الذاكرة القومية في الرواية العربية
أخذت الرواية العربية تحتل مكاناً واسعاً في الدراسات الأدبية والفكرية لأسباب عديدة، أبرزها صعود نجمها في الآونة الأخيرة وتسيّدها المجال الأدبي، وراح الباحثون والكتاب يتناولونها من جوانب مختلف، ويربطونها بمواضيع عدة. وفي هذا السياق يدرس فيصل دراج، في كتابه (الذاكرة القومية في الرواية لعربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2008)، موضوع الرواية والقومية، من جهة أن الرواية العربية، منذ بداية القرن العشرين إلى نهايته، تتعيّن ذاكرة قومية سجلت، بدأب واجتهاد، ما تطلع إليه الإنسان العربي ولم يظفر به، مع أن مصطلح «الذاكرة القومية العربية» قد يبدو هنا رغبة لا أكثر، أو نعتاً لشيء لا وجود له، لأن الواقع الرسمي العربي أنتج «وطنيات متعددة»، مثلما أنّ تحوّلات المجتمع العربي بعد هزيمة حزيران 67 جعلت من «الهوية القومية العربية» أمراً ملتبساً. ومع ذلك، فإن فيصل دراج يرى «الذاكرة القومية العربية» مصطلحاً يمكن العثور على ما يسوّغه في مرجعين أساسيين، أولهما الشعور القومي الشعبي الذي يردّ إلى موروث متعدد الطبقات، بعيداً عن أيديولوجيات رسمية تقول بالعروبة وتؤسس لنقيضها، وثانيهما اللغة العربية، التي يكتب بها الروائيون العرب أعمالهم في بلدانهم المختلفة. وعليه يلجأ إلى استبطان معرفي انتقادي، يكشف عن الحالات التي فيها الرواية العربية، على ذاكرة مكتوبة واسعة، وأخذ الخطاب الروائي الذي يوحد بين الواقعي والمتخيل ينتج معرفة موضوعية ترفض واقع الاغتراب وتقترح مجتمعاً جديداً.
ويرى فيصل دراج أن دراسة العلاقة بين القومية والرواية العربية لا تلتزم بالمنهج الذي أخذ به مؤرخو الرواية الأوروبيون، بسبب اختلاف الشروط التاريخية، التي أنتجت الرواية والقومية العربيتين، إذ لم ترتبط القومية العربية، في زمن ولادتها، بـ «ثورة قومية»، قادتها طبقة مهيمنة منتصرة، بحسب ما كانت حال البرجوازية الفرنسية على سبيل المثال، كما لم تتعرف الرواية العربية الى «دولة ـ قومية»، تؤمن لها شروط الازدهار والانتشار، ذلك أن الوعي القومي في البلاد العربية صدر عن وعي حداثي سبق قيام «الدولة الوطنية»، وكذلك كانت حال الكتابة الروائية. وقد حددت حداثة هاتين الظاهرتين علاقتيهما بالدولة العربية، بعد الاستقلال الوطني، فتطورتا في شروط الصعود القومي، بالمعنى النسبي، وأصابهما التبدّل والتراجع في الشروط المغايرة.
وينطوي الموضع المدروس على الربط بين تكوّن الظاهرة القومية، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وصعود الرواية كجنس أدبي حديث، وتأكيد دور الرواية في الإفصاح عن الوعي القومي ونشره، سواء كان ذلك عن طريق تصوير ماض مجيد ينبغي بعثه ومحاكاته، أو التبشير بمستقبل مشرق يعكس طموحات الأمة الصاعدة. وتجد هذه المسوغات مرتجعها في تاريخ الأدب، في حين دراسة الأساليب الأدبية تفضي إلى رصد العلاقة القائمة بين أسلوب الروائي ووعيه القومي، بوصف الأسلوب إفصاحاً عن الوعي ومرآة له. وما سبق يستند إلى اعتبار الرواية حيزاً كتابياً نوعياً، يصوغ «جوهر الأمة»، كما يرغب أفرادها في أن تكون.
ولعل خصوصية البلاد العربية التي كانت مستعمرة، وبقيت هدفاً استعمارياً، هي التي جعلت حلم التحرر الوطني عنصراً داخلياً في الوعي الروائي للعالم، من جهة أن الشرط الاجتماعي الحداثي، الذي لا تنهض الرواية اجتماعياً إلا به، لا يستوي من دون تحرر وطني حقيقي.
وينظر فيصل دراج إلى الكتابة الروائية بوصفها تطلعت، منذ البداية، إلى مجتمع عربي تتحقق فيه الحداثة الاجتماعية والتحرر الوطني في آن. وشكّل هذان الهدفان فرقاً، في المنظور الموضوع، بين الرواية العربية والرواية الأوروبية، على اعتبار أن شروط «الفرد المغترب»، وهو محور الكتابة الروائية بشكل عام، تختلف من مجتمع إلى آخر. فإذا كان اغتراب الفرد في الرواية الغربية يعود إلى أسباب تلت تحقيق الحداثة الاجتماعية وانتصار الدولة ـ القومية، فإن اغتراب الإنسان العربي صدر، ويصدر، عن أسباب مغايرة، فلا الحداثة الاجتماعية تحققت، ولا التحرر القومي عثر على مآله الصحيح، ولا الدولة القومية القائدة المهيمنة برهنت عن وجودها. وقد رصدت الرواية العربية، والحال هذه، شكلين من الاغتراب: اغترابها الذاتي، ذلك أنها لا تصبح ظاهرة ثقافية اجتماعية إلا في مجتمع ديموقراطي يتمتع ببيئة ثقافية راسخة، واغتراب الإنسان العربي الذي حلم، قبل الاستقلال الوطني، بعصر عربي جديد يجمع بين الازدهار الاجتماعي والوحدة العربية وهزيمة المشروع الصهيوني.
-ويحدد فيصل دراج ثلاث مقولات درجت عليها الرواية العربية في القرن العشرين، وتتجسد في التفاؤل الطليق، الذي أعلنه توفيق الحكيم في عودة الروح وطه حسين في دعاء الكروان وتوفيق يوسف عواد في الرغيف، واستأنفه حنا مينة وجبرا إبراهيم جبرا والطاهر وطار إلى نهاية ستينيات القرن الماضي تقريباً. ثم جاء نقيضه التشاؤم، الذي أخذ أبعاداً شاسعة في أعمال كثيرة أخرى. وبين التفاؤل والتشاؤم ولدت وتمدّدت مقولة الاحتجاج، التي جعلت من ثنائية الدولة ـ الجلاد / والمواطن- الضحية قواماً لها، راثية ماضياً قريباً وناعية مستقبلاً لا أمل به. أخذت الرواية المتفائلة ببنية حكائية بسيطة، يتوسطها بطل رومانسي يستدعي المستقبل الذهبي إلى الحاضر، ويرى في الحاضر مرضاً عابراً سريع الرحيل. بيد أن هذه البنية البسيطة، التي تسرد الخير المنتصر على نقيضه، أعطت المكان، لاحقاً، لبنية روائية معقدة، تأمرها الرقابة السلطوية وبالتساؤل والأحكام المؤجلة.
ويعتبر دراج أن الرواية قامت بتوحيد المجتمع العربي قومياً مرتين، مرة أولى وهي تبرهن عن قومية النص الروائي، كأن تكتب المصرية رضوى عاشور عن «الأندلس» وهي تهجس بفلسطين، أو أن يكتب السعودي عبد الرحمن منيف عن العراق وهو مقيم في دمشق، ومرة ثانية وهي تتحدث عن «قومية الجماهير العربية»، بعيداً عن سلطات تلفيقية الشعارات والممارسات صيّر الالتزام القومي الروائي مؤرخاً نوعياً يسجل ما يقول به المؤرخون التقليديون ويتدارك ما لا يستطيعون التصريح به.
غير أن الروائي العربي ينهض، في رصده الوقائع العربية من «نهضة مصر» عام 1919 إلى «التحالف الدولي ضد العراق»، بدور المؤرخ الذي سجّل مسار الهزائم القومية مرتكناً إلى تحوّلات الإنسان العربي في حياته اليومية، فتحدث عن السجن والسجين والمغترب والمتداعي والمهزوم الذي أزهقه تراكم الهزائم.
وقد حقّق الروائـي دوره كــمؤرخ استناداً إلى كون الرواية، نظرياً، تبدأ بالإنسان المغترب وتنتهي به، وهي تتطلع دوماً إلى «مدينة فاضلة» منشودة، وتواجه ما ينقض هذه المدينة ويقوّض أسسها. وهذا الاغتراب المتجدد فرض «الهوية الوطنية» بوصفها علاقة داخلية في الكتابة الروائي، وأجبرها على حوار مستمر مع «التاريخ الوطني»، الذي أنتج هوية معوّقة. من هنا نفهم لماذا رجع الروائيون العرب، بعد هزيمة حزيران، إلى أزمنة بعيدة، اشتملت على سقوط الأندلس والاحتلال الإنكليزي للعراق وثورة عرابي وبدايات ظهور الثورة النفطية. مع ذلك فإن وضع الروائي ـ المؤرخ لم يصدر فقط عن خصائص الرواية، التي تدور حول الاغتراب الإنساني في أسبابه المختلفة، فهناك «المؤرخ المهني» المقموع، الذي تملي عليه السلطات أن يكتب «تاريخاً رسمياً» لا علاقة له بالوقائع الفعلية. ويتوقف دراج عند ما قدمه العديد من الكتاب والنقاد والروائيين، كي يناقش ويحلل ما كتبوه وطرحوه من مقولات وأسئلة مفهومية ونظرية ومنهجية، ثم يصوغ العديد من أجوبته في نص انتقادي حيناً، واستقرائي حيناً آخر، لكن التســاؤل المحيّر الذي يطرحه هو: إذا كان صعود الرواية قد ارتبط، نظرياً، بصعود القومية، فما هو وضع القومية العربية في شرط تاريخي يفصح عن هامشية الجنس الأدبي المنتمي إليها؟
عمر كوش
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد