هل ينجح مشروع الوصاية الدولية على لبنان وفلسطين
تمثلت إسرائيل البرنامج الأميركي في المنطقة قبيل دخول الولايات المتحدة إلى العراق، وأدركت أن المشروع الأميركي القادم يستهدف شكلا جديدا من أشكال الوصاية والانتداب على الدول التي يصعب تكييفها مع متطلبات مشروع الشرق الأوسط الكبير.
وتقتضي عملية التكييف تلك اعتبار النظام السياسي القائم في تلك الدول نظاما غير ذي صلة، أو محور شر يجب التخلص منه.
وتجري بالتوازي مع ذلك حملة من التحريض والتشويه وصناعة الرأي العام، يتبعها خلق حالة من الفوضى داخله بوسائل وذرائع مختلفة حسب النظام السياسي، بما يقود إلى استعصاء عملية إنتاج نظام سياسي بديل.
تتبع ذلك خطوة وصاية دولية عبر مجلس الأمن وانتداب قوى عسكرية برئاسة الولايات المتحدة لإعادة تشكيل النظام السياسي البديل وبالمقاسات التي ترغب فيها الولايات المتحدة سواء عبر عملية عسكرية كما حصل في العراق أو عبر مجلس الأمن كما حصل في تيمور الشرقية.
بدأت الحكومة الإسرائيلية تحضر الساحة الفلسطينية بالقوة لتكون ساحة نموذجية لمثل هذا التصور.
فبعد شهر واحد من موافقة الحكومة الإسرائيلية على خطة خريطة الطريق في مايو/ أيار 2003، وتحفظها على أكثر بنودها، كتب مارتين إنديك في مجلة فورين أفيرز مقالا في عددها الصادر في مايو/ أيار ويونيو/ حزيران، يطالب فيه بوضع فلسطين تحت الوصاية الأميركية بتفويض من الأمم المتحدة إلى أن يتم التوصل إلى حل نهائي.
شغل إنديك منصب مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط في الفترة من 1997 حتى 2000، وهو عضو ناشط في منظمة إيباك معقل اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، وهو معروف بانحيازه لإسرائيل، كما أنه كان سفير الولايات المتحدة لدى حكومتها في العام 1995 وفي العام 2001.
بحجة أن خريطة الطريق لا تحتوي على آلية تنفيذ محددة وأنها ستؤول إلى الفشل، طرح إنديك مبادرته هذه مترافقة مع برنامج شارون الذي عمل على تدمير البنى التحتية ومؤسسات السلطة الفلسطينية التي كان من المفترض أن تكون الشريك في تطبيق خطة خريطة الطريق.
وبالنظر إلى خلفية مارتن إنديك ومدى قدرته على تحسس استهداف المشاريع الصهيونية إن لم نقل معرفته بها ومساهمته فيها، فإننا نستطيع النظر إلى خطة الانسحاب أحادي الجانب التي طرحها شارون باعتبارها الأساس لخطة الوصاية الدولية بعد تكريسه لمقولة غياب الشريك الفلسطيني وتدميره لكل بنى السلطة.
وجاء أولمرت بعد شارون مستكملا برنامجه باسم خطة الانطواء أحادي الجانب أو ما عرف بخطة أولمرت.
أراد شارون ومن بعده أولمرت استثمار هذه العملية من أجل خلق وقائع جديدة على الأرض تلتهم أكبر مساحة من الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967، وتوكيل هيئة الوصاية الدولية بتشكيل الكيان السياسي الفلسطيني على ما يتبقى من الأرض بحيث يستجيب هذا الكيان الفلسطيني لمتطلبات الأمن الصهيوني وأهداف مشروعه في استكمال التهويد والترانسفير والتوقيع على ما يسمى بمفاوضات الحل النهائي.
يتضمن مشروع إنديك إصدار قرار من مجلس الأمن الدولي تنتهي مهمته في المشروع مع إصدار القرار وتتحدد فترة ثلاث سنوات لإنهاء مفاوضات الحل النهائي وإقامة كيان سياسي فلسطيني تابع أو عميل ومصمم على المقاس الأميركي الإسرائيلي سماه دولة فلسطينية.
وتكون هيئة الوصاية مسؤولة عن تقدير مدى التزام الفلسطينيين ببنود التسوية، وتتم المحافظة على المجلس التشريعي الفلسطيني باعتباره لجنة استشارية في خدمة هيئة الوصاية.
وتشير الخطة إلى أن حجم القوات العسكرية التابعة لهيئة الوصاية يتم تشكيلها بقيادة الولايات المتحدة وتضم وحدات عسكرية من القوات البريطانية والأسترالية والكندية يصل تعدادها إلى عشرة آلاف جندي، تستثنى منها الدول العربية بالطبع.
تلا ذلك في أكتوبر/ تشرين الأول من نفس العام طلب للبرلمان الأوروبي من المجتمع الدولي النظر في وضع فلسطين تحت "وصاية دولية"، في حال الفشل في تطبيق "خطة خريطة الطريق" التي تنص على إنشاء دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل.
وتبنى نواب البرلمان الأوروبي في جلسة عامة يوم 23/10/2003 في ستراسبورغ قرارا ينص أيضا على إرسال "قوة فصل ومراقبة دولية" إلى الشرق الأوسط.
إلا أنه لم يتم إقرار الاقتراح بوضع الأراضي الفلسطينية تحت وصاية دولية في حال فشل عملية السلام إلا بغالبية بسيطة 191 مقابل 179.
ونص القرار على أنه في حال عدم القدرة على تطبيق خريطة الطريق التي يدعو البرلمان الأوروبي إلى تطبيقها، يتم "إرساء وصاية دولية في فلسطين تحت سلطة اللجنة الرباعية" (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة).
مقدمات الوصاية
ما حدث من ضغط لإجراء انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني في ظل عمليات تقويض السلطة ومؤسساتها وبناها التحتية كان يستهدف وجود مجلس تشريعي من دون سلطة.
وفشل السلطة مقدمة لاستحضار مسألة الوصاية، وكان يراد لهذا المجلس التشريعي حسب خطة إنديك أن يكون مجلسا استشاريا لسلطة الوصاية.
بوجود مجلس تشريعي وسلطة تعتبرها إسرائيل وأميركا غير ذات صلة وأنها سلطة تنظيم إرهابي فإنها ستفتح معها الصراع على أوسع أبوابه، وتغلق أمامها جميع المخارج حتى يصبح التدويل هو الشكل الوحيد المتاح أمام المجتمع الدولي، وتصبح عملية تكييف السلطة من واجب سلطة الحماية ويتم تفصيل السلطة حسب المقاسات الأميركية الإسرائيلية.
وقد بدت ملامح التدويل في معبر رفح الذي ما إن انسحبت القوات الإسرائيلية من غزة من طرف واحد حتى رفضت تسليم المعابر إلا إلى لجنة دولية.
وهذا ما حصل أيضا في موضوع نقل الأموال إلى السلطة الفلسطينية بعد تسلم حماس لها، فقد رفضت إسرائيل السماح بتحويل أموال إلى السلطة الفلسطينية من أي جهة.
وهنا جاء اقترح الاتحاد الأوروبي تحويل الأموال التي كان مقررا تقديمها للسلطة كمساعدات للشعب الفلسطيني وللسلطة الفلسطينية عبر هيئة دولية تشرف على صرف المرتبات والمساعدات للسلطة الفلسطينية.
وتجري بين حين وآخر إعادة طرح إدخال قوات دولية إلى فلسطين لضبط الأوضاع فيها، والإشراف على تأهيل السلطة وعدم السماح بتمدد العنف.
وتكمل سلطة الحماية بناء المؤسسات التشريعية والتنفيذية ويتاح لها لاحقا التفاوض مع إسرائيل حول قضايا الحل النهائي وتطبيق خطة خريطة الطريق.
واستثمرت إسرائيل عملية "الوهم المتبدد" التي أسرت خلالها كتائب عز الدين القسام جنديا إسرائيليا لتعيث في قطاع غزة تخريبا وبالأهالي تقتيلا واعتقلت عددا من أعضاء حكومة السلطة حتى تدفع السطح السياسي الفلسطيني إلى فراغ سلطة هي فارغة أصلا.
ما جرى في لبنان بعد اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري لا يختلف كثيرا عن ذلك، فقد أريد للبنان أن يدخل في عملية تجاذب سياسي يستحيل معه التوفيق بين أقطاب التجاذب وتغييب السلطة السياسية، ويبقى المجلس النيابي مستشارا لدى هيئة الوصاية الدولية.
وقد تجلت ملامح التدويل في نقل قضية اغتيال الحريري إلى مجلس الأمن واستصدار قرار عبره بتشكيل لجنة دولية للتحقيق في قضية اغتياله، ومن ثم جاءت القرارات المتتالية لمجلس الأمن التي دولت عمليا كل الحراك السياسي في الساحة اللبنانية.
بقي حزب الله عقبة في طريق إنتاج نظام سياسي قادر على التكيف مع متطلبات البرنامج الأميركي، ولهذا سعت إسرائيل إلى استثمار عملية الأسر التي قام بها حزب الله لجنديين إسرائيليين لتبرر من خلالها القيام بهذه الحملة الشرسة على لبنان.
وتستهدف إسرائيل تحديدا البنية التحتية للحكومة اللبنانية لتضع تلك الحكومة أمام استحقاق الانضمام إلى جهودها في تقويض حزب الله، وإعادة ترسيم الخريطة السياسية اللبنانية.
وإذا لم يتح ذلك تقوم بتدمير الدولة بما يؤول عمليا إلى حل يستحيل بدون سلطة وصاية ستسعى إلى إنتاجها عبر قوات دولية في حال ما إذا نجحت في تقليم أظافر حزب الله عبر عملياتها العسكرية.
وبعد استصدار أميركا للقرارات الدولية التي أجبرت سوريا على الانسحاب من لبنان، فشلت في نزع سلاح حزب الله مع أنها كانت تعتقد أنها بإخراج سوريا من لبنان سيتكفل ميزان القوى السياسي الداخلي اللبناني بنزع هذا السلاح.
وربما تستهدف الحكومة الإسرائيلية في شروطها لأي هدنة الآن في لبنان نزع سلاح حزب الله وإبعاده عن الحدود الإسرائيلية، وهو أمر تعلم أنه غير ممكن بدون تدخل خارجي، وهذا ما تسعى إلى إجبار حزب الله على القبول به.
أما السؤال عن مدى نجاح مشروع إنديك والمشروع الإسرائيلي في عملية التكييف تلك، فكما فشلت الولايات المتحدة نسبيا حتى الآن في إنتاج النظام السياسي العراقي المستقر والمتكيف مع متطلبات المشروع الأميركي نتيجة حجم المقاومة التي واجهتها وحجم التناقضات في مصالح القوى الدولية والإقليمية وعدم القدرة على التوفيق بينها، فربما يكون نجاح إسرائيل في تكييف لبنان وفلسطين مرهونا بقدرتها على الإجهاز على المقاومة في البلدين، أو في قدرتها على خلق حالة من التفكيك في السطح السياسي.
وربما يكون مرهونا أيضا مع ذلك بنقل التفكك السياسي إلى حالة من الصراع الداخلي الذي يستحيل فيه تشكيل سلطة سياسية قادرة على إدارة الصراع السياسي كما في لبنان، وتحويل المقاومة الفلسطينية إلى الصراع على سلطة غير قائمة بما يشتت الجهد المقاوم ويغيب السلطة الغائبة أصلا.
الوصاية الدولية المطروحة حسب مشروع إنديك هي وصاية دولية شكلا وأميركية مضمونا، فهل تسمح التوازنات الدولية بذلك؟ أم أن تلك الوصاية ستكون شكلا جديدا من أشكال إعادة توزيع النفوذ السياسي للغرب في بلادنا.
ولكن التوزيع هذه المرة ليس على أساس جيوبوليتيكي بل على أساس قوى محلية تعبر عن مصالح تلك الدول عبر التوافق الدولي على خريطة سياسية داخلية تستجيب لتلك التوازنات والمصالح.
السؤال الذي يبقى مطروحا على السطح السياسي الرسمي والشعبي العربي هو أي مصلحة سياسية يمكن أن تتحقق في حال ما إذا تمت عودة الوصاية الدولية لتتمدد على مساحة الوطن العربي، وهل سينجو نظام سياسي من ذلك؟
إبراهيم عجوة
المصدر: الجزيرة
إضافة تعليق جديد