاصص العالم، بحيث يسيطر كل منها على النطاق الجيوسياسي الخاص بنفوذه الإقليمي وغير الإقليمي الخاص به.. وبسبب احتدام التنافس وتضارب المصالح بين هذه القوى اندلعت الحرب العالمية الأولى، مكبدة المجتمع الإنساني عدداً هائلاً من الخسائر المادية والبشرية، وبعد انتهاء هذه الحرب، تبدل النظام الدولي، إلى نظام جديد يقوم على صيغة منظمة عصبة الأمم باعتبارها الشكل الجديد لتوازن القوى الدولية الذي اختفت منه الامبراطورية العثمانية.
• النقلة الثانية: استمرت صيغة الأمم، حتى الجزء الثاني من حقبة ثلاثينيات القرن الماضي، وعندما تزايدت الاحتقانات في النظام الدولي بسبب التنافس والتزاحم وصراع المصالح بين القوى العالمية التقليدية، والقوى الجديدة الصاعدة، انهارت عصبة الأمم، وانهارت معها صيغة التوافق بين الأقطاب والقوى العالمية التقليدية، وكان طبيعياً أن تندلع الحرب العالمية الثانية في نهاية حقبة الثلاثينيات ويتسع أوار محرقتها في مطلع أربعينيات القرن الماضي.. وبعد أن خسرت المجتمعات الإنسانية عشرات الملايين من البشر، انتقل النظام الدولي إلى صيغة جديدة، هي صيغة الأمم المتحدة، والتي تقوم على حفظ الأمن والسلم الدوليين وفقاً لميثاق الأمم المتحدة، وكان النظام الدولي في هذه المرة يستند على مبدأ توازن القوى بين القطبين الأكبر في العالم، وهما الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة بشكل أدى إلى نشوء ثلاثة كتل عالمية هي: الكتلة الغربية بقيادة أمريكا والكتلة الشرقية بقيادة الاتحاد السوفييتي، ولاحقاً كتلة دول عدم الانحياز.
• النقلة الثالثة: التنافس بين القطبين الكبيرين أدى إلى تصاعد الصراع بين الكتلة الشرقية والكتلة الغربية، وبالذات حول أجندة سباق التسلح والتنمية الاقتصادية، ولما كان هامش الدعم والمساندة والمناورة الدولية كبيراً أمام أمريكا وحلفائها الأثرياء في غرب أوروبا، فقد كان طبيعياً أن لا تقوى الكتلة الشرقية على منافسة الصراع الدولي الذي بدا متكافئاً بعد الحر العالمية الثانية. وأصبح غير متكافئ في النصف الثاني من حقبة ثمانينيات القرن الماضي. وبرغم أن التغيير في هذه المرة لم تصاحبه حرب دولية بين القوى العظمى بسبب امتلاكها لترسانات أسلحة الدمار الشامل بما يكفي لتدمير الكرة الأرضية، إلا أن الكثير من حروب الـ(بروكسي) قد قام بها وكلاء هذه القوى، مثل إسرائيل في حروب الشرق الأوسط، ونظام سبادبري الصومالي في منطقة القرن الافريقي.
• النقلة الرابعة: وبدأت هذه النقلة بتفكك الاتحاد السوفييتي وانهيار الكتلة الشرقية، واندلاع حرب الخليج الأولى، ومن أبرز المعالم التي ميزت هذه النقلة الآتي:
- انتشار الحروب الأهلية والنزاعات الداخلية.
- محاولة القوى الغربية بقيادة أمريكا بناء تحالف قوى بدأ في حرب الخليج الأولى، وماتزال أمريكا تعمل حتى الآن من أجل تماسك وتوسيع هذا التحالف الجديد.
- اتجاه القوى الكبرى نحو السيطرة على الموارد الاستراتيجية العالمية، وبالذات النفط.
- استخدام القوى الكبرى العديد من الوسائط الجديدة في الصراع الدولي، مثل قضايا حقوق الإنسان، الإصلاح الديمقراطي والمجتمع المدني، ومحاربة الإرهاب... وغير ذلك.
- استخدام الاستراتيجيات الجديدة، والتي من أبرزها:
* التوجيه القيمي للأمم المتحدة والمنظمات الدولية وقضايا السياسة الدولية على أساس مبدأ المعايير المزدوجة.
* فرض النظام الاقتصادي الرأسمالي كأسلوب ومنهاج للإصلاح والتغيير الاقتصادي- الاجتماعي.
* تزايد نزعة التدخل في شؤون الدول الأخرى بما يؤدي إلى تقلص وتآكل سيادتها.
حتى الآن لم ينحسم أمر النظام الدولي في مرحلته الجديدة، ومايزال الخلاف بين خبراء النظام الدولي يدور حول طبيعته الجديدة، فالهيمنة على النظام الدولي لم تستطيع أمريكا وحلفاؤها حسم أمرها بعد، وذلك بسبب المقاومة الشديدة بواسطة دول وشعوب العالم الثالث لهذه الهيمنة، كما في حالة العراق، وأفغانستان، ولبنان، وسوريا، وإيران، والسودان، وفلسطين، والصومال.. إضافة إلى مواقف الدول الكبرى الأخرى غير الحليفة لأمريكا مثل روسيا والصين (برغم مواقفهما المتأرجحة ضد السيطرة الأمريكية).
تسيطر نزعة السياسة الخارجية التدخلية، على أجندة المعاملات والتفاعلات الدولية، وحالياً هناك تياران يتصارعان حول موضوع السياسة الخارجية التدخلية، ويمكن تناول ذلك على النحو الآتي:
• المدرسة المثالية: وهي مدرسة تقوم بإعداد النماذج الاستراتيجية للنظام الدولي، بشكل مسبق يستند على تشكيل الواقع الدولي على النحو الذي يخدم المصالح العليا للقوى الكبرى.
• المدرسة الواقعية: وهي مدرسة تهدف إلى التعامل مع الواقع القائم والتكيف مع الأمر الواقع بما يخدم المصالح العليا للقوى الكبرى.
وبإيجاز يمكن القول: إن السباق الفكري الفلسفي، التقليدي، الذي يقوم على الأطروحات الثلاثة: ما قد كان (أي الماضي)، ما هو كائن (أي الحاضر)، ما ينبغي أن يكون عليه (أي المستقبل)، قد أسقطت منه هاتان المدرستان الشق الأول المتمثل في (ما قد كان)، وأصبحتا تتصارعان، بحيث تركز المدرسة المثالية في السياسة الخارجية على اعتبارات ما ينبغي أن يكون المستقبل، وتركز المدرسة الواقعية في السياسة الخارجية على اعتبارات ما هو كائن في الواقع الحالي.
أبرز أطروحات المدرسة المثالية في السياسة الخارجية الدولية، نجدها في وثائق مراكز الدراسات الاستراتيجية الأمريكية، ومن أهمها:
- معهد القرن الأمريكي الجديد.
- معهد واشنطن.
- معهد هدسون.
- مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية المتقدمة.
النماذج الاستراتيجية التي تم إعدادها بواسطة هذه المراكز، تغطي كافة أنحاء العالم، بشكل يهدف إلى صياغة النظام الدولي، وإعادة إنتاجه باستخدام القوة العسكرية والاقتصادية.
كل الدراسات أجمعت على أن الحلقة التي يجب البدء بها هي إنجاز مشروع السيطرة على منطقة الشرق الأوسط، باعتباره المفتاح الرئيسي للسيطرة العالمية، وذلك بسبب الموارد النفطية، والمالية، والموقع الاستراتيجي الذي يتميز به.
طرحت هذه الدراسات مشروع الشرق الأوسط الكبير، بشكل أكثر تحديداً، يتجاوز مفهوم الشرق الأوسط التقليدي الذي طرحته وزارة الحرب البريطانية خلال فترة الحرب العالمية الثانية، وقد قامت هذه المراكز بإعداد خارطة كبيرة للشرق الأوسط الكبير، بحيث تشمل رقعته آسيا الوسطى، ومنطقة الشرق الأدنى، ومنطقة شرق المتوسط وشمال افريقيا والقرن الافريقي.
كذلك قامت وزارة الدفاع الأمريكية بإنشاء القيادة الوسطى الأمريكية في قطر لتكون المسؤولة عن العمليات العسكرية في هذه المنطقة، ومن ثم أصبح الفضاء الجيوسياسي الشرق أوسطي الكبير يتضمن أبعاداً حربية عسكرية جيواستراتيجية.
تتضمن رقعة الشرق الأوسط الكبير عدداً من المسارح الحربية، ويمكن استعراضها على النحو الآتي:
- المسارح الحربية الناشطة: وتشمل فلسطين، العراق، أفغانستان.
- المسارح الحربية تحت التنشيط: وتشمل لبنان، منطقة القرن الافريقي، دارفور بغرب السودانن وجنوب السودان، والصحراء الغربية، والسعودية، وإيران وسوريا.
العمل العسكري الحربي في مسارح الشرق الأوسط الكبير، يتميز بعدد من الخصائص والسمات، أبرزها:
- اعتماد مبدأ العمليات المنخفضة الشدة، القائمة على الوسائط العسكرية الحربية التقليدية.
- انتشار نطاق عمليات التمرد (Insnrgency) وعمليات مكافحة التمرد (Counter Insnrgency).
- هيمنة طابع الحرب اللامتماثلة (Asymetrical Warfare) وهي الحالة التي يواجهها الجيش الأمريكي حالياً في العراق، وأفغانستان، حيث تقف الأسلحة المتطورة للجيش الأمريكي هناك عاجزة عن حسم المعركة في مواجهة حركات المقاومة التي تعتمد على فعالية العنصر البشري.
برغم الهزائم المتكررة التي منيت بها قوات أمريكا وحلفائها في هذه المنطقة إلا أن مراكز صنع واتخاذ القرار (البنتاغون والبيت الأبيض) ترفض الاعتراف بالهزيمة، ومن ثم تحاول مراراً وتكراراً اللجوء لاستخدام استراتيجية الهروب إلى الأمام، وذلك عن طريق المزيد من التصعيد، ويمكن إيضاح ذلك على النحو الآتي:
• تصعيد رأسي: عن طريق زيادة عدد القوات الأمريكية والغربية، وزيادة العتاد العسكري، واللجوء لاستخدام استراتيجية مكافحة التمرد القائمة على استخدام الأطراف المحلية في الصراع ضد المقاومة المحلية، وفي العراق حالياً تستخدم القوات الأمريكية الحركات المسلحة الكردية وبعض المجموعات العراقية للقيام بدور الـ(بروكسي) النشط في عمليات مكافحة التمرد سواء بتقديم المساندة الميدانية العسكرية أو بتقديم المعلومات الاستخبارية، أو بتنفيذ العمليات السرية (Covert Operations) ضد القوى الأخرى، كما في حالة فرق الموت والاغتيالات السرية.
• تصعيد أفقي: عن طريق توسيع مسرح الصراع بفتح وإشعال جبهات الحروب الجديدة، وحالياً، تخطط الإدارة الأمريكية لإشعال الحروب الجديدة الآتية:
- لبنان: أشرفت أجهزة المخابرات الإسرائيلية والغربية على تنفيذ العديد من عمليات الاغتيال السياسي، على النحو الذي يؤدي لتنشيط ديناميكيات الصراع الأهلي والحرب الداخلية في لبنان.
- إيران: وهناك توجهات واضحة من أجل تقويض استقرار إيران، وكانت الخطة تقوم على قيام أمريكا أو إسرائيل بعملية ضرب إيران بأسلحة الدمار الشامل، وبسبب الخلاف حول ذلك، تعمل الإدارة الأمريكية وإسرائيل حالياً على انتهاج ثلاثة مسارات في عملية استهداف إيران.
* استكمال المعلومات الاستخبارية الخاصة بعملية ضرب إيران بأسلحة الدمار الشامل.
* ترتيب المواقف الدولية من أجل فرض العقوبات الدولية الشاملة ضد إيران.
* استخدام القوى السياسية الداخلية من أجل تقويض استقرار إيران، وفي هذا الصدد تم أمس الأول رفع الحظر الذي كانت تفرضه دول الاتحاد الأوروبي وأمريكا على حركة مجاهدي خلق الإيرانية، وحالياً تتم عملية دعم وتأهيل هذه الحركة من أجل تنفيذ العمليات العسكرية داخل إيران.
- سوريا: وبسبب تماسك الجبهة الداخلية السورية، تعمل الإدارة الأمريكية وإسرائيل وفرنسا وبريطانيا، من أجل استهداف سوريا على النحو الآتي:
* استخدام الأزمة اللبنانية كعنصر إدانة وضغط ضد سوريا.
* عزل سوريا عن البيئة الإقليمية العربية، وذلك عن طريق بناء تحالف (المعتدلين) والذي يهدف إلى تجميع الدول العربية الرئيسية من جهة وتغييب سوريا من الجهة الأخرى عن التفاعلات السياسية في المنطقة.
* نقل عدوى الحرب الأهلية اللبنانية المتوقعة إلى سوريا.
* نقل عدوى الحرب الأهلية العراقية الناشطة حالياً إلى سوريا.
نقل عدوى الصراع الفلسطيني- الفلسطيني إلى سوريا.
قيام إسرائيل باستهداف سوريا، وعلى الأغلب في الصيف القادم، وهو أمر يمهد له الإسرائيليون حالياً بالكثير من التصريحات الرسمية التي تتهم سوريا بالتخطيط لمهاجمة إٍسرائيل.
- منطقة القرن الافريقي: استخدام صعود حركة المحاكم الإسلامية للسلطة في الصومال كذريعة لإشعال حرب مزدوجة الطابع: داخلية بين الميليشيات المسلحة، ودولية بين دول القرن الافريقي تنخرط فيها اثيوبيا وجيبوتي، وربما ارتيريا.
- السودان: إشعال حرب أهلية تتضمن تنفيذ كماً هائلاً من المذابح على النحو الذي حدث في رواندا، وذلك في:
* جنوب السودان: يوجد 26 فصيلاً مسلحاً، كل واحد يضم حوالي 20 ألف مسلح على الأقل، وحالياً بدأت الصراعات المسلحة تدور بين هذه الفصائل، وذلك في خطوة تهدف إلى استدراج الجيش السوداني وتقويض اتفاق السلام، إذا اتضح أنه لن يؤدي إلى انفصال جنوب السودان.
* دارفور: وذلك عن طريق فرض التدخل الدولي، المصحوب بتطبيق العقوبات الاقتصادية الدولية ضد السودان، إضافة إلى إشعال النزاعات والمذابح في الإقليم على النحو الذي يستدرج الجيش السوداني لحرب أخرى في دارفور، بحيث تكون القوى العسكرية للسودان مشتتة بين حرب دارفور وحرب جنوب السودان، وكل واحدة من المنطقتين تبلغ مساحتها حوالي 650 ألف كيلومتر مربع ، (كل واحدة تعادل مساحة فرنسا تقريبا).
- السعودية: وهي الحلقة القادمة، ويهدف المخطط على تفجير الخلافات داخل السعودية، عن طريق الضغط على النظام السعودي (قانون محاسبة السعودية مازال مطروحاً في الكونغرس الأمريكي)، وتغذية الخلافات القبلية والمذهبية، على النحو الذي يؤدي إلى صراع داخلي سعودي- سعودي، تقوم بترتيبه والإشراف عليه أمريكا وإسرائيل وبريطانيا، بحيث يؤدي في نهاية الأمر إلى تقسيم السعودية إلى أربعة ممالك (دويلات) صغيرة الحجم.
وأخيراً نقول: إن العامان القادمان سوف يكونان الأكثر خطورة على منطقة الشرق الأوسط الكبير، (لاحظوا: هناك تسمية موازية هي الشرق الأوسط الكبير، والشرق الأوسط الجديد يقصد به منطقة شرق المتوسط فقط، أي الشرق الأوسط الجديد، يمثل واحداً من مكونات الشرق الأوسط الكبير)، وذلك لأن الإدارة الأمريكية الحالية تهدف إلى العمل بقوة من أجل حسم موضوع الهيمنة الامريكية على أساس اعتبارات أن حسم الهيمنة على هذه المنطقة سوف يؤدي إلى نجاح هذه الإدارة والفوز بالانتخابات الرئاسية لدورة جديدة في عام 2008م، وهو ما يسعى إليه حالياً الرئيس الأمريكي جورج بوش.. وكل المحللين في الشؤون الاستراتيجية يقولون: إن جورج بوش ومجموعة المحافظين الجدد يخططون للاستمرار في تنفيذ أجندة مشروع القرن الأمريكي الجديد، وبالذات المخططات التي رصدها تقرير إعادة بناء الدفاعات الأمريكية، بالتركيز على منطقة الشرق الأوسط.
الجمل: قسم الدراسات والترجمة
إضافة تعليق جديد