باب الألقاب.. مُفتتح في المفرد والمصطلح
للألقاب وظائف مهمة في تاريخنا الثقافي والسياسي، ولذا فالغاية من دراستها الدخول الى العوالم الرحيبة للتراث العربي، من باب الألقاب... وهو باب واسع يكشف مخزوناً معرفياً هائلاً غاب عنا، أو تم تغييبنا عنه، فانطوى عن وعينا، مع أنه مطويٌّ فينا! فالتراث العربي تحديداً، يختلف شأنه عن كثير من تراثيات الأمم الأخرى. فاليونان المعاصرة، مثلاً، تراثها مُتحفيُّ الحال، أو هو رموز من الماضي القديم لهذا البلد، وللإنسانية كلها، لكنه غير ممتد في اليونانيين المعاصرين، لأن اليونانية القديمة غير اللغة اليونانية اليوم، والمفاهيم الفلسفية التي أبدعها فلاسفة أثينا القدماء، ما عادت تعيش في أذهان الأثينيين المعاصرين، بل إننا لو قلنا اليوم كلمة «أثينيين» مفردة، لانصرف الذهن الى الفلاسفة والمسرحيين القدماء، وحدهم، كما لو كانت المدينة المعاصرة خالية من السكان.
والحال تجرى على المنوال ذاته، حين ننظر في التراث المصري القديم، المسمى اعتباطاً بالتراث الفرعوني... وما الفرعون إلا الحاكم الفرد في مصر القديمة، والأفراد مهما كانوا فراعنة أو غير فراعنة، ليس في إمكانهم أن يصنعوا تراثاً، فالتراث بما فيه من لغة وفن وعلوم ومعارف ومآثر ومخازٍ وانتصارات وهزائم، هو عمل الجماعات لا الأفراد. المهم أن التراث المصري القديم هو الآخر تراثٌ متحفيٌّ لا يسعنا إلا تأمل آثاره الباقية على القرون الخالية، أو استخدام مفرداته القديمة في شكل رمزي، بأن نضع تمثالاً أو مسلّة قديمة في أحد الميادين، أو نطلق اسماً مصرياً قديماً (فرعونياً) على أحد الفنادق السياحية! أما اللغة والدين والمفاهيم العامة والمآثر والمخازي، فكلها غير ممتدة فينا، وإن بقيت منها على ألسنتنا، بعض الكلمات القديمة، التي تلوح بين ثنايا كلانا اليومي، مثلما يلوح باقي الوشم في ظاهر اليد. بحسب مطلع معلَّقة طرفة بن العبد الشهيرة: لخولة أطلال ببرقة ثهمد، تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد.
لن يفهم كثيرون منا، اليوم، المعنى المراد من مطلع هذه القصيدة (المعلقة) لكنهم بالقطع سيفهمون مفرداتها، كلها، أو كثيراً منها على الأقل: أطلال، برقة، تلوح، باقي، الوشم، ظاهر، اليد... وما ذاك إلا لأن اللغة العربية ممتدة فينا، فهي لغة لم ينقطع تراثها عن حاضرها، طيلة ألف وثمانمئة عام على الأقل، أي من قبل الإسلام ونزول القرآن بثلاثة قرون من الزمان. فلما نزل القرآن عربياً فصيحاً، وظل من يومها عالقاً بأذهان الناس وقلوبهم، وأضيف الى البعد اللغوي أبعاد أخرى، دينية ودنيوية، ظلت حية فينا طيلة الألف وخمسمئة سنة الماضية، من دون تعديل كبير. فامتد التراث الديني والدنيوي فينا الى اليوم، بكل مشتملاته وبكل نظامه اللغوي والدلالي، فلم يكن المسجد يوماً عندنا، مكاناً أثرياً، ولا كان القرآن يوماً نصاً تراثياً. إذ بقينا نستعمل اللغة ذاتها ونفكر بالطريقة (الإجمالية) ذاتها، ونخضع لأنظمة الحكم ذاتها... الى آخر المكونات التراثية المعاصرة، التي يلغي الجديد فيها القديم، إلا في ما ندر.
التراث العربي، إذاً، ليس مقطوع الصلة بالحاضر. وهو لا يعد في واقع الأمر تراثاً بالمعنى الذي نقصده حين نقول: التراث اليوناني، التراث المصري القديم، التراث السورياني... ، فهذه كلها تراثيات «حقيقية» أي مقطوعة الصلة بالحاضر، بالكاد أو بالكامل.
أتُراني أستخدم هنا لغة صعبة؟ أم تُراني أطرح موضوعات لا تُناسب ما تنشره الجرائد اليومية؟ لا أعرف، لكنها على كل حال لغتي! غير أنني سأجتهد في بَسط المعنى وتقريب الفكرة، كي لا تغمض لغتي فتكون لغواً عند معظم القراء. ومن هذه الزاوية، سألقي في ما يأتي الضوء على فكرة هذه المقالات، وعلى أهمية الألقاب باعتبارها باباً للولوج في هذه العوالم الثرية من ثقافتنا التراثية، المعاصرة.
وأول ما يجب الانتباه إليه في هذا الباب، هو أن أكثر المشاهير والأعلام في تراثنا، كانوا يحملون مع أسمائهم ألقاباً وكُنى (جمع: كنية) ونسبة الى بلدة أو مكان أو شخص ينتسب إليه... وللتفرقة بين الكُنية والنسبة واللقب، نقول: اسمه توقيراً وتعظيماً له، مثلما هي الحال حين نقول: أبو عمّار ياسر عرفات، أبو الأسود الدؤلي، أبو القاسم الجنيد، ماجد أبو شرار، أبو فهر محمود شاكر ...، وفي النساء نقول: أم المصريين صفية زغلول. والوجه الثاني، أن يكنَّى الرجل بكنية، فتكون قائمة مقام اسمه مثلما هي الحال في عَمِّ النبي (صلى الله عليه وسلّم) الذي اسمه عبد العزى، ولكننا نعرفه بكنيته: أبي لهب.
وهناك وجهٌ ثالثٌ لإطلاق الكنية، هو أن يُكنَّى عن الشيء البشع الذي لا يحب الناس ذكره، كأن نقول في كلامنا اليومي إن فلاناً أُصيب بالمرض (الوحش) ونعني بذلك مرض السرطان، أو نقول إنه (بعافية) قاصدين أنه مريض، أو هو (تعيش أنت) بمعنى أنه مات! وهذه الخاصية الأسلوبية، انتقلت الى كلامنا العاميّ من الكلام العربي الفصيح، ومن الأساليب العربية القديمة.
وعادة ما تكون الكنية مسبوقة بكلمات (أبو، أم...) وهي تأتي أيضاً، مضافة الى (الدين) مثلما هي الحال في كُنى: شمس الدين، بدر الدين، نور الدين، زين الدين... وهناك أشكالٌ أخرى للكنية، لا مجال هنا لذكرها كلها، وقد عرضتها تفصيلاً في الفصل الأول من كتابي الصادر أخيراً بعنوان «إعادة اكتشاف ابن النفيس» الذي بيَّنت فيه أن ابن النفيس لم يكن يعلم بلقبه هذا الذي نعرفه به اليوم، فقد أُطلق عليه «ابن النفيس»، بعد وفاته، بطريق الخطأ والخلط بين العلاّمة علاء الدين، رئيس أطباء مصر، مكتشف الدورة الدموية، المتوفى سنة 687 هجرية... وطبيب آخر، غير مشهور، هو علي بن النفيس البغدادي! إذ كان اسم العلاّمة علاء الدين، أيضاً، عليّ. فوقع الخلط بينهما، لهذا السبب، ولكونهما اشتغلا بعلم واحد هو الطب، ولأنهما كانا متعاصرين.
أما النسبة التي تلحق بأسماء الأعلام من الرجال، فهي ترتبط دوماً بياء النسب الملحقة بالمنسوب إليه، سواء كان مدينة: القاهري، الدمشقي، البغدادي... أو كان بلداً: العراقي، المصري، اليمني... أو كان ناحية كبيرة: الشامي، المغربي، الخوارزمي... أو كان مذهباً: الشافعي، الحنبلي، الحنفي، الماتريدي... .
وفي كثير من الأحيان، نجد كثيراً من مشاهير الرجال وقد غابت أسماؤهم تماماً عنا، ونابت عنها الكنية أو النسبة أو الحرفة. فنحن عادة لا نعرف الشاعر أحمد بن عبدالله بن سليمان، إلا بكنيته ونسبته (أبي العلاء المعري)، ولا نعرف الفقيه محمد بن محمد بن محمد، إلا بأبي حامد الغزالي... ولا نعرف الطبيب الشهير محمد بن زكريا، إلا بأبي بكر الرازي.
وأخيراً، يأتي «اللقب» الذي هو صفة أو نسبة أو اسم غير أصلي، يرتبط بالمشهورين حتى تغيب أسماؤهم الأصلية تماماً، ولا يُعرفون بغير الألقاب التي يحملونها... وإطلاق الألقاب على الناس، المشهورين، مسألة قديمة جديدة عرفها القدماء مثلما نعرفها اليوم، ومارسوها مثلما نمارسها. فنحن اليوم نقول، مثلاً، الدكتورة «بنت الشاطئ» وهو لقب الباحثة عائشة عبدالرحمن، وكنا نقول «شكوكو» لهذا المغني المرح الذي لا نعرف اسمه، ونقول «كوكب الشرق» ونعني بذلك أم كلثوم، الملقبة أيضاً بسيدة الغناء العربي.
وكان العرب يطلقون الألقاب على المشاهير، منذ زمن ما قبل الإسلام (الجاهلية) مثلما هي الحال مع الشاعر ثابت بن جابر بن سفيان، المتوفى سنة 80 قبل الهجرة، الذي يُعرف بلقبه: «تأبَّط شراً». واستمر هذا التقليد العربي، بعد الإسلام فصار كثيرون من المشاهير يُعرفون بألقابهم وليس بأسمائهم الأصلية، كما هي الحال مع الفرزدق (همام بن غالب بن صعصعة) والمتنبي (أحمد بن الحسين بن الحسن) وأبي العتاهية (إسماعيل بن قاسم ابن سويد) والبلاذري (أحمد بن يحيى بن جابر)... وغير ذلك ما لا حصر له من الحالات.
ولإطلاق اللقب على الناس أسبابٌ متعددة، منها الاشتهار بالنسبة حتى تغلب على الشخص فتصير لقباً، ومنها وقوع حادثة فريدة له لا تقع عادة مع غيره. ولذلك لُقِّب (تأبط شراً) بهذا، لأنه بحسب ما قيل، وجد في الصحراء كبشاً، حمله تحت إبطه وسار به في الليل البهيم، حتى اكتشف أنه كان يحمل العفريت الذي كانت العرب تسميه «الغول». ويقال بل لُقِّب بذلك لأنه، وهو الشاعر الصعلوك، دخل على أمه البيت، فوضع سكيناً تحت إبطه وخرج مسرعاً من دون أن يقول أي كلمة، فلما سألوا أمه عنه قالت: تأبَّط شراً وخرج.
للألقاب إذاً أسبابٌ، وحكاياتٌ ارتبطت بهذا الشخص أو ذاك، وطرائف كثيرة وفوائد عن تراثنا القديم - المعاصر، وحقائق منسية ووقائع مطوية... ولذلك فالألقاب باب واسع للتعرف الى هذا التراث الطويل الممتد، ولذلك رأيت أن ندخل كل أسبوع من باب الألقاب، لنتعرف الى جانب واحد، لواحد من الشخصيات التي ناب عنها اللقب، وغاب الاسم.
يوسف زيدان
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد