العصبيّة الطائفية: بدأت تحزّبات... فانتهت معتقلات
بقلم الاستاذ حسن حمادة:
عام 1953، قامت انتفاضة عمّالية ضخمة في ما كان يُعرف بـ«ألمانيا الشرقية»، وذلك اعتراضاً على شروط العمل القاسية بعد أن قرّرت السلطات الشيوعية زيادة ساعات العمل من دون زيادة في الأجور. وكان الحزب الشيوعي الألماني الشرقي، الذي يجسّد النظام الدستوري ويقود المجتمع، قد أقرّ هذه الزيادة تنفيذاً لقرار اتخذه «الكومنفورم»، وهو مكتب التنسيق بين الأحزاب الشيوعية الحاكمة في ما كان يُعرف بـ«المعسكر الشرقي» بقيادة الاتحاد السوفياتي.
قامت تلك الانتفاضة في 17 حزيران 1953، بعد ثلاثة أشهر على رحيل الزعيم السوفياتي جوزف ستالين، وقُمعت بشراسة فظيعة، إذ شكّلت عمليّاً أوّل انتفاضة للبروليتاريا في وجه نظام شيوعي! فاعتبر ذلك من الكبائر التي لا يمكن التسامح معها، خصوصاً أنها وضعت المعسكر الشرقي بأكمله في حالة إحراجٍ شديدٍ، من الناحية العقائدية، بالتالي في حالةٍ من التناقض مع نفسه، مع طبيعته، مع مبرّر وجوده في الأصل. إذ إن النظام القائم يومها كان يُعرف بنظام «ديكتاتورية البروليتاريا»، فكيف، نظريّاً، تتمرّد البروليتاريا على نفسها فيما هي تُشكّل الممر الإلزامي للانتقال من الرأسمالية إلى الشيوعية؟! ألم يُنظّر كارل ماركس في أنه «ما بين المجتمع الرأسمالي والمجتمع الشيوعي تقوم حقبة من التحوّل الثوري، من الأوّل إلى الثاني، ما يوازي ورشة عملاقة لا تكون الدولة فيها سوى ديكتاتوريةٍ ثوريةٍ للبروليتاريا».
ثمّة سبب آخر للإحراج، وهو أن ذاك الزمن (1953) كان قد أصبح زمن الحلفين العسكريين (حلف شمال الأطلسي بقيادة واشنطن، وحلف وارسو بقيادة موسكو) اللذين وضعا مصير البشرية تحت رحمتيهما، بالتالي كان لا بد من مضاعفة الإنتاج للحاق بالتقدّم الذي حقّقته الولايات المتحدة المستفيدة سلفاً من كون أوروبا هي الساحة التي وقعت فيها الحرب العالمية الثانية بعد عقدين من الحرب العالمية الأولى التي كانت ساحتها الأساسيّة أيضاً... أوروبا نفسها.
القمع الذي تعرّضت له الطبقة العاملة أثار غضب الكاتب والشاعر والمسرحي اللامع برتولت بريشت (Bertolt Brecht)، الموالي بقوةٍ للنظام القائم، والمفاخر بتقلّده لوسام ستالين، والمعادي للإمبريالية، فكتب رسالةً إلى الأمين العام للحزب الشيوعي الحاكم، فالتر أولبريشت، حملت انتقاداً شديداً للقمع الذي تعرّضت له الطبقة العاملة، بطريقته هو وبأسلوبه الخاص جداً، جاء فيها:
«بعد انتفاضة 17 حزيران، وزّع سكرتير اتحاد الكتّاب مناشير جاء فيها: «إن الشعب ارتكب خطأً أدّى إلى خسارة ثقة الحكومة به. ولا يمكنه استعادة تلك الثقة الغالية إلّا بتكثيف جهوده»... ألم يكن من الأسهل على الحكومة أن تحلَّ الشعب وأن تنتخب آخر»!؟».
منذ تلك الحادثة جاء الكلام عن «حلّ الشعب» مضربَ مَثَلٍ في بعض الأدبيات السياسيّة. يعني أن المسألة مسألة إطاحة بالشعب، انقلاب تقوم به الحكومة... على الشعب. هكذا، وبكلِّ بساطة.
وحده الشعب اللبناني، على ما يبدو لغاية الآن، كسر هذه القاعدة منذ اتفاق الطائف الذي توقّف تطبيقه بدءاً من عام 1992، أي منذ أن استولى رأس المال المتوحّش، بل رأس المال الأكثر توحّشاً، على السلطة بواسطة سياسيين ارتشوا... وباعوا. الشعب كسر هذه القاعدة بإقدامه، هو، على حلّ نفسه بنفسه من خلال دخوله إلى المعتقلات الطائفية - المذهبية، وتمركزه فيها، وتحويلها إلى ثكنات مؤهلةٍ، حين تدق ساعة الحرب الأهليّة، لأن تضخ مقاتلين شباباً معبئين نفسياً لتنفيذ عملية التدمير الذاتي الشامل، ما يجعل فترات الهدوء مجرّد حقباتٍ زمنيةٍ تفصل بين حرب وحرب.
هذه المعتقلات الطائفية - المذهبية ولدت من رحم النظام الطائفي - المذهبي الذي «أهداه» للبنان الانتداب الفرنسي. لقد أتت هذه المعتقلات كنتيجة طبيعية لتطوّر هذا النظام عبر أزماته المتعاقبة التي تتوالد من بعضها البعض ما أدّى إلى سقوط الناس، الشعب، في متاهات الغرائز حيث يتعطّل العقل بالكامل، فينعدم المنطق، وهذا ما تُثبته يومياتنا المأسوية بدليل سقوطنا إلى ما دون التشكّل الاجتماعي، وهنا الطامة الكبرى. وكل ذلك في حقبةٍ من التاريخ انتقل فيها العدو الصهيوني (منذ 1967 تحديداً) إلى تنفيذ مشروع الحرب على المجتمعات لتدميرها بعد أن نجح أوّلاً في حرب الاستيلاء على فلسطين وتشريد شعبها عام 1948. ثانياً في حرب 1967 حيث نجح في إلحاق الهزيمة بالجيوش العربية، مادياً ومعنوياً، وإلحاق الهزيمة بالأنظمة سياسياً.
الطائفية في لبنان تصلح لأن تكون هي المثال الأبرز لحرب المجتمع على ذاته، إذ إن حياتنا العامّة، الكابوسيّة، تقدّم الدليل القاطع على ذلك
لكن هذا التطوّر في استراتيجية إسرائيل يبدو أنه قد مر مرور الكرام على المفكرين والمنظرين والسياسيين والإعلاميين العرب، خصوصاً كبار أساتذة الصحافة. فدخل هذا التطوّر في ملف الأمور المجهولة التي لم يسمع بها العرب، وذلك على الرغم من النقاشات والسجالات التي كانت تحصل بين المسيّسين في ذلك الوقت والتي كانت تتناول، وبحق، مدى استفادة إسرائيل من الطائفية عندنا ومدى الأضرار التي تلحقها الطائفية بنا. أمّا كون حرب تدمير المجتمعات، بعد تدمير الجيوش فالأنظمة، قد أصبحت هي العقيدة الحربية لإسرائيل فظلت، ولا تزال عملياً، خارج دائرة الكلام السياسي المتواصل والقانون الوضعي. مفكر واحد هو يوسف الأشقر كان أوّل من انتبه إلى هذا التحوّل وراح يحذّر منه ولكن... من دون صدى ولا جدوى.
إن تدمير المجتمعات هو حرب الخارج على المجتمعات وحرب المجتمعات على ذاتها. والطائفية في لبنان تصلح لأن تكون هي المثال الأبرز لحرب المجتمع على ذاته، وهذا ما لا يحتاج إلى شرح وإثبات إذ إن حياتنا العامّة، الكابوسيّة، إذا جاز التعبير، تقدّم الدليل القاطع على ذلك. ويتكشّف للأجيال الناشئة، أو بالأحرى لشرائح منها، أن ما لُقّنت به من أكاذيب ومزاعم عن «الحلم اللبناني» من خلال النظام القائم هو في حقيقته كابوس أكثر مما هو حلم، مهما جرى التلفيق في سياق التسويق لبضاعة أطلقوا عليها أوصافاً مخادعة أثبتت الأيام وتثبت زيفها ودورها الوظيفي القاضي بحجب صورة التمييز العنصري (Apartheid) الذي يقوم عليه النظام والذي يسمّى «تعايش العائلات الروحيّة». كيف لا والأيام توضح البعد المالي، ولنكن أكثر وضوحاً فنقول البعد الدولاراتي، لروحانية المروِّجين لمنظومة حجب التمييز العنصري من صورة النظام. وهذا بطبيعة الحال يحدث بغطاءٍ من الدول الراعية لهذا النظام – النموذج.
هنا لا بد من التوقّف للحظات للاعتراف بحقيقة التلازم ما بين الداخل التمييزي العنصري (الأبارتهايدي، إذا جاز التعبير) والخارج الذي نصّب نفسه، وهو الخبير في النصب وفرض الخوّة على الساحات الدولية، راعياً للديموقراطية وحقوق الإنسان والشفافيّة. وهو تلازم يعبّر أيضاً عن نفسه في الواقع العملي منذ قيام «دولة الاستقلال»، خصوصاً يُعبّر عن نفسه عند كل منعطفٍ فيه تأزيم أمني أو تأزيم سياسي.
والحقيقة هي كالآتي: إن الطائفية المذهبية هي حاجة وضرورة، إنها حاجة للمتنفّذين لكي يحافظوا على مكتسباتهم ويضاعفونها إذا أمكن. وهي ضرورة لأنها الممر الإلزامي للتدخّلات الخارجيّة في العمق اللبناني. إذاً، هي حاجة داخلية وضرورة خارجيّة، وبطبيعة الحال لا أحد في الداخل يعترف بتورّطه في لعبة التأجيج والتوتير الطائفي - المذهبي، ولا أحد في الخارج يُعرب عن ترحيبه بذلك. فالخبث والكذب هما أساس التعاطي في الشأن العام في لبنان. سواء من قِبَل أهل الداخل أو من قِبَل الأجانب.
ومن نتائج أداء المعتقلات الطائفية المذهبية أن الشعب اللبناني أطاح هو بنفسه، وحكّامه هم أبعد ما يكونوا عن العمل بنصيحة «حل الشعب» التي اقترحها الكاتب والمفكر الألماني برتولت بريشت في رسالته آنفة الذكر إلى الأمين العام للحزب الشيوعي فالتر أولبريشت. والسبب أن حكّام المعتقلات الطائفية - المذهبية مطمئنون، بمعظمهم، إلى ولاء نزلاء المعتقل لهم وعدم الانتفاضة عليهم وتمسّكهم بـ«نظام المعتقل الطائفي - المذهبي» كضمانةٍ لهم. ضمانة ممّن؟! ضمانة من الخطر الآتي من نزلاء بقية المعتقلات وعلاقاتهم وارتباطاتهم الخارجية.
هكذا يلغي الشعب اللبناني نفسه بنفسه. وإمعاناً منه في إلغاء نفسه، باتت تقوم دورات حياةٍ وعمرانٍ في إطار المعتقلات وعلى حساب دورة الحياة والعمران الوطنية الواحدة الموحّدة. فالوطن مفهوم بات يفقد معناه تدريجياً فيتراجع تاركاً للمعتقل أن يتقدّم عليه نظراً لكون ولاء الناس بات معظمه لمعتقلاتهم وليس للوطن. وهذا من بديهيات التطوّر الذي طرأ على نظام التفرقة العنصرية المعمول به على قاعدة طائفية - مذهبية بدلاً من أن يكون على أساس لون جلد الإنسان وأصله وفصله كما عمل الأبارتهايد ويعمل في أفريقيا بين البيض من جهة والملونين من جهةٍ ثانية.
ولعل أفصح دليل على إلغاء الشعب اللبناني لنفسه هو سكوته، بل غيابه، عن العدوان الشامل والمتواصل الذي يُشن عليه، أمنياً واقتصادياً واجتماعياً وصحياً وثقافياً، بقصد تدميره بالكامل، فلا يتحرّك، ويكتفي بالنقيق والاعتراض التافه، وكأنه بلا حيل، بلا حولٍ ولا قوةٍ. يوالي ويجدّد الولاء لمن يقتله ويسرقه ويدمّر حياته وحياة أولاده ويدفع بهم دفعاً إلى الهجرة من لبنان. لا يمكن لأي شعب أن يرى ما حلّ ويحلُّ به كما يرضى اللبنانيون. يا للعار... يا للعار!
هنا تتوضّح الصورة أكثر فأكثر، فيظهر جلياً واقع العبوديّة التي بات اللبنانيون يعيشون في ظلّها ويقفلون على أنفسهم طرق النجاة منها، إذ ثمّة نوع من العبودية لا يمكن الانعتاق منها أبداً، إنها العبودية التي يعيش فيها الإنسان ويظن نفسه خطأً أنه حر، كما يقول الأديب والشاعر والمسرحي والعالم الألماني غوتيه. والعبودية تأتي هنا من خلال القبول بالظلم والخنوع أمام الظالم بدلاً من أن يرفع الإنسان صوته عالياً من دون أي تردّدٍ أو خوفٍ أو تماهٍ مع جلّاديه ومفقّريه ومدمّري أسرته ودافعي أولاده دفعاً إلى الرحيل عن تراب الوطن، يأساً وعجزاً واستقالةً من الحياة، في أرض كانت في الماضي أرضاً للحياة. ولعل من أخطر ما في هذا النوع من العبودية أن الفتاة أو الشاب يبلغان سن اليأس منذ فترة المراهقة.
العصبيات واحدة وإن اختلفت تسمياتها بين بلدٍ وآخر؛ في لبنان التعصّب «طائفي» وفي فلسطين التعصّب «فصائلي» وفي العراق التعصّب «قوائمي»
حين يلغي الشعب نفسه يسقط حكماً في العبودية. وإلغاء الذات يبدأ بالتخلي عن الحقوق. وفي حالة لبنان لا توجد حدود للمخاطر، كما تتضح الجهة المستفيدة أوّلاً وآخراً من نظام التمييز العنصري، منذ تأسيس دولة لبنان الكبير عام 1920 ثم صدور دستور هنري دوجوفنيل عام 1926، وهو أوّل مفوض سامي مدني على لبنان وعلى ما صار يعرف بالجمهورية العربية السورية. ولا بد من التذكير دوماً بأن هذا المفوض السامي كان مناضلاً في الحركة الصهيونية في فرنسا، دوره الحقيقي يغيب بالكامل عن الرواية الرسميّة، الرواية المألوفة من مختلف التيارات السياسية وغير السياسية في لبنان، والمتعلّقة بتاريخ الانتداب وبدوره في رعاية التحزبات الطائفية، التي كان «نظام الامتيازات» الذي أنشأته تفاهمات السلطان العثماني سليمان القانوني والملك الفرنسي فرنسيس الأوّل عام 1536، قد أسّس له... فاستغلّه قناصل فرنسا، وتحديداً القنصل فرنسوا بيكيه في القرن السابع عشر، لتدمير الطوائف المسيحية السورية بقصد إلحاقها بروما.
والملفت للنظر هنا أن هذا التدمير الذي استهدف رجال الدين المسيحيين السوريين بشكل أساسي، كما استهدف كنائسهم، كان يحدث بالتنسيق الكامل ما بين الفرنسيين والعثمانيين الذين كانوا يلبّون طلب القناصل، بل وإلحاح القناصل، لتطويع الكهنة السوريين الرافضين أساساً لفكرة التبعيّة للغرب. وذلك بقمعهم قمعاً وحشياً لا يوصف. وهذه العلاقة الغريبة ما زالت قائمة لغاية اليوم حيث التفاهمات التركية - الفرنسية تجري دائماً، على قدمٍ وساق، على حساب بلادنا.
قلنا إنه لا توجد حدود للمخاطر الناجمة عن إلغاء الشعب اللبناني لذاته، والتخلّي عن حقوقه، خصوصاً أن الجهة المستفيدة من ذلك هي الحركة الصهيونية، ورأس حربتها إسرائيل. وكمثال على التلازم بين الداخل اللبناني والخارج الاستعماري، ومن يسكن في داخل هذا الأخير، وبجدّيةٍ كاملة، وبواقعية، نعيشها تمزّقاً ودماراً، لا بدّ من التأمّل باللوحة الجدارية الآتية: إن نزلاء المعتقلات الطائفية المذهبية يضعون هم، بأيديهم، طوق العبودية في رقبتهم ويسلّمون الرسن إلى زعمائهم. وهؤلاء الزعماء بدورهم، يمسكون بطوق العبودية ويضعونه في رقبتهم ويسلّمون الرسن إلى الأجنبي. والأجنبي بيده يضع طوق العبودية برقبته ويسلّم الرسن إلى الصهيونية.
هذه اللوحة الفنية، وهي من مخيلة الكاتب، تختصر عمليّاً هذا التلازم ما بين الداخل والخارج. والداخل اللبناني الذي عرف واختبر ماذا يعني الاحتلال الإسرائيلي يفترض به أن يكون، بعد الأشقاء الفلسطينيين، قد اكتسب خبرةً متقدّمةً عن بقية الأشقاء في العالم العربي الغارق في التصهين على يد حكومات صهيونية الهوى، ذيليةٍ للغرب، هذا الداخل اللبناني يفترض به أن يكون قد اكتسب مناعةً وبات يرفض بشكل تلقائي أي طرح طائفي أو مذهبي. لكن العكس هو الذي يحدث ويتكرّر بإيقاعٍ متواصلٍ معيبٍ مشينٍ مريب! بمعنى آخر إن اللبنانيين يعودون إلى الوقوع من جديد في الأخطاء نفسها التي سبق لهم أن وقعوا فيها فجعلتهم يدفعون من كرامتهم ومالهم واستقرار أُسرهم أثماناً باهظة. وهل يمكن إعطاء وصف لذلك غير وصف الغباء المعتّق!؟
في حزيران المقبل يكون قد مرّ أربعون عاماً على الاجتياح الإسرائيلي (1982) واحتلال الجيش الصهيوني للعاصمة بيروت، ووقوع كل أنواع الإذلال والإجرام والتحريض الطائفي - المذهبي، بكل الاتجاهات، وما تبع ذلك من ولادة المقاومة اللبنانية. لكن التحريض الطائفي - المذهبي يستمر من جديد ويتصاعد من دون أخذ التجارب السابقة في الاعتبار والتي كم كلّفت دماراً ودماءً وتشريداً وتهجيراً وتمزيقاً للنسيج الاجتماعي وخسارة لعشرات الألوف من الطاقات والكفاءات الشابة من خلال الرحيل عن الوطن. ولكن، كأن شيئاً من كل هذا لم يحدث!؟
هذا الغباء المعتق عند المعتقلات الطائفية في لبنان يلاقيه، للأسف الشديد، غباءٌ معتق من النوع نفسه على الساحة الفلسطينية كما يقول المفكر الأستاذ أليف صباغ حيث تقوم «الفصائل» في فلسطين بسلوكيات تشبه سلوكيات التحزب الطائفي في لبنان. هنا طائفية وهناك فصائلية. والمستفيد واحد: إسرائيل والصهيونية. ولقد انضمّت «القوائم» في العراق إلى هذا الغباء المعتق الذي يسيء جداً إلى مصلحة اللبنانيين والفلسطينيين... والعراقيين أيضاً. وهناك أيضاً نجد أن المستفيد واحد: إسرائيل والصهيونية. العصبيات واحدة وإن اختلفت تسمياتها بين بلدٍ وآخر؛ في لبنان التعصّب «طائفي» وفي فلسطين التعصّب «فصائلي» وفي العراق التعصّب «قوائمي»... والمستفيد واحد.
هذه العصبيّات تؤدّي حتماً إلى تمزيق النسيج الاجتماعي ما يعزّز فعّالية آلة العمل الاستعمارية - الصهيونية، ألا وهي آلة الفساد والإفساد الفتّاكة المدمّرة التي أودت بحياة المجتمع في لبنان إلى حدٍّ بات الشعب اللبناني يمعن في تعجيز نفسه بنفسه، فيفعل الغباء المعتق فعله بحيث يفقد اللبنانيون ملكة التمييز بين الناس والأشياء والوقائع، في الوقت الذي يتعرّضون فيه، من خلال الحصار الأميركي - الإسرائيلي المفروض على لبنان، لعمليّة إبادةٍ جماعية بكل معنى الكلمة. دونما تمييز ما بين طائفةٍ وأخرى. فهل يستفيد الوضع الفلسطيني من التجرية اللبنانية السلبية - المأسوية هذه فتوقف الفصائل الدوران في حلقات مفرغةٍ من العصبيات السياسية المجرمة في الوقت الذي يخوض فيه المجتمع الفلسطيني أشرف المعارك البطولية المدهشة بعظمتها وتضحياتها ما يجعل هذا المجتمع منارةً لأحرار العالم ومضرب مثلٍ في التمسّك بالأرض والحقوق الإنسانية فيثبت، من بين ما يثبت، أنه شعب السيد المسيح منبع الرجاء لبني البشر. شعبٌ مصلوبٌ منذ 74 سنة، لكنه لا يخضع ولا يتوقّف عن مقاومة جلاديه المدعومين، بالمناسبة، من مجمل العالمين العربي والإسلامي.
لا شيء على الإطلاق يُبرّر وجود هذا النوع من العصبيّات سوى الفساد ووجود إرادة استعماريةٍ - صهيونية في استمرار هذه العصبيّات الكفيلة وحدها بمنع إقامة الدولة الطبيعية وبناء مجتمع طبيعي. لذا نرى الاستعمار يحرص كل الحرص على جعل الدولة دائماً اللاعب الأضعف في السياسة، بالتالي يجعل منها ساحة لصراعات المعتقلات الطائفية، تحت عنوان حقيرٍ سافلٍ منحطٍ اسمه «المحاصصة الطائفية - المذهبية»، يعبّر عنها بعنوان أكثر خبثاً اسمه: «الميثاقية».
هذا الحرص من الاستعمار على استمرار «العدمية المجتمعية» تجلّى أخيراً في زيارة أمين عام الأمم المتحدة إلى بيروت حيث كان حرصه الأوّل، وقبل كل شيء، أن يقف على خاطر «المرجعيات الدينية». في الواقع، ليس في الأمر غرابة إذ إن هذا الذي استفاق بعد سنة وأربعة أشهر أن يزور مرفأ بيروت المدمّر هو في الواقع مبعوث أميركي. يمثّل دولة الحصار. الدولة التي تقود حرب الإبادة الجماعية الشاملة على لبنان واللبنانيين. فكان من البديهي أن تسهم زيارته، الكاذبة والفارغة، في إضعاف مشروع الدولة. طبعاً نتحدّث هنا عن «الدولة» بالمطلق، وليس عن العهد الحالي أو غيره من العهود، وكلّها عهود فاشلة فاسدة بنت النظام الفاشل الفاسد. فالشعب المنقسم على نفسه لا ينتج أصلاً سوى دولةٍ جائرةٍ فاسدةٍ.
إن الطائفية اللبنانية هي مقتل لبنان. بدأت تحزّبات وانتهت معتقلات. ضحيتها اثنان: الدِّين والإنسان.
الأخبار
إضافة تعليق جديد