كتاب جيرار لوكومت في ابن قتيبة الدينوري الكاتب المتعدد الاهتمامات
يعادل هذا الكتاب في أهميته وإتقانه كتاب شارل بيلا عن الجاحظ، الذي قدم إحاطة شاملة بشخصية الجاحظ وبعصره، إلى درجة بات بمقدور المرء الزعم بأنه غدا يعرف الجاحظ جيداً، وهذا هو الحال مع جيرار لوكومت الذي قدَّم كتاباً على هذا المستوى، يجعل المرء على معرفة جيدة بابن قتيبة، وقد ترجم هذا الكتاب مؤخراً الدكتور محمود مقداد ونشرته وزارة الثقافة السورية في أكثر من ثمانمئة صفحة.
ولوكومت لم يعرفنا بعصر ابن قتيبة وباللحظات النابضة للعصر العباسي الأول، بل يعرفنا بكامل أبعاد شخصية ابن قتيبة، ولا ينسى في هذا المعمعان مقارنة ابن قتيبة بالجاحظ. فيرى أن هذين الرجلين كمصراعي الباب، لا يمكننا الاهتمام بأحدهما من غير معرفة الآخر، وهما يمثلان اتجاهين إنسانيين متعارضين، ولكنهما متكاملان، وناطقان باسم هذا الاتجاه وذاك: فالأول معتزلي ينحاز إلى العقل والانفتاح الفكري، والثاني يميل إلى المحافظة مع النبل. ولكن لوكومت يعترف بأن هذه الصورة مجتزأة عن الرجلين وليست مكتملة، ولا تخلو من المبالغة، فهاتان الشخصيتان تُعدان – برأيه - أول كاتبين عباسيين متعدِّدي الاهتمامات، وأكبر مؤلِّفين في ميدان الأدب في القرن الثالث للهجرة. غير أن العقل الرصين والمنهجي عند ابن قتيبة يقدم تعريفات أفضل للأدب من الفوضى المتألقة لكتابات الجاحظ. وينبه لوكومت إلى أن كل ما كُتبَ عن ابن قتيبة لفترة قريبة جداً قد تم تجاوزه حالياً على نطاق واسع، فيشكو، من تقصير مؤرخي الفكر عن الإحاطة بإنجاز ابن قتيبة الفكري، الذي ظلت مؤلفاته الأدبية (أدب الكاتب، وعيون الأخبار، والمعارف) هي الوحيدة التي عرفتها مكتبات الغرب، وبقيت على جهلها بالقسم الفقهي والديني من فكره. وعلى هذا يعتقد أنه كشف جوانب من شخصية ابن قتيبة ومن نشاطه الفكري، سيما ذلك المتعلق بالجانب الديني وبالجانب الدنيوي، المتصل بأنشطته الأدبية وبالجوانب الفكرية الأخرى. وهو يقر بصريح العبارة بأن ابن قتيبة: «هو النموذج الكامل للبَحَّاثة المُسلم الذي يسميه بعضهم بالرجل الشريف في عصره»، لذا أراد لهذه الدراسة أن تكون بمثابة الكشف عن العقلية العميقة للقرن الثالث الهجري، وربما بصورة أعمق على موقف المثقفين العرب المسلمين من الحياة في كل العصور.
بعد أن أظهر في مقدماته حياة الفكر والعقل والخيال لعصر ابن قتيبة، وعرَّفنا أن ابن قتيبة هو أبو محمد عبدالله بن مسلم الدينوري: ولد في الكوفة، ثم انتقل إلى مدينة السلام فنشأ وترعرع في المناخ الثقافي الموَّار بالجدل الخصب والتنوع الثري بالأفكار والخيارات الأدبية المفتوحة، لم يكن بعيداً من حوارات المعتزلة، الذين اجتذبوه في بداية حياته الفكرية، ولم يكن بعيداً من جدل نحويي البصرة والكوفة، ولا من التنوع الفقهي والمذهبي الذي زخر به الاجتماع السياسي العربي العباسي. تلقى علومه على يد أبرز علماء زمانه، تلقى النحو على يد علماء أفذاذ مثل أبي حاتم السجستاني، والحديث على يد علماء كبار مثل اسحاق بن راهوية. عمل ابن قتيبة قاضياً لمدينة الدينور برغبة من ولي عهد المتوكل، من هنا أتت نسبته إلى دينور، وعندما عاد إلى بغداد كان المعتزلة قد فقدوا حظوتهم مع تولي المتوكل للخلافة، الذي مد يده لأهل الحديث والسنّة، فاندمج ابن قتيبة في هذا التحول، فأهدى (أدب الكاتب) إلى وزير المتوكل عبيدالله بن خاقان. ولعل كتابه «تأويل مُختلف الحديث» جاء نتيجة لتوجيه صادر إليه لدعم السياسة الدينية التي افتتحها المتوكل.
ثم يعرض لعقيدة ابن قتيبة في خضم تزاحم المذاهب والأفكار وموقفه من العقائد الكبرى في الإسلام، ويعقبه بدراسة منهجه في النقد، وتصوره لتفسير القرآن. ومن ثم يعود إلى تعقُّب العلاقة الرابطة بين التيارات السياسية – الدينية في هذا العصر وبين توجهاته الفكرية. كما يعرض لردِّه على النزعة الشعوبية، ومن هنا يتناول موقفه من اللغات الأجنبية، والانتقال من أفكاره السياسية – الدينية إلى تصوره لقضية الثقافة. لينصرف بعدها إلى سلسلة كاملة من الأفكار التي تتعلق بمكانته بين المدارس اللغوية. ويدرس في الفصل الثامن إحساس كاتبنا تجاه الشعر، لينصرف في الفصل التاسع ليعرِّفنا بمفهوم الأدب عند ابن قتيبة، وبالتالي تصوره للثقافة وعلم الأخلاق الخاص به، وينتهي إلى تقديم لمحات من أسلوب ابن قتيبة ومكانته في زمرة كُتَّاب اللغة العربية. وكان هذا البحث ثمرة عشر سنين من القراءات القُتيبية والدراسة المعمقة لها.
رسم ابن قتيبة في صورة رجل شريف يحرس التقليد بسلاح الفكر والأدب، فكتب «أن موقف المسلم الفكري والأخلاقي، في نهاية القرن الثالث للهجرة. كان ابن قتيبة يشكل النمط المثالي جداً له». لذا، عندما درس أدب ابن قتيبة المنفتح على التعددية، حاول دائماً أن يُعيد تفسيره بطريقة تجعل الجانب الديني يهيمن على تنوع الحياة وعلى الجوانب الدنيوية فيه. علماً أنه من المعروف أن مؤلفي كتب الأدب، أو المعارف العامة، اعتادوا على تضمين كتاباتهم مقاطع مهمة من شتى الثقافات، دليلاً على انفتاحهم وتسامحهم، هاديهم في ذلك القول المأثور: «العلم ضالة المؤمن يأخذها أينما وجدها». وقدَّم ابن قتيبة في كتاباته الأدبية: المعارف، عيون الأخبار، أدب الكاتب، مقاطع كثيرة تؤكد هذا المعنى، وفي هذا السياق أكد أن هناك أدباً للحياة وشرعة له في مقابل أدب الدين وشرعة السلوك الموافق، كما أورد عشرات النصوص الثقافية المستعارة من شتى الثقافات. فساق نصوصاً كثيرة في «عيون الأخبار»، يُميز فيها بين مجالين: المجال الدنيوي والمجال الديني. فكتب «ليس الطريق إلى الله واحداً، ولا كل الخير مجتمعاً في تهجُّد الليل، وسَرْد الصيام، وعلم الحلال والحرام، بل الطُرقُ إليه كثيرة، وأبواب الخير واسعة، وصلاح الدين بصلاح الزمان وصلاح الزمان بصلاح السلطان»، وكأننا هنا أمام موقف علماني صريح، وكتب في نص آخر «فإن العلم ضآلة المؤمن من حيث أخذه نَفَعهُ، ولن يُزْرِي بالحق أن تسمعه من المشركين. ومن ترك أخذَ الحَسَنِ من موضعه أضاع الفرصة. وكل قديم حديثٌ في عصره»،غير أن لوكومت يأخذ هذه الألفاظ على غير معانيها الظاهرة لمصلحة تفسير يجعل الديني مهيمناً على الدنيوي!
شمس الدين الكيلاني
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد