اللاجئون وأوروبا: مفاوض جديد يقتحم «جنيف السوري»
لن يرسل سيلُ اللاجئين السوريين مندوبين عنهم إلى مباحثات «جنيف»، كما لن يقيموا معرضاً حيّاً خارج مقر انعقاده، على ضفاف بحيرة ليمان، مجسدين قسوة تشريد الحرب ملحقاً بالصدّ الأوروبي. لكن سخرية المفارقات السوداء جعلت قضيتهم العامل «رقم واحد» الدافع لاحتواء الحرب بعملية انتقال سياسي، وفق آخر تصنيفات المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا. ليس رأفة بهم، بل لأن قضيتهم صارت «خطراً» على الاتحاد الأوروبي خلق زخماً لحالة «العجالة» لتدشين العملية الانتقالية، بعدما «أيقظ» زعماء أوروبا وأميركا.
هكذا سيكون الفضل الأول لهم، لضغط المسير الإنساني المهيب الرافض تحويله وقوداً للحرب، إذا خرجت سوريا جديدة، مع انتخابات رئاسية حاسمة بحلول أيلول 2017، بحسب موقّت «العد العكسي» الذي أعلنه مبعوث الأمم المتحدة بإصرار لافت برره بالتفصيل.
مسؤولون أوروبيون أكدوا وجود «فرصة أفضل» لإطلاق مفاوضات حول «جوهر» الانتقال السياسي. حينما سألنا مسؤولاً أوروبياً رفيع المستوى عن تلك التقديرات، أبدى تأييده، معتبراً أن إنجاز الهدنة كان «نقطة تحول»؛ متحدثاً عن جولة جنيف الحالية، قال بكلمات منتقاة: «آمل أن هناك فرصة أفضل الآن، أعتقد أن التقدم الذي رأيناه في الأسابيع الماضية للهدنة، رغم بعض الخروقات، يجعله صامداً»، قبل أن يضيف: «أعتقد أنه بإمكاننا اعتبار ذلك بمثابة نقطة تحول، وهذا يعطي أملاً لفرصة أفضل كي تنطلق العملية الانتقالية».
مسؤول أوروبي آخر، من خارجية دولة ضمن النواة الصلبة لداعمي المعارضة، لفت أيضاً إلى أهمية أن «الهدنة صامدة». قال إن ذلك عامل مؤثر، قبل أن يضيف: «لا أعرف ما الذي سيأتي به النظام، إن كانوا سينخرطون أو كيف، لكني آمل أننا سننتقل الآن إلى محادثات حول الجوهر» في العملية الانتقالية.
المبعوث الدولي بات يستخدم مثالَ تحقيق «الهدنة» للرد على كل من يعتبر أن إعلاناته الطموحة غير واقعية. خلال المقابلة اللافتة له مع صحيفة «لو تان» السويسرية، عشية إطلاق جولة جنيف، قال إنه «حينما أعلنت جهود العمل على الهدنة، قيل لي حينها إن ذلك سيتطلب التفاوض عليها ستة أشهر، لإقناع 96 مجموعة معارضة أيدتها وأيضاً تسع دول منخرطة مباشرة في القتال».
إنجاز الهدنة وفعاليتها فاجآ كثيرين. حتى الآن، هناك مكنة معتبرة من ديبلوماسيين ومستشارين عسكريين يلاحقون تطبيقها على مدار الساعة: روسيا من مركز التنسيق في قاعدتها الجوية على الساحل السوري، وبالاتصالات مع الأميركيين، فيما واشنطن تشتغل عليها من العاصمة الأميركية بالتواصل الدائم مع فريق العمل الدولي المشرف عليها من جنيف.
حينما سئل دي ميستورا عن دواعي تفاؤله، مع إعلانه بدء العد العكسي من اليوم لإنهاء العملية الانتقالية بغضون 18 شهراً، قال إن قضية اللاجئين باتت العامل الدولي الأكثر ضغطاً لتطويق الحرب. قال رداً على المشككين إن «هناك إحساساً جديداً بضرورة العجالة»، موضحاً أن «السياق اليوم مختلف جداً، هناك عناصر عدة قامت بتسريع وعي المجتمع الدولي، أولاً هناك أزمة اللاجئين، لقد أيقظت القادة الأوروبيين وأيضاً الولايات المتحدة»، قبل أن يستطرد: «التدخل الروسي أيضاً غيّر المعادلة، وأخيراً هناك داعش المستمر في التقدم والقيام بهجمات في باريس والولايات المتحدة وكندا».
العنوان لقضية اللاجئين الذي تصدره أوروبا هو أنها «أسوأ أزمة لاجئين منذ الحرب العالمية الثانية». التدفقات جعلت الانقسامات الأوروبية والأزمة داخل التكتل، أكثر وضوحاً وإنتاجاً للمخاطر على المشروع الأوروبي. اليمين المتطرف يستخدم «اللاجئين» عنواناً رئيسياً، مواصلاً تحقيق مكاسب انتخابية. بعض أحزابه يمكنه المنافسة فعلياً على السلطة الآن في دول عديدة، ليس آخرها النمسا والدنمارك.
هذه الأحزاب معارضةٌ للوحدة الأوروبية، وترفع شعارات استعادة قوة الدولة الوطنية. حكومات اليمين الوسطي، وحتى اليسار الوسطي، باتت تدافع عن تشددها حيال اللاجئين بالقول إنها مضطرة لمواجهة المدّ اليميني المتطرف، بعدما بات يسرق الناخبين، على اليمين والشمال، بخطاب تعصبي قومي. ألمانيا باتت المتأثر الأكبر، لكونها وجهة اللجوء الرئيسية، فيما مستشارتها أنجيلا ميركل تكافح لاحتواء مخاطر تهدد المشروع الأوروبي، بكل ما يعنيه ذلك من مصالح ألمانية مباشرة، قبل وبعد ضرره على شعبيتها وحزبها اليميني الوسطي مع عائلته السياسية على امتداد دول التكتّل.
الأزمة السياسية التي تعيشها أوروبا، مع تداعيات أزمتها المالية ثم تعريتها بفعل تدفقات اللاجئين، جعلت منطقة «شنغن» للتنقل الحر مهددة «بالانهيار» وفق الإعلانات الأوروبية المتكررة. ثماني دول أعادت فرض الرقابة الحدودية، مع أضرار متلاحقة للاقتصاد الأكبر في العالم، قدرتها المفوضية الأوروبية بحوالي 18 مليار يورو سنوياً هي «الخسائر المباشرة». لذلك وضعت بروكسل «العودة إلى شنغن»، بحلول نهاية العام، عنواناً رئيسياً للمرحلة الجديدة في مواجهة تدفقات اللاجئين.
مع جسامة تلك «المخاطر»، لكنها ليست كل شيء. بريطانيا دخلت في دوامة المعنيين مباشرة بسيل اللجوء، الأمر الذي وضع احتواء الحرب السورية للمرة الأولى على أجندة حكومتها. ستشهد بريطانيا أواخر حزيران استفتاء مصيرياً، حول بقائها أو خروجها من الاتحاد الأوروبي.
تدفقات اللجوء باتت عاملاً مهماً في هذا المفترق الأهم لتاريخها الحديث. رئيس الحكومة البريطانية ديفيد كاميرون حصل بعد مفاوضات على «موقع خاص» لدولته داخل العائلة الأوروبية، منطلقاً في حملة تدعو مواطنيه للتصويت من أجل بقائها في التكتل الموحد. لذلك، فالمصلحة المباشرة له ألا يتعرض التكتل لمزيد من الضرر والانقسامات، خصوصاً ليس بفعل قضية اللاجئين المعروف تأثيرها النفسي المعتبر على المزاج الشعبي البريطاني.
حساسية القضية أكدها ديبلوماسي أوروبي، مجال عمله على احتكاك مباشر بها. قال إن «احتواء أزمة اللاجئين باتت مصلحة مباشرة للحكومة البريطانية»، قبل أن يضيف: «آخر ما يريده كاميرون هو استمرار تدهور الأزمة لتصير صورها مهيمنة حينها على الاستفتاء».
مسؤول بريطاني آخر، مقرب من قيادة الحملة الداعية للخروج، اعتبر أن من مصلحتهم تفاقم القضية. قال: «أعرف أن هذا غير لطيف، وربما ليس إنسانياً، لكن مزيداً من التدهور والمعاناة سيقدم خدمة مهمة لحملتنا»، قبل أن يستدرك أن «كاميرون ينخرط بقوة في دعم حل أوروبي، لكنهم لن يستطيعوا فعل ذلك سريعاً».
واشنطن بدورها تضع ذلك في الاعتبار. تريد بقاء بريطانيا «قوية داخل اتحاد أوروبي قوي»، كما قال رئيسها باراك أوباما. الرجل سيعرّج على لندن، أواخر نيسان المقبل، خصيصاً لدعم حملة البقاء داخل الاتحاد. الحلف «الأطلسي» نبّه أيضاً إلى «التهديد» الذي تواجهه أوروبا، لدرجة اعتبار قائد قواته في أوروبا، الجنرال الأميركي فيليب بريدلوف، أن روسيا ودمشق تستخدمان ورقة اللاجئين «بشكل ممنهج» من أجل «زعزعة» أوروبا و«كسر عزيمتها».
لكن دخول «اللاجئين» كمفاوض رئيسي في جنيف، يفرض على المصلحة الأوروبية مَهامَّ ليست قليلة، على رأسها العمل مع واشنطن على إقناع الطرف المعارض بالدخول في مرحلة انتقالية، والتعايش مع وجود الرئيس السوري بشار الأسد لاعباً أساسياً فيها.
الرياض وأنقرة تقفان خلف إعلان الطرف المعارض أن المرحلة الانتقالية تبدأ مع رحيل الأسد. هذا الموقف يخالف بيان الأمر الواقع الذي أعلنه دي ميستورا بأن المرحلة بدأت، عملياً، مع الأسد. لكن قبل ذلك، تواصل وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغيريني، منذ أشهر، دعوة المعارضة للتعايش مع واقع وجود الأسد، مع العمل على تغييره خلال انتهاء العملية الانتقالية. قالت في آخر نسخة من هذا الموقف مؤخراً إن دور «مجموعة الاتصال» الدولية «ليس خلق أو دعم شروط مسبقة، لأي من الأطراف، بل خلق الشروط لبدء الانتقال ودعمه»، معتبرة أنه رغم تكرار المطالبة بـ «رحيل الأسد» لكن «لا يزال الأسد هناك. دورنا ليس إعلان موقف، بل خلق الشروط لبدء عملية يمكنها الوصول للنقطة التي تحقق الهدف الذي لدينا».
يلخص ديبلوماسي أوروبي صعوبة المهمة الأوروبية، بإقناع المعارضة، بالقول إن «المعارضة تعتقد أنها ما ان تقبل بالمشاركة في حكومة مع الأسد فستفقد زخمها»، موضحاً أنه «حينها ستصير طموحات إسقاط نظام الأسد من التاريخ، إنهم يخشون الانجرار من تنازل إلى آخر. يريدون ضمانات، ويقولون إذا كان الأسد لم يرحل سابقاً، فما الذي سيضمن أنه سيفعل ذلك لاحقاً».
الوعود التي تتلقاها المعارضة هي أن هذا «التعايش» سيكون لفترة محدودة، رغم أنه لا اتفاق نهائيا على كيفية نهايتها. دي ميستورا اعتبر أن الانتخابات التي أقرها مجلس الأمن بعد 18 شهراً «ستعيّن ليس فقط البرلمان، بل أيضاً الرئيس المستقبلي لسوريا». حتى لو أنجزت الانتخابات، بعد صياغة شكل الحكم في الدولة، فذلك لن يعني إلا احتواءً للصراع. فالمثال الناجح لدي ميستورا على «واقعية» الإطار الزمني هو ما حققه سابقاً: «لقد قمت سابقاً (بإنجاز مهمة) إجراء انتخابات في العراق وأفغانستان» الدولتين اللتين تعيشان أي شيء إلا الاستقرار.
لكن تطويق الحرب السورية، حتى بقياس «الإنجاز» العراقي والأفغاني، مطلب أوروبي أساسي، نظراً لمخاطر «قضية اللاجئين»، كما يعلن المبعوث الدولي. حينما سئل عن «الخطة باء»، في حال انهيار العملية السياسية السورية، ردّ بالقول: «هناك فوق كل شيء الخطة ألف وهي المفاوضات، إذا كانت ستنهار، فالبديل سيكون العودة للحرب. هل هذه رغبة السوريين والشرق الأوسط وأوروبا؟ (الإجابة هي) لا».
وسيم إبراهيم
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد