الروائي واسيني الأعرج: كل كتابة ترتبط بجرح ما
يعتبر الروائي الجزائري واسيني الأعرج من أهم الروائيين العرب اليوم، وقد افتك هذه المكانة الكبيرة في المشهد الثقافي العربي بإبداعاته الغزيرة التي تغوص في الواقع الجزائري بكل تفاصيله وتناقضاته، بلغة فيها الكثير من الحرفية والعجائبية والبساطة أيضا.
شخصياته حالمة ورومانسية ومنفلتة وصادمة وأسلوبه يمزج بين الجدية والسخرية. لذلك لا غرو في أن تجد رواياته وكتاباته العديدة قبولا لدى القراء والنقاد على حد السواء.
ومن هذه المؤلفات نذكر "جسد الحرائق" 1978، و"طوق الياسمن" 1982، و"نوار اللوز" 1983، و"الليلة السابعة بعد الألف" 1993، و"سيدة المقام" ،1995 و"حارسة الظلال" 1996، و"شرفات بحر الشمال" 2001، و"كتاب الأمير" 2005، وأخيرا الرواية الصادرة عن دار الآداب سنة 2009 تحت عنوان "سوناتا لأشباح القدس" والتي كشف لنا بعض أسرارها في هذا الحوار الصريح.
واسيني الأعرج أيضا متحصل على عديد الجوائز نذكر منها الجائزة التقديرية من رئيس الجمهورية سنة 1989 ،وجائزة قطر العالمية للرواية 2005 ،وجائزة الشيخ زايد للأداب عن روايته "الأمير" سنة 2007. وقد ترجمت أعماله إلى الكثير من اللغات الأجنبية مثل الألمانية والانجليزية والفرنسية والاسبانية والإيطالية.
كان في زيارة خاطفة لتونس بدعوة من سلسلة "ترافلينغ" لتوقيع كتابيه "هكذا تحدث واسيني الأعرج" و"الكتابة الروائية عند واسيني الأعرج" والكتاب الأخير صادر عن منشورات كارم الشريف والكتابين من تأليف صديقنا الكاتب المتميز كمال الرياحي، فتحية للصديقين، وتحية للكاتب الكبير واسيني الأعرج الذي كان متواضعا وهادئا و رصينا في إجاباته وكذلك صريحا إلى أبعد الحدود.
* لننطلق من روايتك الأخيرة "سوناتا لأشباح القدس"، لماذا اخترت الاشتغال على موضوع القضية الفلسطينية؟ هل هي محاولة للاقتراب من القارئ العربي ودغدغة أحاسيسه أم هي خصائص المرحلة الراهنة وما يعيشه العالم العربي من أحداث؟
- أولا، أريد الإشارة إلى أن هذه الرواية قد كتبت قبل أحداث غزة الأخيرة وربما من هذا الجانب هناك دغدغة لأحاسيس القارئ، لكن مع ذلك أعتقد أن هناك إحساسا داخليا بوجود قضية.
وهذا الإحساس لا يرجع الى أن هذه القضية هي قضية عربية وانما لأنها قضية إنسانية وهي قضية عادلة في جوهرها ولكن للاسف مورس عليها وضدها شيء غير عادل، وبالتالي أنا حينما أكتب عن فلسطين أكتب طبعا عن الهاجس العربي وعن التمزق وعن أحاسيسي القومية كإنسان وجد في مكان وزمان معينين ، ومع ذلك أنا أكتب عن قضية تتجاوز المساحة العربية لأن القضية قضية استعمار وظلم وهضم حقوق.
وأنا أعتبر أن الكاتب ضمير من الضمائر الحية- وليس شرطا ان يكون الضمير الأوحد- لذلك من حقه أن ينتفض على هذا الظلم ويعبر عن رأيه بكل حرية، وما يضاف إلى هذه القضية هو أنها قضية قومية إذن فالهاجس مزدوج ومشترك.
هذا أولا وثانيا أنا بدأت أكتب عن الموضوع منذ ثلاثة أو أربعة سنوات تقريبا، ولم تكن فلسطيني هي المقصودة فقد بدأت مشروعا آنذاك- وانتهيت منه الآن- مع دولة قطر حيث طلب من مجموعة من الكتاب العالميين أن يكتبوا عن التاريخ العربي منظور إليه روائيا، وتضم هذه القائمة عشرة كتاب من فرنسا واسبانيا وبريطانيا وأمريكا اللاتينية وطبعا من العالم العربي.
وقد طلب من هؤلاء الكتاب أن يفكروا في كتابة نص روائي يبدأ من اتفاقية "سايكس بيكو" إلى اليوم، وقد أخذت 3 سنوات للعمل وكتبت الرواية التي ستصدر تحت عنوان "سراب الشرق" في نهاية 2009 ضمن مشروع كبير يحمل اسم "جائزة قطر العالمية للرواية" وفي هذه الرواية تحدثت عن الرحلة العربية من الحرب العالمية الأولى وانفصال العرب عن الإمبراطورية العثمانية حتى الوضع الحالي وما آلت إليه الأحلام العربية، وسيصدر الكتاب في جزئين من الحجم الكبير وفي خمس لغات عالمية وهي الفرنسية والانجليزية والاسبانية والألمانية والعربية طبعا.
وقد شعرت وأنا أكتب هذا العمل بأنني مررت فوق سماء فلسطين وكانت المادة المتوفرة عندي مادة كبيرة وكنت أفكر وأنا أكتب الرواية، في كتابة رواية أخرى مستقلة تماما فدخلت في غمار رواية "سوناتا لأشباح القدس" ولهذا هناك عامل موضوعي مرتبط بمادة الكتابة وهناك عامل انساني ثقافي حضاري.
وأنا في النهاية كتبت عن شخصية يمكن أن توجد في أي مجتمع، شخصية "مي" الفنانة التشكيلية ولكنني موقعتها في منطقة معينة ومكان محدد هو فلسطين للحديث عن القدس وعن هذا الجانب الظالم، وقد تحدثت عن محرقة أخرى غير المحرقة المعروفة ضد اليهود التي أرفضها وأرفض أن يمس الإنسان فقط على أساس عرقي أوديني أو ثقافي، هذه هي محرقة فلسطين التي أسميها المحرقة الصامتة وقد أردت أن أنبه الرأي العام العربي والعالمي إلى هذه القضية.
* وما حكاية "مي" هذه الفنانة التشكيلية وعلاقتها بفلسطين؟
- قصة "مي" هي طفلة صغيرة خرجت سنة 1948 من فلسطين مع والدها وذهبت إلى أمريكا بعد اغتيال أمها وبقية أفراد عائلتها، لتتربى عند خالتها في نيويورك نظرا لانشغال الأب بالعمل في منطقة بعيدة.
وتكبر موهبة الرسم مع "مي" التي تصبح فنانة تشكيلية أمريكية معروفة وتبدو لها فلسطين بعيدة نظرا لأنها غادرتها طفلة صغيرة، وفجأة تصاب "مي" بمرض سرطان الرئة فتكتب مذكراتها، والرواية كلها هي عبارة عن هذه المذكرات ومعاناتها مع المرض وفي نفس الوقت وبالتوازي مع هذه المعاناة هناك مقاومة الموت واستعادة لصورة فلسطين وفي الأخير حينما تشرف على الموت تطلب من ابنها- بعدما رفضت السلطات الإسرائيلية أن تدفن في القدس- أن يحرق جثتها ويذرها في القدس وهي مصرة على هذا الجانب الرمزي في حياة الأفراد والأمم حتى تثبت ولو رمزيا أنها موجودة، وتتحقق أمنيتها وتنتهي الرواية بهذا النفس الحزين ولكن في الوقت نفسه هناك إصرار على الحياة.
* أيضا هناك النفس الرومنسي الحالم؟
- طبعا، لأنه بالنسبة إليّ الكتابة التي لا تدفع الانسان الى الحلم و الى نوع من الرومنسية هي كتابة قاصرة وتصبح مثل الصخور جامدة ولكن في الوقت نفسه لست مع الكتابة الإيهامية التي تبتعد عن الحقيقة الموضوعية المعاشة ،هي حقيقة قاسية ومع ذلك ليست هناك قوة تمنع أي إنسان من أن يحمل وطنه في داخله كقوة رمزية من خلال اللون ويقدم هذا اللون للآخر ويمكن ان تكون قد قدمت لفلسطين أكثر مما قدمه الساسة.
* بطلة الرواية فنانة تشكيلية تبحث عن ذاتها وهويتها فهل هي رمز للإنسان العربي الذي يبحث هو الآخر عن هويته؟ وهل تختزل هذه الرواية القضية الفلسطينية في حق العودة؟
- لا أعتقد هذا، لأن الرواية هي جزئية صغيرة من حياة الكائن الفلسطيني ومن حياة الإنسان العربي بصفة عامة، لأننا أمام قضايا كبرى مثل حق الإنسان في أن يعود إلى أرضه وأن يحلم بالاستقرار، حق الإنسان في أن ينتج فنه في بيته وحقه في أن يموت في المكان الذي يختاره في هذا العالم حتى لو لم يكن أرضه، فلو كانت الإنسانية عادلة لما تحدثنا عن هذه الحدود لأن والكون واحد فما ضر أن أختار أين أعيش وأين أموت؟!!
ولهذا أؤكد أن الرواية لها أفق إنساني وحاولت أن تخرج قدر المستطاع من الخطاب السياسي الجاهز والمباشر، لتنسج علاقات أخرى إنسانية وثقافية و حضارية .من هنا فالرواية ليست ضد اليهود كيهود أو ضد أي ديانة معينة مسيحية كانت أم إسلامية أم يهودية، ولكن هي ضد كل ما يؤخذ بالقوة وضد العنف. وطبعا في النهاية لكل قارئ الحق في التأويل والقراءة المفتوحة وأنا لا أستطيع أن أؤول أنا أكتب فقط وأتحدث عن آليات الكتابة وعن الظروف التي كتبت فيها هذا النص أو ذاك مثلما يقول إمبرتو إيكو.
* هل تعتبر هذه الرواية مرحلة جديدة في كتابات واسني الأعرج، بانتقالها من الجرح الجزائري إلى الجرح العربي؟
- هذا كذلك رأي نقدي وأنا لا أستطيع أن أحكم على نفسي بأنني انتقلت من مرحلة إلى أخرى، لكن فعلا من حيث الموضوعات أنا انتقلت من الموضوعات العامة إلى التاريخ وهذا قد كان قبل هذه الرواية حيث دخلت موضوعات التاريخ بقوة أكبر وبحب أكبر وبصعوبة وتعب أكثر وكان ذلك في رواية "الأمير" ورغم أن هذه الرواية تتناول شخصية حقيقية هي شخصية الأمير عبد القادر الجزائري إلا أنها تنسج علاقة بين الفن الروائي والتاريخ واستحسنت هذه التجربة في رواية "سراب الشرق" وعمقت هذه العلاقة في رواية "سوناتا لأشباح القدس" لأن هناك جزءا كبيرا يتعلق بمدينة القدس وتاريخها.
أما الشخصية الرئيسية فهي شخصية متحركة أنا من خلقها من مدارات قد يكون جزء منها حقيقيا ولكنها في النهاية هي شخصية مخيالية. ولهذا سمحت لي ظروف الكتابة بأن أخرج من دائرة التاريخ وأدخل في دائرة أوسع من خلال المخيال ومن هنا الانطلاقة تكون من التاريخ كديكور أساسي، وتكون محطة الوصول الواقع اليوم.
* تعتبر الرواية التاريخية رواية صعبة التناول والنجاح، فكيف يستطيع واسيني الأعرج توظيف التاريخ لخدمة الواقع اليوم دون الانسياق وراء الكم الهائل من المعلومات التاريخية؟
- في البداية لا بد من الاتفاق لأنني لدي أطروحة ورأي خاص في الرواية التاريخية لأنه حتى هذه الرواية، ليست رواية تاريخية بمنطق والترسكوت أو جورجي زيدان أو...
الرواية التاريخية هي الإجابة عن سؤال معاصر من منطلق الاستمرارية وليس من منظور اللحظة الحاضرة، أنا حينما كنت أكتب رواية "الأمير" كان السؤال الذي شغلني هو سؤال صدام الحضارات الذي كانت ضحيته العراق وفلسطين وصار منطق القوة هو السائد، لذلك أردت أن أبرز وجهة نظري ليس من منطلق فكري مباشر وإنما من خلال الوسائل المخاتلة للرواية التي تمر عبر الخيال واللعبة الفنية.
وقد وجدت غايتي في شخصية الأمير التي تمثل في لحظة من اللحظات التاريخية هذه القوة الحوارية بين رجل شرقي متدين مسلم وصوفي فيما بعد وإنساني متفتح على الآخرين، وبين رجل دين مسيحي تبشيري وفي الوقت نفسه عاشا التجربة وجمعتهما الظروف وصار كل واحد يدافع عن الثاني لدرجة أن الحوار الذي نشأ بينهما خلق مجالا عجيبا للحب وهذا هو النموذج لحوار الحضارات والديانات.
فرغم وجود الاختلاف هناك قوة حوار و تواصل. ولهذا أقول إن الرواية التاريخية ليست نسجا للمعلومات التاريخية و إلا فإن القارئ سيختار الكتاب التاريخي ولكن ما يميز الرواية التاريخية هو إدراج المادة التاريخية في أفق إنساني حضاري حالي حتى يستطيع القارئ أن يقرأها دون ملل.
ولكل ذلك فإن سؤال ما ادا كان مآل البشرية متجها إلى العنف والحروب هو سؤال مركزي ولكن الإجابة ستكون بالنفي لأن البشرية مآلها الحوار والتعايش والسلام وإلا سينتهي العنصر البشري.
* ونحن نعيش في هذه المرحلة الإنسانية الخطيرة التي هي أقرب إلى الصدام منه إلى الحوار، كيف يستطيع الإبداع العربي أن يلعب دورا مهما في تقريب وجهات النظر في رسم صورة جيدة عن الثقافة العربية؟
- بصراحة حسب رأيي نحن الآن لا نعيش صدام الحضارات لأن هذا الصدام مدمر ينبني على التعصب للأديان والأعراق وكل الخبث الذي أنتجته البشرية، والأديان منظور إليها بشكل قاصر، وأنا أعتقد أن فترة الرئيس بوش التي يسيطر فيها هذا المنطق قد ولت وانقضت ولأن الشعب الأمريكي ليس شعبا غبيا فإنه انتخب الرئيس الحالي باراك أوباما الذي يعتبر لحظة فاصلة وإحراجا للمنطق الأمريكي المهيمن.
وما أردت قوله أن هناك على مر التاريخ رجالا حاسمين في اللحظات المناسبة. وأما دور الإبداع والإبداع العربي تحديدا فهو لا يحل المشكلات الكبرى ومع ذلك فهو قادر بوسائله وإمكانياته على خلق مادة جيدة للحوار والآخر ليس شرطا أن يكون عدوا بمنطق الايديولوجيا المهيمنة، الآخر موجود فينا بأشكال مختلفة ونحن نستهلك ثقافته يوميا وكل ما يحيط بنا من سمات حضارية هي من نتاج هذا الآخر ونحن أدرجناها ضمن ثقافتنا اليومية، إذن المشكلة هو كيف أخلق هذا التوازن وكيف أقلل من نبرة العداوة وكيف أجعل من كلامي كلاما مسؤولا.
أحاول أن أتوجه إلى الآخر بمنطق الحوار حتى يتعرف إليّ ويفهم قضاياي مثل القضية الفلسطينية التي تحدثت عنها، لأن هذا المنطق الاقصائي للعرب والرغبة في الوصول إلى كل شيء يمكن أن يؤدي بهم إلى فقدان كل شيء. وحتى لو كنا مظلومين كعرب فليس لنا خيار سوى اختيار جسر الحوار. ودائما يبقى الإبداع قناة مهمة وحيوية ودائمة ولا ترتبط بمصالح وهاجسها الإنسان أينما كان.
* وهل تعتقد أن المثقف العربي- سواء في الداخل أم في الخارج- يقوم برسالته الإبداعية الحوارية هذه؟
- المثقفون العرب منقسمون إلى فئتين، هناك مثقف مسيّس بالمعنى الغوغائي وهو يرفض كل شيء ولا يستمع إلى أحد لأنه يعتقد أنه الوحيد الذي يملك الحقيقة كاملة والآخرين على خطأ وأن الغرب هو جهنم والشيطان نفسه، وكل هذا الخطاب يخدم العدو أكثر مما يخدم مصالح العرب لأنه يعطي مبرر لكسرك وأنت هش لا تملك قوة المقاومة. هناك أيضا خطاب ثقافي ديني منغلق لأنه ينظر إلى الآخر منذ البداية كعدو يجب تدميره، إذن يجب أن أشحن نفسي لكي أواجهه وهو في الحقيقة في حالة ضعف كبيرة.
وفي المقابل هناك فئة ثانية من المثقفين وهناك خطاب عربي بدأ يقطع مع هذا الخطاب الإيديولوجي الحماسي الديني و بدأ ينشئ خطابا آخر أكثر عقلانية وتواصلا، وهذا الخطاب ليس بالضرورة يجعلنا نتخلى عن حقنا وإنما هناك في العالم من يريد الاستماع إلى خطابنا الحواري. وكلما كان هناك تعقل وتوازن ومصداقية في الحوار اقتربنا أكثر من الوصول إلى غاياتنا.
* هناك من يقول إن الترجمة هي أقصر الطرق للحوار مع الآخر، فهل قدرتنا على عدم فهم الآخر تعود إلى عدم اعتنائنا بالترجمة ؟
- صحيح أن مشكل الترجمة موجود في العالم العربي وأننا لا نترجم ولا نتابع، كل هذه حقائق موضوعية لا بد من الإقرار بها، ولكن الحقيقة الكبرى حسب رأيي هي غياب إستراتيجية واضحة للترجمة ،فحتى لو ترجمنا أعمال الدنيا كاملة مادا سنفعل بهده الترجمة وكيف سنستغل هذه الكتب في سياق ثقافي وحضاري يدفعنا إلى الأمام، إذا لم نكن نملك إستراتيجية حول ما نريد ترجمته كما وكيفا. لذلك فالوجه الظاهر هو قلة الترجمة ولكن الوجه الخفي والمهم هو غياب الإستراتيجية التي ستجعل عملية الترجمة تنتقل من الفوضوية إلى الهيكلية التي تخدم عملية التنمية ككل.
* تحدثت منذ قليل بحماس عن الرواية التاريخية فهل تميل إلى هذا النوع من الرواية؟ وهل تعجبك بعض التجارب العربية التي سلكت هذا الطريق على غرار تجربة أمين معلوف مثلا؟
- طبعا أمين معلوف هو ولا شك تجربة متميزة، لكنه اعتمد على جزئيات من هذا التاريخ واستغل لحظات معينة مثلا في رواياته "ليون الإفريقي" أو "سمرقند". وهذا التصور وارد وله أنصاره، أما بالنسبة إليّ فالتاريخ لا قيمة له من هذه الناحية.
التاريخ هو إجابة عن سؤالي أنا كمواطن يعيش في بداية القرن الحادي والعشرين وخارج هذا الإطار لا يعنيني، التاريخ هو سندي الفكري والثقافي والفلسفي وفي حياتي اليومية وعلاقاتي بالمحيط وفي الوقت نفسه علاقاتي بالامتداد، لأنني كمواطن وكثقافة وكبلد لم أنشأ من فراغ وإنما كنت نتيجة لصيرورة تاريخية فكيف أساهم في تطوير هذه الصيرورة؟
ولهذا لا نستطيع أخذ التاريخ في جزئية معينة وإنما نأخذه كمسار كامل وحينما اشتغلت على الأمير عبد القادر اشتغلت على القرن التاسع عشر بكامله وهذا صعب، أنا لا أنكر ميلي الى هذا النوع من الرواية ولكنه نوع متعب وصعب ولهذا أنا في روايتي الجديدة التي اشتغل عليها الآن ابتعدت عن هذا النمط وعدت إلى نمط الكتابة التي تشبه "شرفات بحر الشمال" وذلك لأنها أسهل ولأن قراءها أكثر وأخيرا لأنها حالة من التنفيس بعد عدة أعمال شاقة .
* وماذا سيكون موضوع هذه الرواية على وجه التحديد؟
- الرواية اخترت لها اسما مبدئيا هو "امرأة الظل" وقد استرجعت شخصية "مريم" الموجودة في أغلب نصوصي، وأنا دائما كنت أشتغل على هذه الشخصية وأتصرف في ملامحها وتفاصيلها فمرة أقتلها ومرة أحييها ومرة أخرى أجعلها تقع في الحب، ولكن في هذه المرة تنقلب اللعبة وتصبح شخصية "مريم" هي الفاعلة وتصرح بأنها هي التي ستحكي قصة هذا الكاتب وهذا الرجل والراوي الذي طالما تحكم فيها، أردت أن ألعب لعبة المرايا ولست أعرف هل أنا جدير بذلك أم لا؟ وهي لعبة خطيرة نوعا ما.
فيها من الخيال الكثير وفيها أيضا بعض من السيرة الذاتية ولكن الخوف كل الخوف من القراء الذين قد يأخذون ما أقوله عن نفسي وعن مريم، كحقيقة وهي منذ البداية تقول أن اسمي ليس "مريم" ولكن الكاتب من أصبغ عليّ هذا الاسم وأنا سأقص عليكم قصته بكل التفاصيل.
وهذا كله ضمن مدار الرواية ولكن قد تكون الكذبة الإبداعية محكمة الصياغة لدرجة تصديق القارئ. ورغم متعة اللعبة الفنية الا أنك لا تستطيع ضمان ردة فعل القارئ الندي له حق التصرف كما يشاء. ومن المفروض أن تصدر هذه الرواية مبدئيا في شهر جويلية ضمن مشروع مجلة دبي الثقافية التي تصدر كتابا أو رواية كل شهر مع المجلة مجانا.
* يحضر في بعض رواياتك هذا المزج الجميل والعجيب بين اللغة كوسيلة فنية للتبليغ والمضمون من خلال النفس الرومنسي والحالم، فهل نحن أمام واقعية سحرية عربية؟
- هذا الحكم والتوصيف يبقى من مشمولات النقد وأنا أؤمن بمساحات النقد وبدور الناقد، ولكن أستطيع أن أقول إنني أجتهد ضمن نسق لغوي معين، اللغة بالنسبة الي ليست موروثا جاهزا إنما هي موروث ثقافي يجب أن يكون لي اسهام فيه كعربي وإلا سأصبح مجرد مستهلك.
ثم أنا من ذهبت نحو اللغة العربية ولم تأتني هي، وكان يمكن أن أكون كاتبا "مفرنسا"- وإلى اليوم أكتب باللغة الفرنسية كذلك وهذا ليس عيبا- ولكنني في الوقت نفسه لدي حالة عشق للغة العربية وأعبر عن هذا العشق بتجديد هذه اللغة من حين لآخر.
وثانيا النظام الروائي ليس نظاما جاهزا لذلك لا بد من الاشتغال عليه من خلال استغلال الناتج والموروث الثقافي المحلي وكذلك استغلال الناتج والموروث الثقافي الإنساني وحينما أقرأ باللغة الفرنسية والانجليزية والاسبانية أطلع على هذا الموروث وأصبح في حالة تماس مع بقية الحضارات والثقافات، فكل هذه العلاقة ستترك فيّ أثرا وهذا سينعكس على ما أكتبه إيجابيا ويعطيه أفقا آخرا.
إذن كل هذه الانشغالات من الناحية الأدبية، مضافة إليها انشغالاتنا الحياتية الصعبة في عالمنا العربي، تعطي نموذجا وعينة ويمكن أن نسميها الواقعية السحرية أو الواقعية الرومنسية وهذا يبقى في النهاية من مشمولات النقد وأما الكاتب فمهمته إحكام بناء نص.
* عادة ما ترتبط الكتابة بحرج ما فبأي الجراح ارتبطت الكتابة عند واسيني الأعرج؟
- هي في الحقيقة ارتبطت بعديد الجراحات وليس بجرح واحد، أولا هناك جرح فقدان الوالد واستشهاده في 1959 في الثورة الوطنية وبالتالي بقيت هذه الصورة ماثلة في ذهني ولهذا كل الروايات الأولى التي كتبتها كانت تدور حول الثورة الوطنية وحول استشهاد الوالد تحديدا من ذلك روايتي الأولى "جغرافية الأسماء المحروقة" في البداية والتي لم تنشر في كتاب وبقيت منشورة في مجلة آمال.
وكذلك الأعمال التي تلتها فيها ظلال الوالد مثل "وقائع رجل غامر صوب البحر"، هذا الجرح الأول، أما الجرح الثاني العنيف فهو جرح فترة التسعينات حينما تكتشف في لحظة من اللحظات أنك يمكن أن تفتقد وطنا هكذا بكل سهولة في حين أنني كنت أظن أن هذا الوطن فيه من الصلابة ما يكفي لمواجهة الظاهرة الإسلامية والإرهاب و...، هذان الجرحان في حياتي أساسيان في كتاباتي وهناك جرح ثالث هو جرح الخيبة وهذا جرح كبير لأن كل هذه التضحيات من المفروض أن تقود البلد إلى التقدم واحتلال مراتب عليا وخروجه من دائرة التخلف ولو جزئيا.
ولكن هذا للأسف لم يتحقق بسبب غباء حكامه لأنه في لحظة من اللحظات لم تكن هناك أي رؤية إستراتيجية وبقينا داخل فرحة خطاب الانتصار وتمجيد الثورة وهذا ليس سيئا ولكن لا يجب أن يأخذ حيزا أكثر مما يستحق، ففي فترة ما يفقد هذا الخطاب الإيديولوجي التعبوي معناه، هناك جيل ولد بعد الاستقلال لا تعنيه هذه الثورة وما يعنيه هو لقمة العيش وتحسين وضعه الحياتي وهذا ما يجب أن يتوجه إليه الخطاب لا تمجيد التاريخ والماضي.
هذا جرح كبير لأنني أنتمي إلى بلد ورقعة معينة ولا يمكن أن أنظر إلى نفسي خارج هذه الدائرة، بالإضافة إلى الجرح العربي ووضعنا القاسي وكيفية تجاوز الظروف الحالية المتردية. كل هذه الجروح أكتب من داخلها ولا أقبل النزعة الانتصارية الفارغة ولا أقبل كذلك النغمة الانهزامية لأن كل الشعوب تصل إلى لحظات من الانكسار ومع ذلك لها إمكانية تجاوز من كبوتها.
* رغم أنك من جيل يكتب أغلبه بالفرنسية، إلا أنك اخترت الكتابة باللغة العربية فهل هو تأكيد على العودة إلى الجذور وتمسك بالهوية؟
- لا أدري إن كان دلك وفاء للجذور والهوية ولكنه في منبعه متأت من وفاء للجدة، فقد كانت جدتي فخورة بأصلها الأندلسي وعائلتي تنتمي الى المورسكيين وقد كانت تحدثني دائما عن ضرورة الإطلاع على التراث الأندلسي وهذا ما يستوجب مني تعلم العربية، وقد كان عندي تعلق روحي كبير بهذه الجدة حد التقديس فذهبت إلى اللغة العربية عبر الكتاب والمدرسة فيما بعد.
ومن هنا كانت هذه العلاقة في البداية نوعا من حالة الوفاء ثم صارت حالة من الاختيار، وهذا الاختيار لا يعني عداوة تجاه اللغة الفرنسية. وبعض الكتاب من جيلي مثل الطاهر حاووت وغيره اختاروا الكتابة باللغة الفرنسية وصاروا معروفين في الحقل الثقافي الفرنكفوني. أنا اخترت هذا المسلك وأنا سعيد به وهو ليس مسلكا مسيسا بل هو مسلك إنساني وثقافي ووفاء للجدة.
وفي النهاية أنا عندي علاقة عشقية باللغة وأحاول أن أميز لغتي عن بقية الكتاب وأحفر بطريقتي في مفرداتها.
عبد المجيد دقنيش
المصدر: العرب أون لاين
إضافة تعليق جديد