غسان الرفاعي: لا «لجلد الذات»!
ـ 1 ـ حينما تترجرج الأحداث ويستعصي فهمها على المشاهد المتلهف، وحينما تنهال التفسيرات الواهية، فلا يعرف المتابع اليقظ هل هي تنازلات مموهة أم فلهوية شيطانية، تحيّر الخصم، يخيم علينا إعياء نفسي ممزوج بالخوف، لا الخوف من هذا الأمر أو ذاك، وإنما الخوف من كل شيء ومن لاشيء معاً، فجأة، يبدو لنا، وكأن الأحداث، صغيرها وكبيرها، بلا بعد، ولاحجم، وإنما هي فقاعات من صابون، تتشكل بلا سبب، وتنفجر بلا سبب، وفجأة يصبح الأشخاص بلا قسمات ولا ثقالة، وإنما هي هياكل عظمية دميمة، تظهر من حيث لا ندري، وتتلاشى من حيث لا نعرف، نجلس في مكاتبنا، فيخيل إلينا أن السقف قد يتشقق، وأن شقفه سوف تتساقط فوق رؤوسنا، ونمشي في الشوارع، فيخيل إلينا أن بلاطها قد تفتت، وأننا سقطنا في حفر ليس لها قعر.
ـ 2 ـ
قد لا نصدق أن فيلسوفاً بقامة (سلوفين زيزيك) الذي تترجم كتبه بغزارة، وتفرد له شاشات التلفزيون وعناوين الصحف الرئيسة صداراتها، ينشر مقالاً رجيماً في صحيفة (اللوموند) الرصينة يمتدح فيه السفاح (رادوفان كاراجيك) الذي تتهمه محكمة لاهاي (بالتطهير العرقي)، ويعلن، في كثير من التفاصح الحضاري: أن الجرائم المذهلة التي اقترفها (كاراجيك) بحق مسلمي سراييفو لا تفسر بعنجهيته العسكرية، ولا بعنصريته السياسية، ولا باصابته بعاهة أو مرض سيكولوجي خبيث، وإنما بكونه «شاعرا رقيق المشاعر»، ويستشهد بأبيات من الشعر الرومانسي التي نظمها الجلاد، في مطلع صباه، ويدعو فيها مواطنيه إلى «الانتماء إلى جذورهم الحضارية، وإلى رفع أنظارهم إلى الشمس بكبرياء وصلف، لأنها رمز الكرامة الصربية!».
يصف (زيزيك) الحضارة الغربية بأنها »حضارة نشوة«، وإنسان هذه الحضارة بأنه «سوبرمان»، والرغبة في التدمير على أنها «مطمع رومانسي» يكتب في تفاخر مذهل: لا يمكن لجماهير الناس أن تتحرك كتلة متراصة، متعطشة للانتقام والبطش إلا إذا كانت محقونة بنشوة الانتصار، وهي بأمسّ الحاجة إلى التحريض الشاعري حتى تصل إلى مرحلة «النشوة»، إذا كان (افلاطون) هو منظر الشمولية لأنه حظر على الشعراء دخول جمهوريته الفاضلة فإن (هوميروس) هو منظر «التطهير العرقي»، لأن الفرسان الذين كانوا يتصارعون حتى الموت في الحلبات، يتغنون بشعره قبل غرز سيوفهم في أجساد خصومهم.
ولعل العلاقة بين الضحية والجلاد التي أسهب في تحليلها (زيزيك) هي الأكثر إثارة في مقاله الرجيم، لأنها تبرر النشوة التي يشعر بها الإسرائيليون وهم يمارسون جرائمهم في غزة. إن الإنسان الذي بقي ضحية على مر العصور والأزمان، يتحول إلى جلاد متى تحرر، ورفع عنه الظلم والاضطهاد.
لقد تجرأ (زيزيك) على الحديث عن سكان (الغيتو) في أوروبا الشرقية، وخاصة بولونيا، الذين تحولوا إلى جلادين، حينما انتقلوا إلى فلسطين، وأصبحوا مستوطنين إذ إنهم لا يخفون تلذذهم باضطهاد الفلسطينيين، وحصارهم، وتجويعهم وقتلهم من دون اكتراث.
ـ 3 ـ
ما أكثر مثقفينا الذين «يجلدون ذواتهم» بلا رحمة ويبرعون في تمزيق جلودهم، حتى بات «الندب» من أكثر الأجناس الأدبية ذيوعاً وانتشاراً، بل إننا نتهم كل من يتخلف عن المشاركة في مهرجانات اللطم بالنفاق والانتهازية، ودفن الرأس في الرمال.
أليس من المؤلم أن يصرخ أحد كبار مثقفينا: (لنملك الجرأة، ولننظر إلى وجوهنا المملوءة بالبثور في المرآة، ولنتوقف، عن «تصنيع» الأعداء في كل مكان، ولنتعرف بكل جرأة، كم نحن قبيحون!).
قد يطرأ على أحدنا، في لحظات نادرة «توهج الاعتدال» وغلبة «البراغماتية»، وقد نستجيب لدواعي حسن النية وإغراء «التعقل» وإذ ذاك نميل إلى تفسير الأحداث، دون توتر متراكم، ومتعصب عفوي، بل قد نتوصل إلى الاعتراف، بكل طيبة وبراءة، أن ما يجري هو من صنع أيدينا، وأنه من التعسف إلقاء اللوم على «صناع المؤامرات» و «أشرار النظام العالمي الجديد» وان الأمر لا يعدو أن يكون تهرباً من المواجهة، وتقاعساً عن تحمل المسؤولية، ولكننا سنكتشف، ولو بعد فوات الأوان، أننا ضحية خدعة، وفريسة فخ نصب لنا بعناية وخبث.
ـ 4 ـ
منذ فترة قرأت بذهول، المقال التحليلي الذي كتبه (دانيال بابيز) في النيويورك صن «عن» فوائد الحرب الأهلية في العراق وأفغانستان وباكستان، فلم أصدق أن الشر يمكن أن يتغلغل داخل تلافيف الدماغ إلى هذه الدرجة، وعجبت كيف يختزن هذا المستشار السياسي كل هذا الحقد!
يعترف هذا الفلهوي أن الأوضاع في مجمل هذه البلدان سيئة للغاية، ولكن هذا السوء في مصلحة الولايات المتحدة، ويورد مجموعة من الأسباب «المقنعة» لدعم وجهة نظره:
ـ في مستهل هذه الأسباب أن العرب والمسلمين عامة ليسوا »ناضجين« بما فيه الكفاية لتقبل الديمقراطية ومن الخطأ الإصرار على فرض هذه الديمقراطية عليهم، لأنها لن تؤدي إلا المزيد من الأذى، وستكون وبالاً عليهم، وعلى مصالح الولايات المتحدة والمنطقة. إن الحرب الأهلية جزء لا يتجزأ من التكوين الاجتماعي والسياسي للتاريخ الإسلامي ومن العبث محاولة «انتشال» المجتمع الإسلامي العربي من الاقتتال الطائفي والإثني، وعلى هذا الأساس يجب على الولايات المتحدة أن »تستفيد« من هذه الخصوصية، وأن تستثمرها بذكاء وبراعة.
ـ ثم إن أهم ميزة للحرب الأهلية في هذه البلدان أنها تشغل السكان بقتل بعضهم بعضهم الآخر، ما يخفف الضغط على قوات الاحتلال الأميركية، ويبرر بقاءها، إذ سيحاول كل فريق في هذه الحرب «الاستنجاد» بهذه القوات و«استمالتها» إلى جانبه، للانتصار على الفريق الآخر.
ـ ثم إن العالم سيكون أكثر أمنا واطمئناناً، بعد استمرار القتال الطائفي، ما يؤدي في نهاية المطاف إلى زوال التهديد الإرهابي للغرب عامة، وللولايات المتحدة خاصة، وتفتيت ما يسمى الوحدة الإسلامية، وتحقيق الهيمنة على بعض الدول التي لا تزال تحتكر الطاقة النفطية، ولا تزال تحلم بمحاصرة إسرائيل، بل زوالها، كما يكرر الزعيم الإيراني الشاب.
والنتيجة «الشريرة» التي توصل إليها هذا العبقري الحاقد هي التالية: قد تكون الحرب الأهلية الدامية كارثة إنسانية، ولكنها بركة استراتيجية، ولا يجوز السعي إلى إنهائها، ولا إلى إطفاء نيرانها ولا إلى إقناع الأطراف المتنازعة بإيجاد تسوية لها.
ـ 5 ـ
المفارقة أن العالم قد اختار موقعنا ليكون مركز المجابهة المصيرية بين الشرق والغرب، بين التقدم والتخلف، بين الانفتاح والشرنقة، وهذا ما جعلنا نتراشق الأحقاد بعصبية مرهقة، فنتشاغل عن المعاصرة، وقضاياها، وتحديداتها وإشكالاتها.
عشنا الحرب الصليبية بكل ما تحمله من بثور وعاهات، والاحتلال الاستعماري، وما ولده من أورام وتشوهات، ثم افترسنا الاغتصاب الإسرائيلي، وطنياً، واجتماعياً، وسيكولوجيا، وحينما فشلنا في التحرر منه حتى الآن، استقر العجز فينا تشققات وانحرافات وتشوهات.
لم يكن لنا موعد مع التنمية الحقيقية، ولامع الحداثة الاجتماعية، ولا مع المواطنة الحرة.
وكل ما دأبنا على التمسك به هو الغوغائية، وها نحن نستنقع في الأصولية المذهبية الفجة التي جعلتنا نوزع المواطنة حصصاً غير متساوية، في الحقوق ولا في الواجبات.
إن الإنسان العربي الذي تصوغه أغذية حضارية متناقضة يقف وحيداً كالفاقد ظله، ومن هنا شعوره بالقوة وبعدم الأمان معاً.
انه يعرف أن أسوأ الاحتمالات ممكنة، فيضطر إلى الدفاع عما هو كائن باسم ما كان.
الإنسان، بالنسبة له، كائن مهدد، مرتبط بميراث المكتسبات الإنسانية، وقد انتهت أو تحولت إلى أشياء مستعصية .
أما المستقبل فهو بمنزلة سارق يسعى إلى ابتزاز ملكيته، وكنتيجة لهذا كله، فهو يحكم عليه لا من وراء ماستربحه الإنسانية، بل من وراء ما توشك أن تخسره.
إن التناقض المفترض بين الحداثة والقيم الخالدة الذي يستخدم عادة لتبرير التنصل عن المشاركة هو تناقض مزور. كما قال (سارتر): «قد يكون هناك عصور أفضل وأجمل، ولكنه عصرنا، وليس لنا إلا هذه الحياة لنحياها، وسط هذه الحرية أو هذه العبودية، وعلى المثقف أن يعرف أن المجد الذي يأتي بعد موته يقوم على سوء تفاهم، ذلك أن الخلود هو محاولة لادعاء الغياب في مكان لإثبات الوجود في مكان آخر..».
الهوية التي يحملها الانسان المعاصر هي تراكم عدة هويات متناقضة، متصارعة، ولكنها متساكنة، المطلوب هو فك هذا التساكن والانحياز إلى نموذج متكامل، وإلا فقد الإنسان هويته وأصبح ترسانة للهجانة والاختلاط.
ـ 6 ـ
أكاد اعتقد أن هناك أفخاخاً منصوبة لنا في كل مكان، وأن حسن النية قد لايكون متوافراً عند من يدّعون صداقتنا، والإعجاب بشرقيتنا، ولكن الحكمة ليست في الشكوى من هذه الافخاخ، ولا في الكشف عن خبث من نصبوها، وانما في تجنبها، وعدم الوقوع فيها، وفي تحويل الأفخاخ هذه إلى منابر حقيقية، تنشر على الملأ ما نملكه من رصيد ثقافي رصين ودسم.
د. غسان الرفاعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد