أميركا لم تؤسّس «داعش»... ولكن
تتعاظم النظريّات وتتوارد حول أصول تأسيس حركة «داعش» في الإعلام والثقافة العربيّة. لم يحدث أن صعدت حركة بهذه السرعة وأن تمتّعت بالقدرة على بسط النفوذ على أراضٍ شاسعة لهذه الدرجة. هناك تحليلات عديدة عن ظروف تأسيس «داعش»، أسخفها مِن أبواق آل سعود في الغرب الذين - رغبة منهم في تبرئة النظام الراعي - يوغلون ـ على طريقة فؤاد عجمي الليكودي اللبناني ـ في لوم العرب والمسلمين على كلّ ما يعانيه العرب والمسلمون. يصبح في هذه السرديّة الغزاة الإسرائيليّون والأميركيّون مجرّد عابري سبيل، أو سيّاح متجوّلين.
لكن السؤال الذي لا جواب له عند هؤلاء: إذا كان التخلّف العربي هو الذي ولّد «داعش» فلماذا كانت الولادة دراماتيكيّة ومفاجئة، ولماذا لم تكن الحركة لتنمو بالتدريج مثل الحركات الإسلاميّة التي زخر بها العالم العربي على امتداد العقود الماضية؟ لكن الدعاية السياسيّة ليست علوماً اجتماعية ولا يمكن الركون إليها لتحليل أو تفسير ظواهر اجتماعيّة أو اقتصاديّة.
نستطيع في البداية أن نؤكّد أن بعض النظريّات السائدة في إعلام الممانعة خاطئة بالنسبة إلى أصول «داعش»: لم يرد في كتاب هيلاري كلينتون الأخير انها اجتمعت مع محمّد مرسي (أو مع قادة من الإخوان في روايات أخرى) من أجل وضع لمسات اتفاق نهائي على إنشاء «داعش». لم تكن «داعش» في الحسبان عندما كتبت هيلاري (أو عندما كتب مساعدوها) كتابها. والنظريّة أن جون ماكين عقد اجتماعاً مع أبو بكر البغدادي ليست صحيحة هي الأخرى: نجح «داعش» في دحض تلك النظريّة بفعاليّة على مواقع التواصل عندما فنّد 100 من الأكاذيب - كما وصفها - عنه. (إن نشر الأكاذيب عن أفعال «داعش» من قبل الإعلام النفطي والغازي يساهم في دعم دعاية «داعش» لأن قدرته على دحض الأكاذيب تعزّز الشكوك في صحّة جرائم حقيقيّة يرتكبها، إذ إنه يزرع الريبة في نفوس العامّة في الأخبار عن الحركة). وليس صحيحاً أيضاً (أستطيع ان أؤكّد) أن وثائق إدوار سنودن تتضمّن «خبريّة» عن «داعش» وعن أن أبو بكر البغدادي هو صنيعة وكالة الاستخبارات الأميركيّة.
أما الصحيح فهو ان البغدادي قضى وقتاً في سجون الاحتلال الأميركي في العراق. وليس صحيحاً ما ورد في بعض وسائل الإعلام الأميركي ان البغدادي قضى في معتقل «بوكا» الأميركي في العراق بين سنوات 2005 و2009، بينما هو لم يقضِ أكثر من أشهر عام 2004. من المُستغرب ان البغدادي، على الرغم من أهميّته في تنظيم «القاعدة» في العراق، أطلق سراحُه بسرعة قياسيّة مع ان الحكومة الأميركيّة لم تتورّع عن اعتقال أحداث في غوانتانمو وفي أفغانستان وفي العراق بالرغم من عدم ثبوت تورّطهم في أعمال تسمّيها أميركا (إذ انها وحدها يحقّ لها التعريف) بـ«الإرهابيّة». لماذا يحق التساؤل عن سبب إطلاق سراح شاكر العبسي من سجون النظام السوري ولا يحقّ التساؤل عن التعاطي الرؤوف مع البغدادي في الأسر الأميركي؟ ما هي ظروف اعتقال وإطلاق سراح البغدادي السريع؟ لم تجب أميركا للساعة عن هذا السؤال كما ان مسؤولاً عسكرياً أميركياً سابقاً تحدّث للصحافة عن اعتقال البغدادي وزعم انه بقي في المعتقل لسنوات، وهذا كذب.رعت أميركا نظام أنور السادات لخدمة أغراضها في الحرب الباردة
هذا لا يعني ان هناك أسس لبضع نظريّات المؤامرة السائدة في العالم العربي عن ظروف إنشاء «داعش»، وأن الحكومة الأميركيّة هي كانت وراء تأسيس التنظيم بصورة مباشرة، أو أن بن لادن يستمتع بأشعّة الشمس على شواطئ هاواي بحراسة الشرطة الأميركيّة. من الضروري التمييز في الأخذ بنظريّات المؤامرة بين المؤامرات الحقيقيّة وبين المؤامرات المُتخيّلة. لم تكن أميركا، مثلاً، وراء تفجيرات 11 أيلول، وليس صحيحاً ما يتداوله بعض العرب عن ان اليهود أحجموا عن القدوم إلى مكاتبهم في نيويورك يوم 11 أيلول (على افتراض - من أصحاب النظريّة تلك - أن العدوّ الإسرائيلي اعلمهم مُسبقاً بموعد التفجيرات). هناك خزعبلات يصدّقها بعض العرب، كما أن هناك خزعبلات يصدّقها بعض الأميركيّين (إن نظريّات المؤامرة عن اغتيال كينيدي لم تزدها السنون إلا عدداً).
لكن تحميل أميركا مسؤوليّة تفريخ التنظيمات الإرهابيّة الجهاديّة له أسس تاريخيّة وسياسيّة حقيقيّة. لم يأتِ تنظيم «القاعدة» من عدم، بل هو وليد سنوات وعقود طويلة من التآمر الأميركي في منطقتنا العربيّة في حقبة الحرب الباردة. إن التأثير المباشر وغير المباشر للحكومة الأميركيّة في رسم الخريطة السياسيّة للمنطقة العربيّة في بعد الحرب العالميّة الثانيّة لا يقلّ عن المفاعيل الكارثيّة لاتفاقيّة سايس-بيكو: هي قرّرت (وتقرّر) من يستحق البقاء ومن يستحق الزوال من الأنظمة العربيّة (وحتى من الكيانات)، وهي التي قرّرت (وتقرّر) من يستحق التقسيم ومين يستحق التوحيد من الكيانات العربيّة (هي كانت وراء تقسيم السودان والعراق وهي التي كانت بهدف إنهاء تجربة الحكم الماركسي في جنوب اليمن - وراء القضاء على جمهوريّة اليمن الجنوبي).
إن الحرب الباردة (الأميركيّة) خاضت معارك وحروباً من أجل منع التحوّل السياسي عن المنطقة العربيّة. كان العالم العربي في الخمسينيات والستينيات واعداً من حيث انتشار الفكر المتحرّر والتوحيدي والتقدّمي والنسوي، لكن أميركا حاربته في كل موقع وكيان من أجل ترسيخ بنى الأنظمة الرجعيّة التي كانت - ولا تزال - تعقد معها أوثق علاقات التحالف. اعترف أرتشي روزفلت، المسؤول السابق عن الشرق الأوسط في وكالة الاستخبارات الأميركيّة، في كتابه «من أجل شبق المعرفة» أنّ حكومته كانت توازي بين الخطر الشيوعي وبين الخطر القومي العربي وان كل تجليّات الفكرة الأخيرة كانت تُحارب من قبل أميركا. لم تستقرّ القطريّة، كياناً وأفكاراً، هكذا اعتباطاً في مجتمعاتنا. إن الترويج للفكر التجزيئي التقسيمي المحلّي والقبلي (مَن ينعش العشائر غير الاستعمار الغربي؟) كلّف أنظمة الخليج مليارات كلّفتها أميركا بإنفاقها (ليس من جيبها) دعماً لديمومة الأنظمة. العيد الوطني السعودي ومتحف ملابس ونعال «الملك المؤسّس» بالإضافة إلى رقصة كركلا عن منجزات الشيخ زايد الأمّي، كل ذلك كان من أجل الإيحاء بوجود أمّة على نطاق مضرب خيمة في الصحارى العربيّة. ينتظم الأولاد في المدارس ويستمعون لمحاضرات مملّة عن إنجازات وعظمة كياناتهم التي باتت، على طريقة الكيان اللبناني المسخ، تستقي إلهامها الإيديولوجي من تاريخ سحيق لحضارات أخرى ومن مسرحيّات باهظة الأثمان عن حضارات لم تقم لها قائمة يوماً.
والصراع العربي في الخمسينيات والستينيات كان جزءاً منه حرب مباركة بين فكر تنويري وفهم تقدّمي للإسلام ساد بين الناس وبدعم من النظام الناصري المؤثّر، بين الفكر الرجعي الحنبلي الذي تبنّته أنظمة النفظ والغاز، والتي حال بينها وبين سقوطها الدعم الغربي المباشر. في تلك الحقبة، عوّلت الحكومة الأميركيّة على شبكة من الحلفاء من المغرب إلى الخليج للحفاظ على مصالحها هي، حتى لو على حساب مصالح الشعب العربي. ولم يكن العدوّ الإسرائيلي بعيداً من التشكيلة السياسيّة التي زرعها الاستعمار بيننا: النظام الأردني كان منضوياً في الحلف الرجعي الديني - حتى الملك حسين ضربته «نوبة الدين»، كما سخر منه جمال عبد الناصر. رعى النظام الأردني أوّل حزب رجعي يدعو إلى إقامة الخلافة («حزب التحرير»). لم يكن الدين عاملاً في السياسة الخارجيّة للدولة السعوديّة إلا بعد أن أوعزت لها أميركا بضرورة فعل ذلك. لم تكن للنظام السعودي سياسة خارجيّة غير ترجمة عربيّة لسياسات بريطانيا.
باشرت اميركا مُبكّرة (في الخمسينيات) مشروعها لما يسمّيه فهمي الهويدي بـ«استدعاء الدين» لأغراض سياسيّة (محمودة غالباً في نظر الأخير). استدعت أميركا الدين الإسلامي لتقويض بنيان الحركات السياسيّة التقدميّة (على أنواعها الغنيّة والمزدهرة آنذاك، وليس الشيوعيّة منها فقط - لم يكن المهدي بن بركة شيوعيّاً، ولقد تعاونت استخبارات العدوّ الإسرائيلي والفرنسي، وربما الأميركي، على التخلّص منه كرمى لعيون الطاغي الحسن الثاني). أميركا قرّرت الاستعانة بالإسلام الرجعي قبل ان تستفيق المملكة السعوديّة على فائدة رميه بوجه جمال عبد الناصر (بعدها، دأب الإعلام السعودي على تكفير عبد الناصر وعلى تكفير كل من لا يتفق بالرأي مع سياسات أنظمة الخليج). كانت الحكومة الأميركيّة تدعو رجال الدين المسلمين من كل أنحاء العالم العربي من أجل بلورة رؤية مشتركة ضد الشيوعيّة والاشتراكيّة بحجّة محاربة الإلحاد. وقد عقدت الحكومة الأميركيّة مؤتمراً عن الإسلام في جامعة «برنستون» في منتصف الخمسينيات ودعت إليه رجال دين من كل أنحاء العالم الإسلامي. ورعت الحكومة الأميركيّة مؤتمر مؤسّسة دراسة الاتحاد السوفياتي في ميونيخ في حزيران 1960 عن «الإسلام والشيوعيّة» (راجع الكتاب الذي نُشر عنه من قِبل جان بينار).
لكن الإسلام الرجعي لم يكن فعّالاً أبداً في عهد عبد الناصر، لكن استدعاءه من قبل نظام أنور السادات (الرئيس «المؤمن» - أسبغ اللقب على نفسه قبل ان يسبغ الملك الفهد لقب «خادم الحرميْن» على نفسه، وكأن خدع كسب الشرعيّة السياسة لم تكن بادية للعيان) زاد من الفعّاليّة. تلاقت هزيمة 1967 مع الإصرار الأميركي على ضرورة استدعاء الإسلام الرجعي الذي يتفق مع عقيدة آل سعود لتنعش من الحركات الإسلاميّة في العالم العربي. وكان الملك حسين دؤوباً هو الآخر على رعاية الإسلام الرجعي بوجه الحركات التقدميّة التي عرفها الأردن منذ الخمسينيات. ورعت أميركا نظام أنور السادات الذي أطلق العنان للحركات الإسلاميّة في مصر وفي العالم العربي لخدمة أغراضها في الحرب الباردة. وسمح النظام المصري بعودة دعاة الفتنة والرجعيّة والظلاميّة من دول الخليج (بعد ان كان النظام الناصري قد أقصاهم بأدب شديد خلافاً لدعايات ظالمة عن حملات إعدام - يعدم النظام السعودي في شهر من الزمان أكثر مما أعدم النظام الناصري في تاريخه). في المقابل، قاد عبد الناصر ثورة حقيقيّة في المؤسّسات الدينيّة المصريّة (والعربيّة) وكرّس فصل الدين عن الدولة من دون إعلانات استعراضيّة للغرب على طريقة بورقيبة (في مؤتمر صحافي من عام 1990، في أواخر كانون الثاني أعلن جورج حاوي ان الحزب الشيوعي اللبناني قرّر أن يتخلّى عن «نشر الإلحاد». لكن متى وكيف نشر هذا الحزب الإلحاد مرّة واحدة في تاريخه؟) شعر رجال الدين بسطوة الفكر التقدّمي واضطرّ بعضهم إلى الدفاع عن معتقداتهم بوجهه (كتب مصطفى السباعي، مؤسّس حركة الإخوان المسلمين في سوريا، كتاباً عن «اشتراكيّة الإسلام»). وقد طوّع السادات الأزهر بمنحى التزمّت السعودي الوهّابي المترافق مع التساهل الديني والسياسي مع العدوّ الإسرائيلي واتلالاته.
ولا يجب التقليل من فعاليّة الإسلام الرجعي في الثقافة السياسيّة المصريّة والهويّة المصريّة: تحوّل السياسة المصريّة وتعريف الهويّة من الحقبة الناصريّة بسرعة نسبيّة. كما أن العصر النفطي بعد 1973 أدّى إلى سيطرة هائلة على وسائل الإعلام والثقافة في العالم العربي. لم يكن اندحار اليسار والشيوعيّة في العالم العربي (هل مَن لا يزال يذكر ان الحزب الشيوعي السوداني كان في عهدٍ ما أكبر حزب سياسي في كل العالم العربي؟) عفويّاً، أو بناء على عوامل ذاتيّة فقط.
لكن عصر ريغان هو الذي أطلق العنان للجنون الإرهابي المُتلبّس بالدين. إن الحلف الوثيق الذي عقده الملك فهد (منذ ان كان أميراً) مع رونالد ريغان (وبمشاركة مباشرة من بندر بن سلطان) غيّر من معالم السياسات العربيّة والأميركيّة في المنطقة الأميركيّة. نشط فهد كما لم ينشط طاغية عربي قبله في مدّ العون المالي والعسكري للحكومة الأميركيّة لمحاربة الشيوعيّة حول العالم، من اليمن إلى أفريقيا إلى إيطاليا حيث كان النظام السعودي يموّل الحزب الديمقراطي المسيحي اليميني منعاً لوصول أكبر حزب شيوعي أوروبي إلى السلطة، إضافة إلى تمويل النظام السعودي إلى حركات عنصريّة يمينيّة قريبة من نظام الفصل العنصري في أفريقيا، مثل حركة جوناس سفمبي في أنغولا). والملك فهد، ربما لعلمه بتاريخه الطويل البعيد من التُقى والورع المزروع بالقوّة في المناهج الدارسيّة والقوانين في المملكة، بالغ في تمويل الحركات الإسلاميّة حول العالم (تستطيع ان تستشفّ من الأرقام تنامي التمويل السعودي لدعاة الوهّابية: ففي عام 1975 بلغ حجم التمويل السعودي - فقط من خلال رابطة العالم الإسلامي من خلال تقريرها لعام 1987 - للدعاة وحفظة القرآن حول العالم 2378000 ريال سعودي، فيبما بلغ عام 1983 قيمة 25655000 ريال سعودي. ولم تكن الحكومة الأميركيّة بعيدة من هذا الجهد فقد سمحت بمضاعفة التمويل السعودي لدعاة الوهّابيّة في أميركا نفسها (من خلال الرابطة فقط) بين عام 1981 و1982 ليبلغ 2321000 ريال سعودي.
كما أن «مؤسّسة الحرميْن» ذكرت في تقريرها المالي لعام 2003 أن 35% من إنفاقهما الإجمالي رُصد للتعليم الديني والدعوة مقابل 14% فقط للإغاثة. ومن الجدير بالذكر ان الحكومة الأميركيّة أمرت النظام السعودي بحلّ المؤسّسة المذكورة لأن أموالها أنفقت على أعمال «إرهابيّة»).
لكن عقيدة ريغان (التي حكمت بردّ النفوذ الشيوعي وليس إحتواءه فقط) بلغت أوجها بعد الاجتياح السوفياتي لأفغانستان. عقدت أميركا النيّة على كسر شوكة الاتحاد السوفياتي في أوّل حرب ليست بالواسطة في الحرب الباردة: تحمّس ريغان لتسخين الحرب تلك واستعان بالنظام السعودي الذي شاركه الحماسة نفسها. إن أميركا هي التي أنشأت أوّل جيش إسلامي جهادي عالمي يسعى إلى إقامة خلافة. لم تكن الخلافة تلك تقلق راحة الإدارة الأميركيّة (التي شبّه رئيسها «جيش المجاهدين الأفغان» بـ«الآباء المؤسّسين» للجمهوريّة الأميركيّة) طالما هي تأتي على أنقاض الحكم الشيوعي. لم يكن الجيش الأممي بدافع الارتزاق بل طمعاً بالجنّة وطيّباتها.
ولد بن لادن من رحم هذا الجيش العالمي الذي أشرف تركي الفيصل (الذي يجود بنظريّات حول «محاربة الإرهاب» هذه الأيّام) على تنظيمه وتمويله وتسليحه - شراكة مع الاستخبارات الأميركيّة. لم تفصح الحكومتان بعد عن طبيعة العلاقات بين عملاء الوكالة على الأرض الباكستانيّة وبين بن لادن (على الأقل يعترف كل أمراء آل سعود، بما فيهم الملك الحالي، بعلاقاتهم مع بن لادن ولا يزال تركي الفيصل يشيد به ويخمّن ان المصري الظواهري هو الذي أفسده)، لكن «إيكونوميست» الرصينة قالت في خريف 2001 إنّ الاستخبارات الغربيّة بقيت على علاقة معه حتى 1994. كان بن لادن مُتلقّياً أساسياً للسلاح والمال السعودي ــ الأميركي في تلك الحرب. (كتب أحمد رشيد باستفاضة عن تلك الحرب في كتابيْه «طالبان» و«جهاد»، واتهم جورج دبليو بوش بسرقة كتاباته في مذكّراته).
لكن الفيلم الأميركي المُتوحّش لم ينته في أفغانستان. لقد فتح الغزو الأميركي للعراق الباب أمام تشكيل تقليد لمبادرة أميركا الأفغانيّة: لم تنشئ الحكومة الأميركيّة تنظيم «القاعدة في بلاد الرافديْن» لكن لم يكن سيُكتب للتنظيم هذا ولقائده حياة لولا غزو العراق. ويغلب الغرور والصلف على سلوك الإمبراطوريّات ما يحكم عليهم بتكرار أخطائهم، ما يوقعهم فيما بعد في تهلكة حتميّة. أعادت الحكومة الأميركيّة السيناريو نفسه في إصرارها على إسقاط نظام القذّافي (الذي كان قد قبل بخدمتها لكن حلمت بنظام يحاكي في طاعته أنظمة الخليج والأردن)، سلّحت وموّلت عصابات من الجهاديّة السلفيّة من كل الأقطار العربيّة، وزادت عليها سماحها لدول الخليج بالعون المالي والحربي. من المحتم ان المثال ليبي مُقبل على توحّشات إضافيّة بلمسات أميركيّة. ستعود أميركا (بسلاحها) إلى ليبيا، كما عادت إلى أفغانستان عام 2001.
لكن تشكيل تنظيم «داعش» كان حتميّاً. لم تتبنّ الإدارة الأميركيّة الفتنة المذهبيّة التي أشعلتها السعوديّة عام 2003 بالتفاهم مع أميركا (وذلك من أجل تقويض دعائم التأييد الشعبي لحركات المقاومة ومن أجل تحويل العداء العربي ضد دولة العدوّ إلى عداء مُوحّد ضد إيران) فحسب بل هي ساهمت في خلق الأجواء الملائمة من أجل انبعاث أعتى حركات الإرهاب والتعصّب في العالم. كان محتّماً ان تولد حركة «داعش» و«النصرة» وغيرها من التنظيمات التي تعجّ بها الساحة السوريّة، ولو لم تولد تلك الحركات لكان واجباً خلقها. إن سيناريو أفغانستان وليبيا يُعاد صنعه مرّة أخرى، لكن في التكرار بشاعة ووحشيّة أفظع. لم يقم النظام القطري والسعودي والتركي بتسليح وتمويل ورعاية حركات إرهابيّة جهاديّة مسلّحة من دون إذن ورضى أميركي. هذه أنظمة مطيعة إلى درجة الذلّ، وهي لا تغضب أميركا عن قصد. هي نسّقت مع الحكومة الأميركيّة في قراراتها في سوريا، كما ان الصحف الأميركيّة كانت تعترف ان عملاء للاستخبارات الأميركيّة كانوا موجودين على الأرض في سوريا وينسّقون عمليّات التمويل والتسليح، مع إعلانات مضحكة عن وضع أختام الاعتدال الأميركي على «الثوّار» (وبالمعيار الأميركي، فإن ابن باز وابن تيميّة هما في صفّ الاعتدال).
إن الحكومة الأميركيّة مسؤولة بالدرجة الأولى عن خلق «البيئة الحاضنة» لعصابات الإرهاب في سوريا. هي كالعادة أصبحت مهووسة بضرورة قلب نظام إلى درجة ان الوسائل لم تعد ذات أهميّة لديها إلا بعد ان هدّد تنامي التنظيمات تلك مصالحها ومصالح وكلائها في العراق. هناك من يعترض أن العرب ينزعون نحو لوم أميركا على مصائبهم، لكن المصيبة ان العرب لا يلومون أميركا بما فيه الكفاية على ما يمرّ عليهم من مصائب وويلات.
أسعد أبو خليل
المصدر: الأخبار
التعليقات
عبثاً
إضافة تعليق جديد