الكنيسة الأرثوذكسيّة الروسية على مفترق طرق
توفي بطريرك موسكو وسائر روسيا، أليكسي الثاني، في الخامس من كانون الأول الجاري، بعد ثمانية عشر عاماً على قيادته للكنيسة. عيّن السينودس المقدس المتروبوليت كيريل راعياً مؤقتاً للكنيسة، إلى حين اجتماع المجمع الكنسي المحلي (الروسي العام)، من 27 إلى 29 كانون الثاني المقبل، لانتخاب بطريرك جديد وتنصيبه مطلع شهر شباط المقبل.
تشييع ألكسي الثاني في التاسع من الشهر الجاري كان حدثاً بحد ذاته، إذ لم تعرف البطريركية الروسية في تاريخها القديم والحديث مراسم رسمية بتلك الضخامة، حضرها رجال الدولة الروسية والزعماء الأجانب، ونقلتها وسائل الإعلام الروسية على الهواء. معطيات تؤكد حقيقة معلومة: العلاقة الراسخة بين الدولة والكنيسة في روسيا.
أول بطريرك لروسيا
انتظرت روسيا من عام 988، حين اعتنقت المسيحية، وحتى عام 1589، ليعين أول بطريرك روسي للبلاد، المتروبوليت أيوب، بأمر من الأمير فلاديمير. إذ لا يمكن حسب الأصول الكنسية المتبعة، إنشاء بطريركية مستقلة إلا في بلد مستقل، وذلك ما حصل للمرة الأولى فقط في عهد القيصر إيفان الرهيب.
وانتخب رؤساء الأديرة الكبرى والكنائس الروسية البطريرك الأول بالقرعة، من بين ستة مرشحين، اقترحهم ابن إيفان الرهيب، القيصر فيودور إيفانوفيتش. ومنذ ذلك الحين، بدأت العلاقة المضطربة والوثيقة في آن واحد، بين السلطة الدنيوية والكنيسة الأرثوذكسية. وجاء انتخاب البطريرك أيوب قبيل الفتنة الكبرى والحرب الأهليّة، التي حلّت بروسيا مطلع القرن الخامس عشر.
البطاركة الآخرون
أما البطريرك السادس نيكون، فحمل لقب الحاكم الأعظم، وكان الألمع في هذا المنصب على امتداد تاريخ البطريركية، إذ قام بإصلاحات لا يقدر عليها إلا من جمع في يديه سلطات تضاهي سلطات القيصر.
ومع أن البطاركة، الذين كانوا قبله أو جاؤوا بعده، لم يتمتعوا بكاريزما نيكون وسلطته، إلا أن القياصرة كانوا يهابونهم. فما إن اعتلى بطرس الأكبر العرش وقوي عوده حتى ألغى عام 1721 مؤسسة البطريركية من أساسها، وأنشأ السينودس الحكومي المقدس لإدارة شؤون الكنيسة.
استمر الأمر على هذه الحال قرنين، حتى ثورة شباط 1917، عندما أصبح مصير الدولة الروسية على المحك. عندئذ، اجتمع المجمع الكنسي المحلي وانتخب تيخون بطريركاً. رافق ذلك ظهور حركة «المجددين»، التي طالبت بالتجديد في الكنيسة و«دمقرطة» قيادتها وتحديث شعائرها. وعارضت تيخون وأعلنت اعترافها التام بالدولة الشيوعية الجديدة.
وكان زمن تيخون مشابهاً لزمن البطريرك الأول أيوب، الذي واجه الفتنة الكبرى، بينما كانت روسيا على أبواب الثورة. وبعد وفاة تيخون عام 1925، عين المتروبوليت سيرجيوس راعياً مؤقتاً للبطريركية. وفي عام 1927، شكل سينودساً مؤقتاً، ونشر في صحيفة «إزفيستيا» بياناً دعا فيه الأرثوذكسيين إلى أن يكونوا «مواطنين صالحين للاتحاد السوفياتي، وأن يتركوا أهواءهم السياسية في المنزل، ويأتوا إلى الكنيسة بإيمانهم فقط»، ما اعتبرته كنيسة المهجر الروسية «هرطقة الامتثالية».
وفي الأيام الأولى للحرب العالمية الثانية عام 1941، أصدر سيرجيوس كتاباً إلى رعيته، بارك فيها المؤمنين للدفاع عن الوطن. وبعد عامين، استقبل الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين، الذي كان قد أقدم على إعدام المئات من الكهنة وسجن الآلاف منهم، سيرجيوس، معلناً رغبته في عقد مجمع للأساقفة.
إلّا أن شهر العسل بين السلطتين الدينية والدنيوية لم يدم طويلاً. إذ إن الزعيم نيكيتا خروشوف، الذي تسلم الحكم بعد وفاة ستالين عام 1953، شن حرباً إيديولوجية شعواء على الكنيسة. ومنذ ذلك الحين، لجأت الدولة إلى تجنيد رجال الدين كمخبرين ولم تعد تلاحقهم، لكنها كانت تطلب منهم التعاون التام معها في كشف العناصر «الهدامة».
ولم ترخِ الدولة من قبضتها عن الكنيسة إلا في عهد الرئيس السوفياتي ليونيد بريجنيف، الذي استخدمها كواجهة خارجية لتحسين صورة الدولة السوفياتية، وسط رخاء نسبي بفضل أموال النفط.
■ البطريرك الخامس عشر
بقيت الأمور على هذا المنوال حتى اعتلاء أليكسي الثاني سدة البطريركية عام 1990، في مرحلة بدء تفكك الإمبراطورية السوفياتية، ما حال دون تدخل الدولة في انتخابه لضعفها. وبالتالي، ورث هو أيضاً كنيسة ضعيفة وهشة.
وبالطبع، لم تخل عودة الكنيسة من الكاريكاتورية، التي رافقت تطبيق الاشتراكية في بلاد السوفيات. إذ أصبحت زيارة الكنائس تقليداً حرص عليه السياسيون، فباركوا سياراتهم بالمياه المقدسة، إضافة إلى مبنى النيابة العامة ومبنى مصلحة الأمن الفدرالية (كي جي بي)، ما يدل على أن ارتباط الكنيسة بالدولة بني وفق مصلحة الطرفين.
وعلى أي حال، بقيت الكنيسة في عهد أليكسي الثاني جامعة لكل القوى السياسية. وكانت على علاقة جيدة مع الشيوعيين واليساريين والليبراليين الجدد. إلاّ أن البطريرك لم يسمح باستخدام الكنيسة كسلاح ضد أي فريق. وحاول على مدى ثمانية عشر عاماً، جعل الأرثوذكسية أحد الأعمدة التي تقوم عليها الدولة الروسية، وخصوصاً أنه يعتبر الكنيسة ضمان الوحدة الروحية بين الشعب والدولة، وهي توفر للدولة الدنيوية الشرعية المقدسة.
ولا تستطيع الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية، خلافاً للغربية، أن تكون خارج الدولة. فالعلاقة بين الدولة والكنيسة بنيت دائماً وفق مبدأ «الجوزة». الكنيسة هي النواة والدولة هي القشرة. ويؤكد البطريرك الراحل أنه حتى في ظروف قمع الكنيسة، كانت السلطة السوفياتية تطلب منها إعلان الولاء لحاجتها، رغم الإلحاد المعلن، إلى شرعنة كنسية.
هذا ما عوّل عليه ميخائيل غورباتشوف، الزعيم السوفياتي الأول الذي منح الكنيسة حرية العمل. غير أن البطريرك الجديد أعلن في كانون الثاني من العام 1991، معارضته لاستخدام غورباتشوف الجيش السوفياتي في العاصمة الليتوانية فيلنوس، قائلاً إن «استخدام القوة العسكرية هو خطأ سياسي كبير، وبلغة الكنيسة، هو خطيئة». لكنه دعا عام 1991، إبان التمرد على غورباتشوف، إلى الامتناع عن إهراق الدماء، محذراً العسكريين من استخدام السلاح.
وبعد انتصار بوريس يلتسين على أنصار النظام السوفياتي، رحب أليكسي الثاني بحذر «بنهاية التوتاليتارية»، ما مهد لحقبة تعاون متبادل بين الدولة والكنيسة، التي أعيدت لها أملاكها المصادرة.
إلاّ أن البطريرك الراحل لم يقف في عام 1993 إلى جانب يلتسن في مواجهته مع البرلمان، بل حاول الوساطة بين الفريقين، وأجريت بحضوره مفاوضات بينهما. وهو أيد الحربين الأولى (عام 1994) والثانية (عام 1999) على الشيشان، رغم رفضه لتصويرهما حروباً دينية على المسلمين.
وبعدما تخلى «القيصر بوريس» عن السلطة لفلاديمير بوتين (كان البطريرك شاهداً على الشروط التي وضعت وضامناً لها)، عام 2000، تعززت سلطة البطريرك. وبدأت مرحلة جديدة من العلاقة بين الكنيسة والدولة، تميزت بالتأييد التام لبوتين.
وما كان إعادة توحيد الكنيسة الروسية الأم مع الكنيسة الروسية في المهجر، ليتم عام 2007 من دون مساندة بوتين شخصياً، ولا سيما أن كنيسة المهجر بقيت تعدّ أقطاب نظيرتها الروسية، حتى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، مخبرين للـ«كي جي بي».
لكن ذلك لم يمنع أليكسي الثاني، بعد حرب الأيام الخمسة الأخيرة في القوقاز، من رفض طلب الرؤوس الحامية في الكنيسة والدولة، لضم كنيستي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا إلى الكنيسة الروسية، معتبراً أنهما تتبعان الكنيسة الجورجية ويجب بقاؤهما في كنف دولتهما.
كان البطريرك الراحل محط انتقاد الليبراليين، لتعاونه الاستعراضي مع الدولة والـ «كي جي بي»، رغم أن البطريرك رأى أن ذلك أنقذ الكنيسة من التهميش، «فلكي تربح شيئاً ما، تخسر آخر». وتمكنت الكنيسة من الصمود، فيما انهار الاتحاد السوفياتي.
كما انتقده أصوليو الكنيسة العلاقات الكنيسة الأرثوذكسية «الطيبة» مع الكاثوليك، وعضوية الكنيسة الروسية في مجلس الكنائس العالمي، إضافة إلى خطابه الذي ألقاه عام 1991، أمام حاخامات نيويورك، متوجهاً إليهم بالقول «إخوتي الأعزاء، شالوم عليكم باسم إله الحب والسلام»، رغم أنه وقف ضد مجيء البابا يوحنا بولس الثاني إلى روسيا حتى وفاته.
وطالب الأسقف «السلفي» ديوميد، باستقالة البطريرك لـ «تواطئه» مع الدولة، التي «تنتهج سياسة معادية للشعب»، ولتواصله مع زعماء الطوائف المسيحية والأديان الأخرى. كما دان الكنيسة لتأييدها «هرطقة مبادئ المسكونية».
بانتظار البطريرك السادس عشر
يمكن اعتبار السياسة الكنسية أكثر تعقيداً من السياسة الدنيوية، وكذا الانتخابات البطريركية. نظرياً، يستطيع أي من أربعين مطراناً يؤلفون الكنيسة الروسية، أن يصبح بطريركاً. لكن الصراع اليوم يحتدم على عرش البطريركية بين كيريل (متروبوليت سمولينسك وكالينينغراد، رئيس قسم العلاقات الكنسية الخارجية)، وبين كليمانت (متروبوليت كالوغا وبوروفسك، مدير شؤون البطريركية الموسكوبية، التي تشبه منصب مدير الديوان الرئاسي).
ويعدّ الراعي المؤقت كيريل، أكثر ضجيجاً ونشاطاً، وقد تفوق على أليكسي الثاني نفسه، بظهوره في وسائل الإعلام طارحاً آراءه السياسية، وكان خطابه عند تشييع البطريرك، سياسياً وبعيداً عن الروحانية. لكنّ أعداء المطران الشاب (49 سنة)، يتذكرون دوره عندما سمح يلتسين للكنيسة في بداية التسعينيات من القرن الماضي، أسوة بصندوق محاربي أفغانستان القدامى، باستيراد الكحول والتبغ من دون سداد الضرائب. كان ذلك نوعاً من مساندة الدولة، التي لم تمتلك موارد مالية في التسعينيات. وأظهر المتروبوليت نشاطاً في هذا المجال. ومنذ ذلك الحين، أطلق عليه الصحافيون اسم «مطران التبغ». ويؤكد العارفون أن عشرة في المئة من التبغ المستورد إلى روسيا كان يتم عبر الكنيسة، ما حقق لها أرباحاً طائلة.
إلى ذلك، أنشأ المطران كيريل مصرف «بيريسفيت» التجاري، الذي بلغت موجوداته الصافية في تشرين الأول الماضي، ما يعادل 820 مليون دولار، وكان عضو مجلس إدارته. ويُتهم المطران بتجارة النفط وبناء المراكز التجارية على أراضي الكنيسة، إضافة إلى حصوله على إذن من الدولة، لصيد أربعة آلاف طن من السرطان البحري، رغم نفيه لهذه الاتهامات. ومع ذلك، يبقى كيريل الأكثر استقلالية وانفتاحاً وقرباً من الشعب، ويعول على جعل الكنيسة قريبة من الناس وذات وجه إنساني. لكن هذه الاستقلالية لا تعجب صناع القرار السياسي كثيراً.
وبعكس كيريل، يعدّ كليمانت بيروقراطياً صلباً، ذا «يد حديدية». وفي الوقت نفسه، أكثر انقياداً وتوافقاً مع الحيثيات الآنية، وموافقاً لمتطلبات الكرملين.
وكان كليمانت مساعداً لكيريل في دائرة العلاقات الخارجية لمدة عشر سنوات، لكنه عين فجأة عام 2003، مديراً لشؤون البطريركية. وغالبا ما أصبح شاغل هذه الوظيفة بطريركاً على غرار أليكسي الثاني.
ويؤكد محللون كنسيون أن بعض قاطني الكرملين كانوا بذلك يراهنون على كليمانت كبطريرك جديد، ولاسيما أن زوار الكرملين لاحظوا أن موظفيه بدأوا يرفعون فجأة في مكاتبهم، صورة كليمانت بدلاً من صورة كيريل.
ويتذكر المراقبون أيضاً أنه عندما كانت تضرب روسيا «أخماساً بأسداس» حول خلافة بوتين، كيف راهن كيريل على وزير الدفاع السابق سيرغي إيفانوف كخلف لبوتين، وجال معه في البلاد، فيما بقي كليمانت ضمن حاشية الرئيس الحالي دميتري مدفيديف. ويشيرون في هذا المجال إلى علاقة الصداقة الحميمة، التي تربطه بعقيلة الرئيس الروسي، حيث يقوم بمدحها دائماً لنشاطها الخيري.
ويتوقع المراقبون في حال انتخاب كليمانت بطريركاً، أن يتابع بحرص نهج أليكسي الثاني في التفاهم مع الدولة، وذلك ما تحتاج إليه في ظل الأزمة المالية، التي أرخت بظلالها على روسيا أيضاً. وما يعزز من حظوظ كليمانت أيضاً، أن ممثلي كنيسة المهجر المحافظة، التي لعب البطريرك الراحل دوراً هاما في إعادة دمجها مع الكنيسة الأم، سيشاركون هذه المرة في الانتخابات البطريركية.
وباختصار، فإن الكنيسة الروسية الآن تقف أمام مفترق طرق، ويتجاذبها تياران تعايشا في عهد البطريرك: أحدهما يدعو إلى المزيد من الانغلاق وآخر إلى الانفتاح. ولكن ذلك لا يعني أن الصراع منحصر بين هذين التيارين وممثليهما كيريل وكليمانت. وستبقى الأمور مبهمة إلى حين عقد المجمع الكنسي المحلي، ومن الممكن أن يتم اختيار شخصية ثالثة مجهولة كحل وسط. وسيبقى اسم البطريرك الجديد سراً حتى رفع اللثام عنه مع نهاية الشهر المقبل.
طفرة لاهوتية
يتذكر الروس أن عدد الكنائس في روسيا عام 1988، لم يتعد الـ 6893 كنيسة، والأديرة 21، والأبرشيات 67. وكانت هناك أكاديميتان فقط وثلاثة معاهد دينية. وترك البطريرك أليكسي الثاني بعد وفاته، 29141 كنيسة في بلاده، و769 ديراً، وخمس أكاديميات، و38 معهداً دينياً، وثلاث جامعات أرثوذكسية، ومعهدان لاهوتيان، و39 مدرسة دينية، و463 مركزاً شبابياً أرثوذكسياً. وفي عهد البطريرك الراحل، أعيد في موسكو بناء كاتدرائية يسوع المخلص، الآية المعمارية الرائعة، التي بنيت بأموال المواطنين في القرن التاسع عشر، إحياءً لذكرى المدافعين عن روسيا ضد نابوليون في عام 1812، والتي دمرت لاحقاً في عهد ستالين.
تجدر الإشارة إلى أن الكنائس الأرثوذكسية التقليدية هي الكنائس الشرقية، منها البيزنطية والسلافية. وتم انشقاق الكنيسة بين الغرب (الفاتيكان)، والشرق (الرومية والبيزنطية). وقد استفحل هذا الانشقاق في أيام ميخائيل كيرولارس، بطريرك القسطنطينية عام 1054، لأسباب سياسية. وانتشرت الأرثوذكسية الشرقية في روسيا وبلاد البلقان واليونان، وعموم الشرق الأدنى.
حبيب فوعاني
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد