الأزمة الإيرانية وتشكيل نظام دولي جديد
الجمل: بانتهاء يوم 31 آب من عام 2006م، دخل ملف أزمة البرنامج الإيراني النووي واحدة من أكثر مراحل تطوراته حرجاً، وذلك على أساس اعتبارات بؤرة الأزمة التي تشكلت من جراء مواقف الطرفين الأساسيين المتشددة: أمريكا وإيران.
وبدءاً من الساعات الأولى من صبيحة يوم 1 أيلول 2006م، يمكن رسم خارطة الأزمة الإيرانية، على النحو الآتي:
أولاً: توزيع القوى:
• القوى الصانعة للأزمة: وتتمثل في ثلاثة قوى رئيسة، وهي:
- إسرائيل: تمثل توجهاتها السياسية الوقود الرئيسي للأزمة، وهي إلى جانب امتلاكها لأكبر ترسانة أسلحة دمار شامل في منطقة الشرق الأوسط، فهي تحرص بشدة على منع وإعاقة القوى الشرق أوسطية الأخرى من تطوير قدراتها الاقتصادية والعسكرية، ولكي تحقق هذا الهدف، ظلت إسرائيل تتبنى استراتيجية الضربة العسكرية الاستباقية في عملية إعاقة قدرات الأطراف الأخرى، وهي الاعتبارات التي قامت على أساسها بعملية ضرب المفاعل النووي العراقي.. إضافة إلى تشديد قيودها ورقابتها الصارمة على مصر، والتي أصبحت بدورها خاضعة تماماً للرغبة الإسرائيلية، على النحو الذي جعل مصر تقوم بإيقاف كل ما يتعلق بتطوير برامجها التسليحية، إلا ضمن الهامش الذي لايثير اعتراض إسرائيل.
- الولايات المتحدة الأمريكية: بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكك وتحلل نظام القطبية الثنائية، ظلت أمريكا تسعى من أجل تحقيق السيطرة على النظام الدولي، ولكي تتمكن من الإمساك تماماً بزمام المبادرة والسيطرة في هذا النظام الدولي، قامت بتبني وانتهاج استراتيجية تجمع بين السيطرة على الموارد وإعاقة القوى العالمية الأخرى عن النمو والتطور.. إلا ضمن هامش الحركة التي يجعلها تضيع خلف أمريكا..
قامت أمريكا برفع نفقاتها الدفاعية، على النحو الذي جعل من هذه النفقات تفوق إجمالي ما تنفقه كل دول العالم الأخرى على ميزانيات دفاعها، بما في ذلك روسيا والصين ودول الاتحاد الأوروبي.. وبرغم أن الولايات المتحدة قد قامت بغض النظر عن الملفين النووي، الهندي والباكستاني، إلا أنها استهدفت الملف النووي الإيراني بشكل ملحوظ، وعلى ما يبدو فإنه استهداف يرجع لسببين، يتمثل الأول في تطابق وانسجام سياستها الخارجية الشرق أوسطية التام مع التوجهات الإسرائيلية. ويتمثل الثاني في سعي الإدارة الأمريكية المحموم من أجل السيطرة على الحزام الذي يشمل: نيجيريا، تشاد، الكونغو، السودان، القرن الأفريقي، السعودية والخليج العربي ومنطقة الشام، وإيران، ومنطقة حوض بحر قزوين، وآسيا الوسطى، وذلك لأن معظم احتياطيات العالم من الطاقة والمعادن الهامة توجد في هذه المنطقة، إضافة إلى أن من يسيطر عليها يسيطر على الأمن الغذائي العالمي، والممرات الاستراتيجية التي تحكم حركة النقل والملاحة في العالم.. وعلى أساس هذه الاعتبارات يمكن القول: إن أطروحة الهيمنة الأمريكية تركز على ضرورة الإمساك تماماً بهذه المنطقة.. كخطوة لابدّ منها من أجل الإمساك نهائياً بزمام المبادرة والسيطرة على مجمل حركة التاريخ العالمي.
- بلدان الاتحاد الأوروبي: برغم أواصر التحالف والترابط الوثيق بين غرب أوروبا وأمريكا، فقد كانت بلدان الاتحاد الأوروبي الرئيسة مثل فرنسا وألمانيا، أكثر إدراكاً لخطورة مخطط الهيمنة الأمريكية.. واتضح ذلك من رفضها للعقوبات ضد ليبيا، وأيضاً رفضها لعملية غزو واحتلال العراق.. وذلك باستثناء بريطانيا، التي اختارت منذ البداية الركوب في قاطرة الهيمنة الأمريكية، ولكن بعد اكتمال الاحتلال الأمريكي للعراق، بدا واضحاً أن ألمانيا وفرنسا قد اختارتا التعامل مع الهيمنة الأمريكية في العالم باعتبارها أمراً واقعاً، وبدا واضحاً بقدر أكبر أنه ثمة اتفاقاً أمريكياً- فرنسياً حول توازنات المصالح الاستراتيجية قد تم ترتيبه، وهو أمر كشفته حركة الأداء السلوكي للسياسة الخارجية الفرنسية في الشرق الأوسط، والدور الذي لعبته في القرارات الدولية: 1559، 1680، 1701، الخاصة بلبنان، إضافة إلى أدوارها في ملفات الأزمات الأخرى، مثل درافور، والحرب الأمريكية المفتوحة ضد الإرهاب.
• القوى المستهدفة بالأزمة:
ويمكن تقسيمها إلى نوعين من القوى وذلك بحسب مرحلة الاستهداف
القوى المستهدفة على المدى القصير (قوى المرحلة الأولى):
- إيران: تمثل حالياً الطرف الرئيس المستهدف بوساطة القوى الصانعة للأزمة، على أساس اعتبارات أنها تقوم بمباشرة برنامج يهدف لإنتاج أسلحة الدمار الشامل.. المحرمة دولياً.
- حلفاء إيران في المنطقة: باستبعاد ليبيا التي اختارت طريقاً آخر، يمكن القول بأن أبرز القوى المستهدفة تتمثل في: سورية، السودان، إضافة إلى القوى التي تهدد إسرائيل والمصالح الأمريكية في المنطقة مثل: الحركات الفلسطينية، حركات المقاومة العراقية، والقوى المناهضة لأمريكا والغرب في منطقة آسيا الوسطى.
القوى المستهدفة على المدى الطويل (قوى المرحلة الثانية):
- روسيا: السيطرة الأمريكية على إيران تفتح لأمريكا باب الدخول الواسع إلى منطقتي آسيا الوسطى وحوض بحر قزوين، وبذلك تكون قد تمكنت تماماً من الإمساك بخاصرة الدب الروسي، وتطويق منطقة القلب الحيوي للدولة الروسية، بشكل لن يكون أمام روسيا بعده سوى القبول بالهيمنة الأمريكية كأمر واقع.
- الصين: سيطرة أمريكا على إيران باعتبارها قيمة مضافة إلى سيطرتها على أفغانستان والعراق، إضافة إلى تغلغلها العميق في باكستان.. من الممكن أن تؤدي إلى قطع أهم شرايين الصين، التي تتعلق بمصادر إمداداتها النفطية، كذلك فإن دخول أمريكا إلى آسيا الوسطى عن طريق البوابة الإيرانية- الأفغانية سوف يؤدي إلى بناء (جدار عازل) أمريكي يفصل بين الصين وروسيا، بشكل يقطع الطريق على عملية تكامل منظمة شنغهاي للتعاون، التي تضم روسيا والصين.. كذلك بالتأكيد سوف تسعى أمريكا بعد ذلك إلى إكمال عملية تغلغلها في إقليم التبت وتعمل على إثارة القلاقل والاضطرابات والحروب الاثنية في الجزء الغربي من الصين، والذي يعتبره معظم المحللين بمثابة قنبلة موقوتة تنتظر من يشعل فتيلها.
- دول الاتحاد الأوروبي: برغم أن الاتحاد الأوروبي يقف حالياً إلى جانب قوى صنع الأزمة (أمريكا وإسرائيل) فإنها أيضاً مستهدفة على المدى الطويل وبالتالي فإن دول الاتحاد الأوروبي بالضرورة تندرج ضمن القوى المستهدفة في المرحلة الثانية، وذلك لأن عملية التتبع التي تسعى إلى تحقيقها أمريكا، لن تستثني أحداً، والأمريكيون يدركون تماماً الخطر الاقتصادي والعسكري الذي يمكن أن تمثله أوروبا.. وقد بدا ذلك واضحاً في الحرب الاقتصادية التي نشأت بين أمريكا ودول الاتحاد الأوروبي خلال السنوات الماضية، وذلك عندما فرضت أمريكا الضرائب على واردات الاتحاد الأوروبي.. ورد الأوروبيون بإجراءات انتقامية تمثلت في رفع الرسوم على واردات السلع الأمريكية.. وبناء على ذلك نقول: إن سيطرة أمريكا على موارد النفط والمعادن والممرات الاستراتيجية، تكون قد أمسكت بالأوروبيين الغربيين تماماً، ووضعهم ضمن (بيت الطاعة) الأمريكي.
ثانياً: مسارات الأزمة:
• قوى صنع الأزمة ممثلة في إسرائيل وأمريكا تعملان ضمن مسارين: الأول معلن ويتمثل في السعي باتجاه حشد تأييد المجتمع الدولي من أجل فرض عقوبات دولية جماعية متعددة الأطراف ضد إيران.. ويقود هذه العقوبات مجلس الأمن الدولي، وذلك حتى تكون ملزمة لكل بلدان العالم.. وبكلمات أخرى: فإن كل دولة تتعاون مع إيران، يتم اعتبارها دولة منتهكة لقرارات مجلس الأمن الدولي، وبالتالي يتم فرض العقوبات الدولية ضدها أيضاً.. وحالياً تعمل قوى صنع الأزمة ضمن مسارين فرعيين، الأول يتمثل في توجهات أمريكا المتشددة من أجل فرض العقوبات، ويتمثل الثاني في بعض التوجهات الأوروبية التي تنادي بالمزيد من الحوار والتفاوض مع إيران.
• القوى المستهدفة بالأزمة، ماتزال غير موحدة في ردود أفعالها إزاء الأداء السلوكي لقوى صنع الأزمة، فـ(قوى المرحلة الأولى) المستهدفة على المدى القصير، تدرك تماماً الخطر المحدق، لذلك تدعم وتؤيد الموقف الإيراني بشكل تام في مواجهة الضغوط والعدوان الأمريكي الإسرائيلي المحتمل، أما (قوى المرحلة الثانية) المستهدفة على المدى الطويل مثل الصين وروسيا، وبلدان الاتحاد الأوروبي، فهي ماتزال غير موحدة في المواقف، وبرغم أنها قوى كبرى لها مكانتها الدولية، وتدرك نخبها الحاكمة تماماً مخطط الهيمنة الأمريكية ومخاطره، إلا أن هذه القوى تتباين في ردود أفعالها، فالأوروبيون يحاولون (تليين) الموقف الأمريكي المتشدد عن طريق مطالبتهم بالمزيد من الحوار والتفاوض، أما الروس والصينيون فبالرغم من أنهم يسيرون ظاهرياً في ركب ضرورة (تليين) المواقف الأمريكية، وعدم التسرع في إصدار العقوبات، إلا أنهم من جهة أخرى لا يتصلبون بمواقفهم بما يؤدي لإيقاف أمريكا وعادة ما يعبرون في مجلس الأمن بالاكتفاء بالامتناع عن التصويت، بدلاً عن الفيتو.. وعلى ما يبدو فإن روسيا والصين تحاولان إفساح المجال للإدارة الأمريكية المندفعة.. والمتهورة بالتورط في المزيد من الحروب والصراعات على النحو الذي يرهق الاقتصاد الأمريكي، ويولد قدراً وطاقة عالية من الكراهية للولايات المتحدة الأمريكية في العام.
وعموماً يمكن القول: إن أفضل سيناريو هو إقناع قوى صنع الأزمة بالمزيد من الحوار والتفاوض مع إيران، وسيناريو الوسط يقول باحتمال فرض العقوبات الدولية ضد إيران.. أما السيناريو الأسوأ فيتمثل في توجيه ضربة أمريكية- إسرائيلية ضد إيران، وعلى الأغلب أن تحدث هذه الضربة خلال مطلع تشرين الأول القادم بحيث تسبق انتخابات الكونغرس الأمريكي التي سوف يتم إجراؤها في شهر تشرين الثاني القادم على أساس اعتبارات أن مؤشر خسارة الجمهوريين لانتخابات الكونغرس قد يدفع النخبة الجمهورية المسيطرة حالياً على الإدارة الأمريكية أن تحاول اللجوء إلى مغامرة ضرب إيران من أجل تحويل الرأس العام الأمريكي في الاتجاه الذي يعزز موقف الحزب الجمهوري الأمريكي، في مواجهة الحزب الديمقراطي الأمريكي، الذي ظل يطالب بوضع جدول زمني لانسحاب القوات الأمريكية من العراق.
الجمل: قسم الدراسات والترجمة
إضافة تعليق جديد