الاستشراق وتحديث الإسلام
منذ القرن التاسع عشر وربما قبله سعى الكثير من المستشرقين للحديث عن ضرورة تجديد الإسلام لمواكبة الحداثة الغربية والخروج من حال التخلف والرجعية التي تحيا فيها الشعوب الإسلامية وهذا ما أكد عليه أمثال رينان وجب وغيرهما الذين تنبؤا بقرب نهاية الإسلام وتلاشيه لمخاصمته روح العصر وهذا ما يؤكد أهمية الدراسات التي تناولت أزمة الاستشراق والدراسات الغربية عموماً عن الإسلام والتي كتبها الكثير من الباحثين العرب والأجانب في نقد الاستشراق كمؤسسة وكفكرة وكمنهج في التعامل مع الإسلام كتاريخ وحضارة وكدين ومجتمع معاصر، فإن الدراسات الاستشراقية عن الإسلام لم تبرأ تماماً من أدران الرؤية القديمة فما زالت الدراسات الاستشراقية الاكثرية تتبنى الموقف القديم تجاه الإسلام ورسوله (صلّى الله عليه وسلّم) وتكرر عن عمد ومغالطة التهم نفسها التي ذاعت منذ بداية القرن التاسع عشر وبداية مرحلة جديدة من الدراسات الغربية عن الإسلام تزعم انها تلتزم المنهجية والروح العلمية وتتخلص من روح العداء القديمة وتخلع رداء الكنيسة والتبشير الذي صبغ علاقة الغرب بالإسلام بروح ملؤها الحقد والتشويه والتزييف المتعمد منذ ما يزيد على ألف عام هي عمر الدراسات الغربية عن الإسلام.
ويحتل برنارد لويس مكانة متميزة في إطار الاستشراق المعاصر باعتباره يمثل الخبرة الأكاديمية والعطاء المتواصل على مدى ما يزيد على نصف قرن في مجال الدراسات الإسلامية كما انه يمثل الخبرة والمشورة لأصحاب القرار السياسي في الولايات المتحدة الأميركية، خصوصاً بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، فقد استدعى من مقر عمله كأستاذ بجامعة برنستون الى واشنطن حيث مقر البيت الأبيض والبنتاغون أكثر من مرة لأخذ مشورته كخبير في شؤون الإسلام والشرق الأوسط قبل الحرب الأميركية على أفغانستان تحت مسمى الحرب على الإرهاب وفي مرحلة الإعداد للحرب على العراق.
ويعد لويس من دون أدنى مبالغة أشهر وأكبر مستشرق غربي في العالم اليوم فقد بلغ التسعين من العمر، وعلى رغم هذا ما زال ينتج ويمارس دوره التوجيهي في سياق الحقل الأكاديمي والمؤسسة الاستشراقية ولم يتخل عن دور الاستشراق التقليدي كعين من عيون السياسة وفي خدمة أطماعها التوسعية والاستعمارية في عالم الإسلام كما كان الشأن في مرحلة الاستعمار الغربي للعالم الإسلامي في القرنين التاسع عشر والعشرين. وقد اضطلع بالدور نفسه من جانب مستشرقين كبار من أمثال الفرنسي لويس ماسينيون والألماني مؤسس مجلة الإسلام الألمانية كارل هينرش بيكر (ت 1933) والروسي بارتولدت (1930) والهولندي سنوك هور غرونيه (1936).
وقد بدأ لويس حياته كباحث في دراسة التاريخ الإسلامي بدراسة عن أصول الإسماعيلية كانت في الأصل أطروحته للدكتوراه بمدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن والتي عين فيها مدرساً بعد حصوله على الدكتوراه عام 1948، وظل يعمل بها حتى عام 1974، بعدها انتقل الى الولايات المتحدة الأميركية للعمل بجامعة برنستون وهي من الجامعات الأميركية المرموقة فعمل بها رئيساً لدائرة دراسات الشرق الأوسط وما زال يعمل حتى اليوم على رغم تخطيه الثمانين من عمره لكنه يعمل كخبرة نادرة.
وعلى رغم أن عمل لويس الأساسي هو حقل التاريخ والحضارة الإسلامية إلا أنه ومنذ أمد بعيد ركز نشاطه على العالم الإسلامي الحديث، خصوصاً منطقة الشرق الأوسط. كما يهتم بخاصة بعلاقة الإسلام بالغرب، فكتب عن هذا الموضوع مجموعة من مؤلفاته يحذر فيها الغرب من المد الإسلامي في بلادهم فكتب عام 1982 كتابه عن الاكتشاف الإسلامي لأوروبا وعام 1993 أخرج كتاب آخر عن الإسلام والغرب.
وقد استحوذ موضوع الشرق الأوسط على جزء كبير من اهتمام لويس كيهودي صهيوني، فكتب مجموعة كتب عن الشرق الأوسط ومنذ بداية عقد التسعينات ركز اهتمامه حول الشرق الأوسط فكتب عام 1990 كتاب بعنوان «العرقية والعبودية في الشرق الأوسط»، وعام 1994 أخرج كتاب بعنوان «التشكل في الشرق الأوسط، وعام 1995 أخرج كتاب بعنوان «الشرق الأوسط تاريخ موجز» في 2000 عام الأخيرة، وعام 1997 نشر كتاب «مستقبل الشرق الأوسط»، وأخيراً أخرج عام 2000 كتابه عن خريطة فسيفساء الشرق الأوسط.
صحيح ان لويس يخرج النص الواحد بأكثر من صورة ويعيد المادة نفسها في معظم كتبه، لكنه يلح على صورة نمطية يريد تثبيتها في ذهن الغرب عن الشرق الأوسط باعتبار أن الشرق الأوسط مقر لدولة الكيان الصهيوني الذي يرتبط بها نفسياً ودينياً وباعتبار أن غالبية دوله نتاج لثقافة الإسلام فيحاول ربط تخلفهم بالإسلام كدين مخاصم لقيم الحرية والحداثة الغربية.
ويعد لويس موجهاً ومرشداً في حقل الدراسات الاستشراقية فمنذ كتب في أواخر الستينات مقالته عن الأصولية الإسلامية في عام 1968 اتجهت الأنظار في الغرب لحقل الأصولية الإسلامية وسيطرت على معظم انتاج المؤسسة الاستشراقية على مدى ما يزيد على ربع قرن فعقدت المؤتمرات وكتبت الكتب والدراسات حول الأصولية الإسلامية كخطر يهدد الغرب وبعد الثورة الإسلامية في إيران كتب كتابه «اللغة السياسية في الإسلام»، وهو في الأصل عبارة عن مجموعة محاضرات ألقاها بجامعة شيكاغو 1986 ثم جمعها في كتاب نشر عن الجامعة نفسها عام 1988، وفي التوجه نفسه كانت مقالته عن جذور الغضب الإسلامي المنشورة بمجلة «أتلانتك» والموجودة على الانترنت لكل راغب.
ولا يخفى توجه لويس تجاه الإسلام في كتاباته ومحاضراته فهو يسلط الضوء على الإسلام باعتباره دين وثقافة تمثل خطراً وتهديداً مباشراً للغرب ومعلوم أن صموئيل هنتنغتون صاحب كتاب «صراع الحضارات» امتداد لتوجه لويس الفكري وثمرة من ثمرات أفكاره، وخصوصاً كتاب صراع الحضارات امتداد لتوجه لويس الفكري وثمرة من ثمرات أفكاره وخصوصاً مؤلفه المعنون باسم «ثقافات متصادمة» المنشور عام 1994.
ولمعرفة مكانة لويس في المؤسسة الاستشراقية وضلوعه بدوره البارز كموجه للسياسة الأميركية في المرحلة الراهنة في ما يخص الإسلام والمسلمين والشرق الاوسط كتب أحد حوارييه عن مقالة في جريدة «يو أس نيوز» الأميركية بتاريخ 3/12/2003 نعت فيها لويس بلقب «حكيم العصر» وجاءت المقالة بعنوان دال ومعبر عن «نفاذ لويس والفكر الصهيوني في جسد المجتمع الأميركي»، «حكيم العصر» صورة لبرنارد لويس:
«يذكر فيها أنه تم استدعاء لويس ست مرات لواشنطن من جانب الساسة في البيت الأبيض والعسكريين في البنتاغون لاستطلاع رأيه بصفته خبيراً وموجهاً في شؤون الإسلام والشرق الأوسط وعلى رغم إعجاب تولسون الواضح بلويس في مقالته إلا أنه يعترف بأيديولوجيته في ما يكتبه عن الشرق الأوسط وتشبثه بموقفه كصهيوني يصدر عن رؤية تستند للمركزية الغربية يقول تولسون: «إن كتابات لويس عن تاريخ وثقافة، وسياسات الشرق الاوسط محملة بأجندة أيديولوجية تجمع بين المركزية الأوروبية والصهيونية، مما جعلها وصاحبها مثاراً للجدل على مدى ما يزيد على الثلاثين عاماً».
وأخيراً كان لكتابيه الأخيرين الأول بعنوان: «أين الخطأ التأثير الغربي واستجابة المسلمين» والثاني «أزمة الإسلام حرب مقدسة وإرهاب غير مقدس» تأثير خاص في الغرب. فقد حققا أرقاماً قياسية في التوزيع نتيجة لشهرة المؤلف والدعاية الضخمة التي تروج لأعماله لأهداف سياسية وثقافية ودينية. وهما مملوءتان بالأخطاء المتعمدة والمكررة من قبل في كتبه السابقة عن الإسلام والمسلمين كمجتمع مغلق نتيجة لإيمانه بدين ثابت لا يعرف المرونة ولا التغير ويرفض الاستجابة لمتغيرات العصر وهذا هو سر تخلف العالم الإسلامي الذي لن يخرج من تخلفه ورجعيته إلا باتباع العلمانية كمنهج غربي والدخول في سياق الحداثة الغربية ومتطلباتها ونبذ التعصب والجمود.
لقد دأب لويس على إلصاق تهم التخلف والرجعية بالإسلام فالتخلف الذي يعانيه العرب والمسلمون المعاصرون نتيجة لثقافات تخاصم روح العصر ولا تؤمن بقيم الحرية والديموقراطية وتظلم المرأة ولا تؤمن بفكر الحداثة الغربية الذي لا مناص منه للتقدم والمدنية. ولا يخفى على باحث منصف عيوب لويس المنهجية في حديثه عن الإسلام ووقوعه في منهج الإسقاط، الذي من خلاله يسقط ثقافاته كيهودي وغربي، يسعى لإلغاء الآخر وتهميشه، على الإسلام الذي يؤمن بحق الآخر في الاختلاف العقائدي والفكري باعتبار أن ذلك سنة كونية.
أحمد عرفات القاضي
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد