الصراع على الهوية بين الدين والقومية
1
ينقسم العالم إلى جماعات متمايزة ومتصارعة، ومنذ القديم بحث المفكرون في ماهية الجماعات الإنسانية والأساطير المؤسسة لهويتها، حيث قسم أفلاطون العالم إلى يونانيين وبربر، بينما قسم كهنة الديانات الإبراهيمية العالم إلى مؤمنين وكافرين، أما الشيوعيين فقسموا الناس إلى كادحين وبرجوازيين. النظرية القومية الفرنسية قالت إن مشيئة العيش المشترك هي ما يشكل الهوية القومية. بينما قالت المدرسة الألمانية بوحدة اللغة والجنس. الفيلسوف "غوستاف لوبون" قال بنظرية العرق التاريخي، وهي الصفات التي تشترك فيها مجموعة من البشر في منطقة جغرافية محددة. الفاشيون مجدوا المبادئ الوطنية وقدسوها واعتبروا الزعيم نواتها الصلبة ومصدر السلطات. أما القوميون العرب فقد دمجوا بين كل مقومات هذه النظريات: اللغة والجنس والمشيئة وتقديس الوطن والزعيم، وبعضهم أضاف إليها الدين. وفي عام 1983 قام عالم إيرلندي اسمه بنديكت أندرسون بتفكيك ونقض النظريات القومية القديمة في كتابه "الجماعات المتخيلة.. تأملات في أصل القومية وانتشارها" ، ورأى أنه من الأسهل أن نتعامل مع القومية على أنها شيء من قبيل القرابة أو الدين، وليس الليبرالية والفاشية. وقد اعترف في مقدمة كتابه أن الأمة، والهوية القومية، والقومية أثبتت جميعها أنها عصية على التعريف ناهيك عن التحليل، حتى أنه عرّف الأمة بأنها: "جماعة سياسية متخيلة"، متفقا في ذلك مع العالم اللغوي الإنكليزي هيوسيتون واطسون حيث يقول: أنه من غير الممكن تدبير أي تعريف علمي للأمة مع أن الظاهرة موجودة ولاتزال . وقد اعتبر أندرسون أن كل ثورة نجحت منذ الحرب العالمية الثانية، عرفت نفسها بمصطلحات قومية، وقال أنه حتى حروب الدول الماركسية ضد بعضها تحمل بعدا قوميا، كما في حالة الحرب بين جمهورية الصين الشعبية وجمهورية فيتنام الاشتراكية، حيث وطدت أركانها في فضاء إقليمي واجتماعي موروث من الماضي قبل الثوري. رغم أن الماركسيين في أدبياتهم يناهضون القومية باعتبارها من بقايا ثقافة البرجوازية. وعندما تداعى الإتحاد السوفياتي (بعد صدور كتاب بنديكيت) عادت روسيا إلى قوميتها وكأن الإتحاد السوفياتي لم يكن!
ويرجع بنديكيت ظهور عصر القوميات إلى اختراع الطباعة وبداية الثورة المعرفية في أوروبا والعالم، حيث كانت أوروبا الكنسية تكتب باللاتينية، ثم انتقلت للكتابة بلغاتها القومية (الألمانية والفرنسية والإيطالية) بعد الثورة البروتستانتية على الكنيسة، حيث بدأت الشعوب تبحث عن ماهيتها التي تجمع بين أفرادها وتميزها عن غيرها.
2
تعرّف العصبية على أنها نظام مغلق يميل إلى التكرار وإلى إعادة إنتاج ذاته كحالة مثالية يتم رفعها إلى مرتبة الفخر. ولقد كانت العصبيات تشكل جزءاً من قوة الأمم القديمة، غير أنها غدت عائقا أمامها في أنظمة العصر الحديث بعدما امتلك الفرد حرية تمثيل نفسه من دون اعتبار لانتماءاته الدينية والقومية والعائلية، إذ ساوت النظم الديمقراطية بين جميع رعاياها في الحقوق والواجبات، وحلّت المؤسسة الوطنية مكان القبيلة في الحماية والرعاية، ولكن التجاذب مازال قائما في بلدان الشرق الأوسط بين العصبيات المحلية الضيقة والهوية القومية الجامعة. ولطالما شبهت تعدد عصبياتنا المكونة لمجتمعاتنا الشرقية بطبقات البصلة كلما نزعت طبقة تظهر لك طبقة أخرى تزيد من دموع عينيك.. ولطالما استخدمت مجتمع دمشق القديمة داخل السور كوسيلة إيضاح لتراكم عصبيات الأمم: منذ مجيء الآراميين في القرن الثاني عشر قبل الميلاد، ومن تلاهم من وافدين وغزاة، يهود وآشوريين، ثم فراعنة وبابليين، ثم يونانيين فأنباط ففرس فرومان فعرب مسلمين، فحمدانيين فمماليك وأيوبيين ثم أخيرا العثمانيين. وكان كل غازٍ يُقطع عسكره أراضي الضياع المحيطة بدمشق، فيعملون بالزراعة ويموِّنون المدينة بالغلال أوقات السلم ويدافعون عنها وقت الحرب، بينما يقيم أمراؤهم وتجارهم وكهنتهم وخدمهم داخل السور بآلهتهم و قومياتهم وعصبياتهم المتنوعة، حيث نجد في كل حارة سوق متخصص بنوع من التجارة أو الحرفة تأخذ العائلات الدمشقية اسمها منه كآل القطان وحبوباتي وخضري وكزبري وبقدونس وصايغ ونحاس وجليلاتي وبغجاتي وكعيكاتي ومخللاتي وحلاق ولحام وصابوني وعطري، لتنسج هذه الأسواق مع حركة الأموال فيها شبكة مصالح بين المجموعات العرقية والدينية وتوازن علاقاتهم الاجتماعية، بحيث تكونت عصبية جغرافية اقتصادية جامعة لهم هي العصبية الدمشقية الأرستقراطية التي تصنف كل من هم خارج السور كفلاحين أدنى منزلة منهم.
إذن كيف نحل مشكلة تداخل وتنافر العصبيات التاريخية والجغرافية والإثنية في المنطقة العربية؟ كيف نحرر الهوية من عصبياتها السلفية كي تتلاءم مع المجتمع الراهن؟ وهل العروبة مجرد عصبية عرقية أم هوية ثقافية، وهل تتعارض الهوية الوطنية مع القومية؟ ماهي حاجتنا إلى الهوية، وهل هي تنتسب لماضينا فقط أم أنها تمتد أيضا نحو مستقبلنا؟
3
ينشأ سؤال الأنا والآخر ويتعمق خلال رحلة البحث عن الهوية، فهي البداية التي تعيدنا من النهاية، وهي الباطنة والظاهرة، موجودة ولكنها غير محسوسة، متغيرة في الزمان وثابتة في اللغة والمكان، كما لو أنها تأخذ صفاتها من الإله المتعالي حيث يُعرِّف الجرجاني الهُوِيَّةَ بأنها: الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النُّواة على الشجرة في الغيب المطلق. أما المعْجم الوسيط فيعرف الهُوِيَّة بأنها: حقيقة الشيء أو الشخص التي تميزه عن غيره. وهناك معنى آخر للهويَّة: البطاقة الشَّخصية، وتدعى بطاقة الهُويَّة، يثبتُ فيها اسمُ الشَّخص وجنسيتهُ ومولدهُ وعمله. أما قاموس أكسفورد فيحدد الهوية بوصفها: حالة الكينونة المتطابقة بإحكام، والمتماثلة إلى حدِّ التطابق التام أو التشابه المطلق. بينما يعرف معجم روبير الهوية باعتبارها: الميزة الثابتة في الذات. وتركز هذه التعريفات على ماهية الاستمرارية والتطابق والمماثلة فتصبح الهوية هي مجموعة من الميزات الثابتة والمكونة من خصائص الشيء أو الشخص التي تشتمل على الصفات الجوهرية الثابتة المميزة له والتي تمنحه التفرد والخصوصية، وتقود إدراكه لذاته كموضوع في إطار علاقاته مع الآخر.
سؤال: إذا غادرنا أرضنا العربية وعشنا في بلاد أجنبية وتكلمنا بلغة غير عربية، هل نفقد هويتنا؟ الجواب يكمن في سؤال: هل فقدت مجموعات اليابانيين والصينيين والهنود الحمر والزنوج والعرب واليهود والمسلمين في الولايات المتحدة هويتها بعد تأمركها؟ إن الانتقال اللغوي والجغرافي لا يلغي جوهر الهوية وإنما يضيف إليها. فأنت تفكر بالعربية حتى عندما تتكلم بلغات أجنبية وكذلك المستشرق الأمريكي أو البريطاني يفكر بالإنكليزية فيما هو يقرأ المخطوطات العربية، "إذ يمكن للثقافة نفسها أن تجيّر بشكل مختلف في الإستراتيجيات المختلفة لاكتساب الهوية" حسب الفيلسوف الفرنسي رولان بارت، فبينما الأمريكي يفكر بخط مستقيم مباشر نرى العربي يفكر بطريقة دائرية غير مباشرة. ذلك أن مكونات الهوية تلتصق بالجينوم ولا يمكن للمرء الانفكاك عنها حتى لو رغب بذلك. إنه شيء يشبه الرغبة بالعودة إلى النبع الأساسي عند سمك السلمون حتى لو كان فيها هلاكه. وقريب من ذلك ما قاله الباحث المغربي عزيز مشواط: "في البحث عن الهوية تطرح مشكلة التيه عن الموطن الأصلي والرغبة في العودة مهما كلف الأمر. حيث يُختزل المشهد بسؤال وجودي حول هذه الرغبة الجامحة في العودة إلى الأصل؟"
أما المفكر التونسي عبد السلام المَسَدِّي فيرى في كتابه سوسيولوجية اللغة والهوية: "إن من أخطر القضايا الفكرية وأدق الأبواب الحضارية مسألة الهوية، فهي تمتد على سطح الأحداث أفقياً وتغور في أعماق اللاوعي عمودياً، سواء على مستوى الفرد أو المجتمع. يتناولها المؤرخون لأنها عمود من أعمدة بحثهم في علاقة الأحداث والوقائع بصانعيها ومستقبليها، ويعالجها علماء الاجتماع لأنها مصدر لفهم العلاقة بين الظواهر المادية في الاجتماع الإنساني والظواهر المعنوية، ويتطرق إليها علماء الإناسة الأنثربولوجيون لأنها تشكل مركز الدائرة لكل محيط ثقافي، وهي بمثابة العمود الفقري في كل منظومة رمزية تتشكل بها الأعراف كما في مراسم الفرح أو نواميس الموت أو طقوس الزواج أو ترتيبات الميراث. كما لا يغفل علماء السياسة عن مسألة الهوية مادامت تشكل أعظم حوافز الصراع أو السلم بين المجموعات البشرية، ولا يستغني عنها علماء النفس وعلماء اللغة وعلماء الجمال لتفسير آليات الإبداع وأدوات التلقي".
4
يبدأ سؤال الهوية من وعي الفرد لذاته ومدى تشابهه مع المجتمع الذي يعيش فيه، حيث يدرك الأفراد عضويتهم في نادي الجماعة عندما يلاحظون أوجه التشابه بينهم وبين الآخرين، بينما حجم الاختلافات هو ما يحدد مدى الانتماء فيكون قوياً كلما تضاءلت الاختلافات والعكس صحيح. لهذا يجب إضعاف العصبيات الفرعية لصالح هوية أشمل جامعة لها يأخذ فيها الفرد قيمته من عمله وفائدته لأمته.
ومن معانى الأمة في العربية: الوالدة، والجيل، والرجل الجامع لخصال الخير، وقد بدأت الأمة العربية كنمو طبيعي وعفوي لقبائل الجزيرة العربية. ويصف كارل بروكمان العرب في كتابه تاريخ الشعوب الإسلامية: "والبدوي كائن فردي النزعة مفرط الأنانية قبل كل شيء. والجميع متساوون ضمن إطار القبيلة في الحقوق والواجبات التي تنبثق عن إطار العصبية الدموية. فالبدوي ملزم بأن ينصر أخاه في الملمات وليس له أن يتساءل إن كان ظالماً أو مظلوماً، ولا شك أن هذا الواجب يقع أولاً على عاتق العشيرة. والعشائر أو القبائل ترتضي لزعامتها رجالاً استطاعوا بسجاياهم وكفاءتهم أن ينتزعوا اعتراف الناس بتقدمهم عن رضا وطيب نفس. وليس لهؤلاء الزعماء حقوق فعلية على الإطلاق أما واجباتهم فهي كبيرة متعددة. لكن مهمتهم الرئيسة الحفاظ على وحدة القبيلة. والخلافات التي تنشب بين أعضاء القبيلة على ملكية شيء تسوّى في المجالس اليومية. أما حين ينشب الخلاف بين أفراد ينتسبون إلى قبائل متعددة فيلجأ المختصمون إلى رجل مشهود له بالتعقل والحكمة، أو إلى امرأة تمت لها هاتان الميزتان. وفي المدن كانت العشائر المختلفة كما كان البدو في خيامهم تعيش عيشة الحرية والاستقلال فلا تقر بالطاعة لأحد. أما في الشمال في بادية الشام فقد خضع العرب لتيارات السياسة العالمية في البتراء وتدمر".
وقد تمددت العروبة وتوسعت في بلدان الشرق الأوسط بالكلمة والسيف، حتى بات العرب عربان: عاربة ومستعربة. وانتقلت من عروبة إثنية بدوية إلى عروبة ثقافية مدنية بعدما مرت عبر فلتر دمشق البيزنطية الهيللينية وانتشرت في أنحاء العالم. ولم تستطع كل الأمم الغازية فيما بعد، منذ غزو المغول إلى نهاية الاحتلال العثماني، أن تلغي دمغة الهوية العربية. غير أن تسييس العروبة والإسلام منذ منتصف القرن العشرين أضرا بهما وكانا وبالاً على حداثة ووحدة العرب المسلمين.. فقبل خمسة وسبعين عاماً تبنى البعثيون والناصريون في سورية والعراق ومصر العروبة كقومية سياسية وقالوا: أن اللغة والتراث والمشيئة المشتركة هو ما يشكل هويتهم، بينما ربط الإسلاميون هويتهم برب المذهب المناهض لغيره فاتحين باب الصراع بين إله الشيعة وإله السنة وإله القوميين العلمانيين، ولم يتمكن الفريقان الديني والقومي بعد من ترتيب الماضي وتصنيفه ضمن أدراجه المناسبة، وظل الماضي موجهاً للحاضر كما لو أن الزمن العربي جامد لا يتحرك...
واليوم بعد فشل القوميين والإسلاميين في تكوين دولة وأمة عزيزة منيعة بتنا نسمع من كثير من الناس في سورية ومصر وليبيا والمغرب جملة "لسنا عرباً"، ثم يردفون بأنهم سريان وفراعنة وأمازيغ على الرغم من مرور 1400 سنة على الحكم العربي في هذه البلدان وتبني هذه الشعوب للغة والثقافة العربية بدلاً من لغاتها وثقافاتها، وهذا أمر يستوجب البحث لفهم أسباب رفض الهوية العربية حتى بين بعض العرب ؟!
يعلل المفكر اللبناني صبحي غندور الأمر: "بأن العروبة هي في الجانب السياسي ما زالت مشروعاً قيد التنفيذ، وإن كانت العروبة قائمةً ومحققّة في الجانب الثقافي على مرّ القرونٍ. وهذا الأمر هو الذي سبّب الخلط الخاطئ بين العروبة كهويّة ثقافية مشتركة بين كلّ العرب، وبين الممارسات السياسية باسم العروبة، والتي كان بعضها سلبياً، فجرى رفض ما هو ثقافي مشترك بسبب الخلافات السياسية أو لبعض الممارسات السيّئة باسم القومية العربية".
وقد يكون الخلل الأساسي في أن كل العصبيات المتوارثة ناقصة وتم استكمالها بعصبيات أخرى نظرا لعدم تشكل المؤسسة الوطنية المحايدة في البلدان العربية، ومرد ذلك حسب رأي المفكر اللبناني مصطفى حجازي في كتابه الإنسان المهدور: "لأن العرب لازالوا يعيشون في ظل تشابك الأزمنة ما بين قبلي وحديث، وما بين النسيج العصبي وقناع الحداثة. هناك نظم متقدمة في المعلومات والتعامل، وهناك هياكل تنظيمية إدارية واقتصادية ومجتمعية توحي بالعبور إلى الحداثة، إلا أن النظرة المتفحصة تبين أن وراء هذه النظم العلنية الظاهرة نظماً تقليدية هي التي تمثل القوى الفاعلة والمحركة في مختلف مجالات الحياة والنشاط المجتمعي. هناك حالة من التداخل الفريد ما بين المستويين، حيث ينادي المسؤولون بحكم المؤسسات والقانون ونظم الإدارة الحديثة، إلا أنهم يتصرفون انطلاقاً من مرجعية العصبيات التقليدية، وهو ما جعل الإدارة العربية تعيش حالة من الازدواجية الفعلية ما بين الظاهر الرسمي والخفي الفعلي. يتساوى في ذلك الأحزاب والجمعيات الأهلية والمنظمات غير الحكومية، ويشكل لبنان الذي ينهل من مظاهر الحداثة حالة بليغة الدلالة على تحكم العصبيات وفشل الدولة".
5
يقول بنديكت أندرسون أن ظهور القومية في القرن الثامن عشر نتيجة لتآكل اليقينيات الدينية وهو يلخص الهوية الدينية: بأن المخيال القديم للأديان كان يعتبر أن العالم مقترب من نهايته الأمر الذي يمنعه من التفكير في تطوير نظامه القائم. فهو مرتبط بالماضي ويعيش في الحاضر ولا يخطط للمستقبل، بينما جاء التنوير ليزيل هذا النوع من التفكير وهو ما أدى إلى تطور فكري تجاوز الأنظمة القائمة. أما بخصوص الهوية القومية فيرى: إن القومية لا ينبغي أن تُفهم عبر ربطها بالأيديولوجيات السياسية المتبناة بوعي بل عبر ربطها بالمنظومات الثقافية الكبرى التي سبقتها والتي ظهرت للوجود انطلاقا منها وضدها في آن معا".
في الحالة العربية ترتبط مساعي البحث عن الهوية الموحدة بالدين، مما يحيل الهوية إلى الغيب بدلاً من الزمن الإنساني. كما تختلف الهوية الإسلامية باختلاف الأمكنة مما يؤدي إلى نفي وجود نموذج هوياتي ديني واحد. وقد انعكس ذلك على صراع الأنظمة والحركات الدينية مع الأنظمة والحركات القومية العلمانية مما عرقل تقدمها منذ خمسينات القرن الماضي، حيث ترى الجماعات الدينية أن العروبة تنضوي داخل الهوية الإسلامية، بينما يرى القوميون أن العروبة حاضنة للإسلام وللمسيحية بحيث أنهم أعادوا الاعتبار لثقافة العصر الجاهلي إذ يقول أحد مؤسسي البعث المفكر زكي الأرسوزي: "إن شأننا كأمة لم يبدأ مع رسالة محمد بن عبد الله". وقد أدى هذا الصراع إلى إضعاف الهوية العربية لصالح العصبيات المذهبية والإثنية في معظم المجتمعات الناطقة بالعربية، حيث اختلف شرح معنى الأمة بين الإسلاميين والقوميين: هل هي أمة المسلمين أم الأمة العربية، رغم أن مايدعى أمة المسلمين يتكلمون أكثر من مئة لغة ! وقد تراكم هذا العداء بحيث أدى إلى انفجارات دينية وعرقية في الدول القومية بدعم وتمويل من الممالك والمشيخات الدينية ظناً منها أنها قد تهيمن على البلدان العلمانية وتطوٍّعها تحت غطاء الدين السياسي، رغم أنهم لا يمتلكون نموذجاً محدداً للسلطة أو المجتمع، ويفتقرون إلى أدنى مقومات الديمقراطية في الحكم، لهذا مازالوا يفشلون في تحقيق غاياتهم. ذلك أن شعوب الشمال العربي قد قطعت شوطاً في العلمنة والحداثة لا يمكن تراجعها عنه حتى لو أراد بعض حكامها. فالثقافة الدينية متخيلة ومكوناتها المذهبية متنافرة ومتصارعة مع نفسها ومع الآخر الذي "لا يعبد ما نعبد". وبالتالي فهي عصبية غير إيجابية بين مكونات الهوية القومية. وقد انتقل الصراع إلى المحتوى الرقمي حيث تنشر الجماعات الإسلاموية الكثير من المحتوى المتخلف عدا التزوير التاريخي والأكاذيب المناهضة للقوميين والعلمانيين.
غير أن القوميين كما الإسلاميين أيضا وقعوا في الحفرة الأصولية وهم مازالوا ينطلقون من الماضي المجيد لتأكيد هويتهم والتفاخر بها إلى درجة التضخم ، وقد أبدوا تعنتاً أمام الثقافات الغربية تحت عنوان مواجهة الغزو الثقافي والخطر الإمبريالي دون أن يفصلوا بين العدو ومكونات الحداثة التي أعطته تفوقه، إذ لم يتخلصوا بعد من ذكرى انكسار الأنا العربي المسلم أمام الآخر الغربي منذ حملة نابليون قبل مئتي عام والتي فككت صورة الأنا المتفوقة "لخير أمة أخرجت للناس" لينفتح المجال على فجيعة التخلف ونشوء أسئلة الأنا المتخلف والآخر المتقدم. الأمر الذي يحيلنا إلى سؤال جورج قرم في حديثه عن "جاذبية الماضي": كيف يمكننا بناء المستقبل والعيون شاخصة نحو الماضي؟
صحيح أن القوميين والإسلاميين أكثر الفئات تمسكاً بالهوية وأكثرها تحذيراً من أخطار الغرب، غير أنهما ما زالا يستعينان بالماضي السلفي كدرع حماية ووقاية دون أن يتنبهوا أن الهوية تمتد في الزمان نحو المستقبل، مما جعل عداءهما للخطر الغربي سطحياً وخطابياً، بل وانتهى الكثير منهم إلى التعاون مع الغرب ضد بني جنسهم والأمثلة كثيرة...
ما تقدم كان دافعا لمثقفي جامعة الدول العربية لإيجاد تعريف للعربي متطور ومرن يتحاشى العرق والدين والتاريخ: "العربي هو الشخص الذي لغته هي اللغة العربية، ويعيش في بلد ناطق بالعربية، وله نفس تطلعات الشعوب الناطقة بالعربية"، ليشمل بذلك كل القوميات والأديان والمذاهب في البلاد العربية، حيث أعطت للعروبة بعداً ثقافياً جامعاً لها. فالهوية العربية الجامعة لا يمكن أن تتعارض مع كون الإنسان العربي أيضا كردياً أو سريانياً أو أمازيغياً، سنياً أو شيعياً أو علوياً، سورياً أو يمنياً أو مغربياً، فرداً منتميا لهذه القبيلة أو العشيرة أو تلك.
6
إذن فالعروبة الثقافية الجامعة بين كل العرب هي حجر الزاوية في البناء المنشود لمستقبلٍ البلدان العربية. وبما أنه لا حل من دون هوية جامعة يقترح المفكر صبحي غندور أن "نعيد النقاش في الهوية العربية كسياج ثقافي واجتماعي لحماية الوحدات الوطنية في كلّ بلدٍ عربي، بينما لا يمكن للإسلام أن يشكل جامعة لقوميات متنافرة. ولا يجب أن يكتفي سؤال الهوية الجماعية بالقول مَنْ نَحْنُ لكن يجب أن تسأل: ما الذي ينبغي أن نفعله حتى لا تتحول الهوية إلى عصبية سلفية مغلقة معطلة ترفض مواجهة الجديد وتكييفه بما يلائمها، فحينما تضعف الهُويّة العربية فإنّ بدائلها ليست هُويّات وطنية موحّدة للشعوب، بل انقسامات حادّة تولِّد حروباً أهلية من شأنها أن تأكل الأخضر واليابس معاً".
والإصلاح لا يتطلب إلغاء مظاهر التنوّع والتعدّدية ومناقضة سنة الحياة في المجتمعات العربية. وإنما المطلوب عدم تفجير الصراعات الدينية والإثنية التي تجعل الفقراء يحاربون بعضهم البعض بسبب اختلاف انتماءاتهم الإثنية والطائفية والقبلية كما تفعل الدول العربية النفطية اليوم في اليمن وسورية وليبيا... وتعزيز الهوية الوطنية يتطلب إعادة الاعتبار لمفهوم العروبة، كما يحتاج إلى مناخ دستوري سليم في كلّ بلد عربي، لكي ينمو مفهوم المواطنة واستحقاقاتها، ولكي يتعزّز الولاء الوطني الصحيح. فالوطن العربي مكوَّن أصلاً من أجزاء قطرية مترابطة ومتكاملة حيث العروبة لا تلغي ولا تتناقض مع الانتماءات الفرعية، بل هي تحدّدها في إطار علاقة الجزء مع الكل.
والقومية هي مفهوم يتعلق بمسألة الهويّة للجماعات والأوطان والأمم، وهي تحمل سمات ومضامين ثقافية تميّز جماعة أو أمّة عن أخرى، لكنّها لا تعني نهجاً سياسياً أو نظاماً للحكم أو مضموناً أيديولوجياً. ومن هذا المنطلق يحذر د. غندور "من الحديث عن فكر قومي مقابل فكر ديني، والأدق الحديث عن فكر علماني مقابل فكر ديني، تماماً كالمقابلة بين فكر محافظ وفكر ليبرالي وفكر اشتراكي مقابل فكر رأسمالي". ذلك أن الهويّة العربية لا يجب أن ترتبط بعرق أو دين، ولا بموقف سياسي أو منظور أيديولوجي. فالعروبة هي تعبير عن الانتماء إلى أمّة لها خصائص تختلف عن القوميات والأمم الأخرى حتّى في دائرة العالم الإسلامي. والانتماء إلى العروبة يعني الانتماء إلى أمّة واحدة قد تعبّر مستقبلاً عن نفسها بشكل من أشكال التكامل أو الاتّحاد بين بلدانها. وعندما نفهم الهوية العربية على حقيقتها تُصبح هي الحل لمشاكل صراع الهُويات الأخرى على الأرض العربية، ويكون ذلك مدخلاً سليماً لتحقيق المشروع العربي بإقامة اتحادٍ وتكامل بين أتباع الهويّة العربية المشتركة على أسسٍ دستورية سليمة.
7
يقول الفقيه محمد مختار الشنقيطي: "يجب التفريق بين الإسلام كدين وتعاليم مقدسة، وبين تاريخ المسلمين، مؤكدا أن التاريخ ليس وحيا، ولا الوحي تاريخاً". فما زالت الهوية العربية رهينة الإسلام التاريخي رغم أنها سابقة عليه ورغم أن جزءا من المكون العربي المسيحي سابقٌ على الإسلام، كما كان حال الغساسنة الذين كونوا إمارة في بلاد الشام. كما يُظهر الشعر الجاهلي نضوج اللغة العربية واكتمال عبقريتها قبل نزول القرآن بحيث تم القياس به لفهم معانى آيات القرآن وليس العكس. كما أن مفهوم "أمة الإسلام" متخيل فانتازي تؤكده الوقائع التاريخية، إذ لم يكن المسلمون يوما أمة واحدة إلا في حالات قوة جيش الخلافة وقهره للشعوب المغلوبة. وعندما كانت تضعف الخلافة كان ولاة الأمصار يستبدون بالأمر ويكونون جيشا مسلما يحاربون به جيش الخليفة المسلم ليستفردوا بالمجتمعات التي يحكمونها، منذ زمن والي الشام معاوية ابن أبي سفيان الذي حارب جيشه جيش الخليفة الرابع وصولا إلى الوالي محمد علي باشا الذي حارب جيشه جيش المسلمين الوهابيين ثم حارب جيش المسلمين العثمانيين الذين استنجدوا بالأعداء الأوربيين لتحطيم أسطوله.. فكيف تكون أمة تحارب نفسها طوال 14 قرناً حيث ما زلنا نشهد فصولها في اليمن وليبيا وسوريا.. كيف نقول أمة الإسلام دون أن يكون ذلك تخيّلاً تنقضه الوقائع!؟
إن ارتداء ثوب الهوية العربية بألوانه الثقافية سيكون أكثر ملاءمة للجسد العربي بمكوناته الإثنية والمذهبية. فقد تسبب تسييس الإسلام بانشقاق جنوب السودان المسيحي ونشوء "القاعدة" و"داعش" في سورية والعراق، كما دفع تسييس العروبة إلى انشقاق الكثير من الأكراد في شمالي العراق وسورية وانضمام العديد من التركمان إلى جيش تركيا في حربها على البلدين، مما يؤكد أهمية ضبط موازين الهوية على مصالح المجتمع العربي المعاصر الذي أصبح أكثر تواصلا ومعرفة بأحوال بعضه من ذي قبل، وهو ذاهب نحو مجتمع المعرفة حيث يتشارك المواطن المغربي مع المشرقي في المعرفة بواسطة اللغة العربية المبسطة التي ابتعدت كثيرا عن لغة القرآن الجزلة والفخمة وطرق التعبير فيه وبات فهم الشعر العربي القديم بحاجة إلى معجم حيث يميل الشعر العربي الحديث إلى تبسيط اللغة . كذلك فإن الشعوب العربية ما زالت تجمع على الحق الفلسطيني والخطر الإسرائيلي، بينما لا نرى اهتماما عند العديد من الشعوب الإسلامية غير العربية مما يؤكد على وحدة المصير العربي.
منذ بداية القرن العشرين كانت الهوية العربية حاضرة وموحِّدة للرأي العام في صراعات شعوبنا ضد العثمانية والفرنسية والبريطانية والإيطالية والإسرائيلية والأمريكية، فهل هناك برهان على وجودها أكثر من ذلك؟ الهوية العربية موجودة لكنها تعرضت لزواج قسري ثم تحررت من إسار القومجيين واستبدادهم، وهي اليوم بحاجة إلى مفكرين ومنظرين جدد يقومون بتفكيك عناصرها الفعلية وإعادة تجميعها بما يلبي متطلبات العصر التكنولوجي وطموحاته، في ظل تقلص استخدام اللغة العربية وتراجع اقتصادها وانهيار أمنها وتفكك عائلاتها وهي تموت رويدا كأسماك لفظها نهر الزمن وبات إنعاشها بحاجة إلى تدفق ماء الحب والسعادة والأمان الذي ترنو إليه شعوبنا ولا تصل، إذ يعطلها جمود العقل والنقل ومعاداة العلمانية.
وإذا نظرنا إلى هويات الأمم القوية نلاحظ كيف حرر الأمريكان هويتهم من ماضيها الأسود، وتصالحوا على ما ينفعهم بحيث أطلقوا شعار "الحلم الأمريكي" كهوية جامعة لمختلف الإثنيات والأديان والمذاهب التي تجمعت على شطآن أنهار الذهب الأصفر قبل بضعة قرون وكونت مجتمعاً حيوياً فاعلاً في العالم؛ بينما أنهار الذهب الأسود قد فرقت العرب ودمرت حياتهم. ومازال الأفراد عندنا منذورون لأجل المصلحة القومية ويستشهدون فوق ساحاتها ثم تهدر تضحياتهم كأنها لم تكن. وقد حان الوقت لكي نسخر المصلحة القومية لأجل تعزيز وجود الفرد العربي كوحدة أساسية في المجتمع الناجح، كذلك يمكن للحكومات أن تعيد إيمان رعاياها بهويتهم بدلا من الشعارات التي استهلكت إيماننا بعروبتنا حتى غدت مصدر سخرية في المسلسلات الكوميدية...
نبيل صالح
إضافة تعليق جديد