الظاهرة الإسلامية في آسيا الوسطي.. إشكالية السياسة ومرجعية الثقافة
إن إحدي المفارقات الكبري للتاريخ والثقافة هي أن يجري الحديث عن’ ظاهرة إسلامية’ في عالم إسلامي! لكنها حالما تظهر إلي الوجود, فإن ذلك مؤشر علي فاعلية قضية تحتوي بقدر واحد علي إشكالية المعني المضطرب وتنوع الاحتمال المستقبلي. لهذا سوف أركز في هذا البحث علي هذين الجانبين دون الخوض بإسهاب في القضايا المتعلقة بتاريخ وحيثيات’ العامل الإسلامي’, و’التسييس الإسلامي’, و’الإسلام السياسي’ ومختلف أشكال ومظاهر الأحزاب والحركات السياسية الإسلامية في روسيا وجمهوريات آسيا الوسطي الإسلامية, وذلك لما في إشكالية الإسلام وأبعاده الثقافية والمرجعية من قيمة كبري بالنسبة لفهم مقدمات ومستقبل’ الإسلام’ في روسيا وآسيا الوسطي. وليس مصادفة أن تندفع إلي مقدمة المواجهات والصراعات الفكرية والسياسية قضايا’ الخطر الإسلامي’, و’صراع الحضارات’, وما شابه ذلك بعد انتهاء مرحلة’ الحرب الباردة’(1),. وهي ظاهرة ليست مفتعلة, بقدر ما أنها تكمن في كيفية ونوعية التحسس المشوه لما يمكن دعوته بآفاق البدائل الكامنة في’ العالم الإسلامي’(2). ومن ثم غياب الحدس القادر علي فهم وإدراك العلاقة الجديدة بين الإسلام والسياسة بمعايير البدائل المحتملة, أي فهم علاقة المصالح السياسية والبدائل الممكنة بمعايير انتمائها الطبيعي للإرث التاريخي الثقافي الذاتي.
إن المقدمة المنهجية التي عادة ما تضعف أو تسحق الحدس الضروري بالنسبة لفهم خصوصية الثقافات الكبري تقوم في البقاء ضمن حيز الرؤية التاريخية الثقافية الذاتية, بمعني البقاء ضمن إسار الرؤية المستبطنة للمواقف القيمية تجاه النفس والآخرين. من هنا سيادة الرؤية التاريخية الأوروبية المحكومة بتقاليد العلاقة المتوترة والخشنة بين الكنيسة والدولة عبر نقلها إلي مستوي علاقة الدين بالسياسة في حال النظر إلي الظاهرة الإسلامية الحديثة. بعبارة أخري, إن إشكالية الإسلام والسياسة السائدة في البحوث والدراسات الحديثة هي أولا وقبل كل شيء إشكالية الرؤية الأوربية, التي انعكست فيها حصيلة التصورات التاريخية المتراكمة في مجري تجارب شعوب القارة عن علاقة الدين بالدنيا. فقد تحول فصل الدين عن الدنيا, والكنيسة عن الدولة إلي إحدي المرجعيات السياسية والثقافية في الوعي الأوروبي,, وعليها جري بناء صرح القومية والمجتمع المدني والديمقراطيات الرأسمالية. ومن هذه المرجعية وعليها أيضا جري تأسيس وتفعيل كليشهات الرؤية الأيديولوجية عما لا يتشابه أو يتطابق معها في تجارب الآخرين.
وقد جري غرس إشكالية الدين والسياسة الأوروبية بطرق شتي ومستويات عديدة في الوعي السياسي للعالم الإسلامي المعاصر, بما في ذلك تجاه’ الظاهرة الإسلامية’ المعاصرة. وتجدر الإشارة هنا إلي أن لهذا الغرس مقدماته الواقعية في تاريخ العالم الإسلامي نفسه, التي تراكمت مع مجري انحلال الدول الإسلامية,, وعدم قدرة الثقافة الإسلامية حينذاك علي تقديم إجابات تتمثل تجارب الأسلاف العلمية والعملية وتستجيب لتحديات المعاصرة.
وحالما أخذت ظاهرة التحدي تبرز إلي الوجود, بعد أن تحسس العالم الإسلامي للمرة الأولي انهياره شبه التام أمام الغزو الأوروبي, بدأت تطفو إلي سطح وجوده الاجتماعي والسياسي ردود الفعل المتنوعة, التي جري تصويرها بعبارات التحدي واليقظة والنهضة والانبعاث والثورة وغيرها, وهي أوصاف تعكس لحد ما جوانب الظاهرة الإسلامية لا حقيقتها. غير أنه جري تفسير وتأويل هذه الظاهرة بمعايير الرؤية السياسية بشكل عام وتقاليدها الأوروبية بشكل خاص. وليس مصادفة أن نري, وحتي الآن, غلبة المواقف المنهجية المحكومة بثنائية الدين والسياسة, وبالأخص في جانبها السلبي, القائل باستمرار’ خلل علاقة الإسلام بالسياسة’. ومن جمعهما جري توليف مختلف أنواع ونماذج الرؤية المنهجية والتاريخية والثقافية عن آفاق العلاقة الممكنة بين الإسلام والسياسة في مواجهة وتحدي الغرب, بمعني أنها لم تنظر إلي هذه الظاهرة بمعايير تلقائية تطورها الذاتي ومحدداتها الداخلية بوصفها عملية تاريخية طبيعية, بل جعلت منها جزء سائبا علي أطراف الفلك الأوربي( سابقا) والأمريكي( حاليا). مما حدد بدوره تعايش وتصارع اتجاهين كبيرين فيما يتعلق بمستقبل الإسلام وتأثيره السياسي: الأول هو اتجاه’ متفاءل’ والثاني اتجاه متشائم’, ولكل منهما تقاليده وشخصياته الفكرية والسياسية المحترفة. ومن الممكن هنا الاكتفاء باستعراض مكثف لنماذج كبري أولية لم تتغير مضامين أطروحتها مع مرور الزمن بغير إضافات كمية.
وقد مثل الاتجاه الأول( المتفاءل) شخصيات علمية كبيرة مثل المستشرق الانجليزي جيب ومونتجومري واط وأمثالهم. فقد انطلق جيب في تقييمه هذا من أن العالم الإسلامي قد تعرض إلي تحولات في مجري توكيد الذات ضد الضغوط الداخلية والخارجية التي واجهها, واعتقد بأن العالم الإسلامي سوف يسير ضمن نفس تقاليده الكبري التضامنية والسياسية. ومع أن الضغط الخارجي يشكل تحديا جديا له, إلا انه لم يكن التحدي الأول والأكبر, بل اعتبر التحدي الأول والأكبر يأتي من أعماق المجتمع الإسلامي مقارنة بما يسببه تأثير الغرب( الخارجي)(3). بينما تكلم واط مونتجومري عن التحدي وقدرة الإسلام علي مواجهة مختلف أشكاله في مجري بناء قوته الذاتية(4), وهي الفكرة التي وجدت تعبيرها في عدد كبير من الأبحاث الاستشراقية ذات البعد السياسي. فقد انتشرت منذ ثمانينيات القرن العشرين مصطلحات’ الإسلام المجاهد’, و’الإسلام المقاتل’, وما شابه ذلك بوصفه التعبير غير المباشر عن الرؤية المتأثرة بقوة الاستعداد والتحدي الكامنة في الإسلام وتراثه الذاتي. فقد وضع جانسن كتابا عن( الإسلام المجاهد), وانطلق من أن الإسلام لا يزال حتي يومنا هذا يعمل بجهود كبيرة من أجل إضفاء الشرعية علي جميع جوانب الحياة والأنشطة البشرية, وأرجع سبب قوته المعاصرة إلي جملة أسباب وبساطته وطابعه العملي ومرونته, واحتفاظه بقوة وتقاليد الأخوة الإسلامية, إضافة إلي كونه دين’ العالم الثالث’ أي دين الدول غير الصناعية(5).
وبالضد من هذا الاتجاه تراكم التيار الأكثر سعة وانتشارا وتأثيرا والقائل بعقم القدرة الإسلامية في مواجهة تحديات العالم الحديث, وهو تيار يحتوي في أعماقه علي توجهات مختلفة من نقدية علمية إلي أيديولوجية صرف. فقد انطلق الباحث المتخصص بالشئون الإسلامية جويتن من أن الاتجاهات الوطنية والأيديولوجية مثل الاشتراكية القومية والحياد العربي, والنهضة الأفريقية وغيرها يتنافس كل بطريقته الخاصة مع الإسلام للاستعاضة عن فكرة ومفهوم الأمة الإسلامية. ومع أنه لا يستبعد احتمال تأثير الإسلام في المستقبل, ألا انه لم يعد, حسب نظره, قوة سياسية قابلة للحياة(6).
وضمن هذا السياق كانت تسير كتابات مستشرقين كبار مثل كلود كوهين وفكرته عن سقوط الحضارة الحتمي(7). ووجد سبب ذلك في عالم الإسلام مرتبطا بعدم حله لإشكالية الديني والدنيوي. أما جرونه باوم, فقد انطلق من المقدمات المنهجية القائلة باحتواء الثقافة منذ البدء علي بذور رقيها أو انحطاطها, وأن الإسلام كان يحتوي منذ البدء علي تلك البذور التي أدت في نهاية المطاف إلي انغلاقه وضموره, وذلك بسبب انغلاق منظومته الذاتية. وضمن هذا السياق أيضا كانت تجري رؤية كوك وكرون, عما يسمي بانعدام الإمكانية الذاتية الداخلية للإسلام من اجل التأقلم مع المعاصرة, الأمر الذي أدي به إلي الوقوع في مأزق, الذي هو بدوره نتاج للإسلام نفسه والحضارة التي أنتجها(10).
ولا تختلف أغلب الدراسات التي تتناول هذه الظاهرة عن الخروج من هذه الثنائية المتصارعة والمكملة إحداها للأخري. والشيء الوحيد الذي يندرج ضمن سياق توسع المدي المتعلق بأبعاد هذه الظاهرة يقوم في إدراج أسباب ومسببات أخري اجتماعية واقتصادية وثقافية وغيرها, وهي جوانب تعمق منحي البحث, وتكشف عما في الظاهرة من تعقيد أكثر مما تفسرها بصورة نوعية.
وبهذا المنحي أيضا سارت أغلب الاجتهادات في العالم العربي والإسلامي المعاصر في محاولاتها تفسير الظاهرة الإسلامية الجديدة. فالتفسيرات الاقتصادية حاولت البرهنة علي أن الأسباب الأساسية القائمة وراء صعود’ الإسلام السياسي’ ترتبط إما بأزمة التطور الرأسمالي في العالم الإسلامي أو بسبب فشل التنمية علي النمط الغربي, أو بسبب ضعف الطبقات والفئات الاجتماعية الحاكمة وطبيعة صيرورتها التاريخية المرتبطة بالغرب الكولونيالي, ومن ثم عجزها البنيوي في تطوير الاقتصاد والعلم بالطريقة التي تحفظ للدولة والأمة استقلالهما الناجز. أما التفسيرات الفكرية السياسية, فأنها عادة ما تربط ظهور’ الإسلام السياسي’ بأسباب منها هزيمة الفكرة القومية علي الصعيد الوحدوي, والنظام الاجتماعي العادل, والديمقراطية السياسية والأمن القومي, أو لعجز الأيديولوجيات الأخري من ليبرالية واشتراكية وشيوعية وغيرها عن تحقيق بدائلها الاجتماعية السياسية والثقافية. أما التفسيرات الثقافية الروحية فتتمحور حول البرهنة علي فشل أسلوب التحديث والعصرنة الغربي بسبب افتقاده إلي مقومات الأصالة الذاتية.
تعاني أغلب هذه التفسيرات والاجتهادات من نقص جوهري يقوم فيما يمكن دعوته بمشاطرة نفسية البحث عن الخلل والآفاق من خلال بناء عناصر التحدي. إلا أن الخلاف بينهم يقوم علي أن التفسيرات الأوروبية تبني عناصر البحث عن الخلل والتكهن حول الآفاق من خلال فكرة تحدي الغرب, بينما تبني الاجتهادات العربية والإسلامية تصوراتها وبحوثها عن البدائل من خلال تحدي النفس أيضا.
أما الرؤية التقليدية( العربية والإسلامية), فإنها’ تتعالي’ علي جدل البحث عن العلل, وتقرر وجود الأشياء كدليل بحد ذاته. من هنا سيادة الدعوي القائلة بأن الإسلام بحد ذاته سياسة, أو أن الدين والدنيا لا انفكاك لهما في الإسلام, أو أن الدين والسلطان في الإسلام توأمان, وهي دعاوي لها معناها في الماضي وإشكالاتها في الحاضر.
إن الاجتهادات النظرية المتنوعة في مساعيها كشفت علاقة الإسلام بالسياسة انطلاقا من واقع هذه العلاقة أو من ضرورتها تهدف في نهاية المطاف إلي بناء صرح تأويلي يؤيد أو يعارض هذه العلاقة, لا إلي تأسيسها العلمي والعملي بمعايير الحاجة التاريخية والانتماء الثقافي.
حقيقة أن هذا التأسيس هو الإشكالية الأعقد من الناحية النظرية والعملية, لأنه يفترض في آن واحد البقاء في حيز الانتماء الثقافي لعالم الإسلام وتقاليده المتنوعة, ومجاراة العالم المعاصر في إبداعات العقل والوجدان. ومن الصعب بلوغ ذلك دون إدراك الحاجة التاريخية لهذا التمثل بمعايير الانتماء الثقافي للتاريخ الذاتي( الإسلامي). حينئذ تتحول علاقة الإسلام بالسياسة إلي إشكالية يصبح تأسيسها النظري وتحقيقها العملي جزءا من المرجعيات الثقافية للوجود والوعي الاجتماعي والقومي والإسلامي. ذلك يعني أن الظاهرة الإسلامية ليست فرضية أيديولوجية مجردة, كما أنها ليست مجرد’ تسييس’ للإسلام. فالجدل الدائر حول ما يسمي’ بتسييس’ الإسلام هو من بقايا التحزب الأيديولوجي النابع من انعدام أو ضعف إدراكه للحقيقة القائلة بأن الظاهرة الإسلامية’ هي أولا وقبل كل شيء الإشكالية الثقافية السياسية الأعقد والأكبر للعالم الإسلامي. من هنا تنوعها وخصوصيتها, والتي ينبغي البحث عنها في كيفية الانقطاع الذي حدث تاريخيا بين المرجعيات الثقافية والواقع المعاصر للإسلام في هذه المنطقة أو تلك, وهو السبب الذي جعل ويجعل منها مع مرور الزمن بحثا عن المرجعيات الثقافية الذاتية, أي محاولة لإعادة إرساء أسس جديدة لما ادعوه بالمركزية الإسلامية الجديدة(11).
إشكالية ومفارقة الظاهرة الإسلامية في آسيا الوسطي الإسلامية.
إن للظاهرة الإسلامية في آسيا الوسطي خصوصيتها. ولعل ظهورها المفاجئ أو بصورة أدق خروجها المباشر إلي الوجود والعلن ضمن مسار’ الخروج’ من الدولة السوفيتية, وصيرورة الدولة القومية هو بحد ذاته أحد الأسباب الذي أثار وما زال يثير البحث عن طبيعة هذه الظاهرة وخصوصيتها وآفاقها. وليس مصادفة أن تسود بصورة شبه مطلقة الرؤية السياسية والمتحزبة تجاهها, وذلك لأنها تبدو في الظاهر كما لو أنها النتاج المباشر للفعل السياسي الذي رافق ظهور الدولة المستقلة في آسيا الوسطي. أما في الواقع, فإن الظاهرة الإسلامية في آسيا الوسطي أشد تعقيدا وأوسع وأعمق وأكبر من أن يجري حصرها بمقدمات وآفاق سياسية صرف.
وفيما لو جري جمع الحصيلة النموذجية للدراسات والأبحاث المتعلقة بالظاهرة الإسلامية في آسيا الوسطي, فإنه عادة ما تجري الإشارة إلي حالة تعاظم الدور والأثر الأيديولوجي المتزايد للإسلام وتوسع طابعه الراديكالي(13). وهنا تختلف الآراء فيما يتعلق بإبراز أولوية الأسباب. فمنهم من يعتقد, بأن سر الظاهرة يكمن في اصطدام الحداثة( في إحدي مراحل تطوها) بفكرة الإسلام الأول مع ما ترتب عليه من ظهور يوتوبيا البديل الإسلامي’. بينما اعتبرها البعض الآخر جزءا من العملية السياسية للاسلمة, في حين ربطها قسم آخر بالبيريسترويكا مدللا علي توسع انتشارها بعد تسعينيات القرن العشرين. بينما ربطها البعض الآخر بالحالة الاجتماعية الاقتصادية المتردية بأثر انحلال الدولة السوفيتية. واستكمل آخرون هذه الرؤية بما يسمي بعدم وضوح الأهداف في الإصلاحات التي قامت بها الدول الجديدة, الأمر الذي جعل من’ الإسلام السياسي’ رد فعل سيئ علي إصلاح سيئ, في حين وجد قسم آخر سبب ظهور’ الإسلام السياسي’ باغتراب رجال الدين الرسميين عن المجتمع وارتباطهم بالسلطة.
إن الصيغ المشار إليها أعلاه لا تستنفذدالأبحاث والدراسات بهذا الصدد, إلا أنها تشترك جميعا بإبراز العلاقة الواقعية والوهمية بين الإسلام ومختلف مظاهر الغلو والتطرف والإرهاب والراديكالية. من هنا ربط أغلبها للظاهرة الإسلامية بالتيار’ الوهابي’ أو السلفية الجديدة(14), وبظاهرة الغلو والتطرف(15), مع ما ترتب عليه من أبحاث عن أسبابها. فمنهم من حاول النظر إلي هذا الارتباط بين الإسلام والتطرف باعتباره ظاهرة ذاتية(16), أو بوصفها ظاهرة تركستانية(17) أو أنها رد فعل علي تأثير خارجي مثل القضية الفلسطينية(18) أو الكشميرية(19) أو الأفغانية(20). في حين حاول البعض البحث عنها في بعض المدارس الإسلامية( الحنبلية بشكل خاص) عبر إعادة تأويل تراثها, في حين وجدها قسم آخر في تقاليد السيطرة الروسية واستكمالها اللاحق في سيادة تقاليد التوتاليتارية الشيوعية, والسيطرة السوفيتية, وتقاليد الحزب الواحد.
وفي الوقت نفسه تتفق هذه المواقف علي ما يسمي بضعف العامل الإسلامي. وعادة ما يجري إرجاع ذلك إلي أسباب عديدة من بينها تأثير الجهوية والفئوية والقومية والمذهبية وأولويتها في نشاط الحرمات والتيارات والشخصيات الإسلامية, وان الإسلام لم يرتق إلي مصاف تذليل هذه المكونات علي مستوي النظرية والتطبيق, وضعف فعاليته بالنسبة لإرساء أسس الاستقرار في الدولة, وضعف عمله باتجاه توحيد القوي الاجتماعية من أجل القضايا المدنية( بدائل عقلانية وإنسانية), وشبه غياب جهوده النظرية والعملية بالنسبة لجعل الإسلام عاملا موحدا بين دول آسيا الوسطي, وضعف النخبة بشكل عام والسياسة بشكل خاص, وتأثير التقاليد الروسية والسوفيتية التي عملت وتعمل من الناحية الموضوعية علي إبقاء عناصر الاغتراب الثقافي والقومي والسياسي فاعلة في المجتمع والدولة, وعدم مرور الإسلام الحديث والمعاصر بمرحلة الإصلاحية الإسلامية, والانتشار السريع والمفاجئ للوهابية, وارتباط أغلب هذه الحركات بتوجه واختيار شخصياتها القائدة(21).
إننا نقف هنا أمام التأثير المباشر وغير المباشر للرؤية السياسية والأيديولوجية في تفسير أو تأويل الظاهرة الإسلامية عبر إرجاعها إلي مختلف مظاهر فكرة’ الإسلام السياسي’, وهو الأمر الجلي في الصيغ العديدة التي حاولت أن تؤرخ لصعود وهبوط الإسلام السياسي في جمهوريات آسيا الوسطي الإسلامية الجديدة بوصفه مؤشرا علي الظاهرة الإسلامية ككل. فهناك شبه إجماع علي أن’ الإسلام السياسي’ قد مر بثلاث مراحل كبري وهي المرحلة الأولي منذ عام1990 حتي عام1992, التي اخذ فيها الرؤساء يحلفون بالقرآن قبل استلامهم السلطة, وكذلك بناء المساجد وزيارة الأماكن المقدسة( مكة), وسن قوانين تخفف من وطأة المرحلة السوفيتية تجاه الدين. أما المرحلة الثانية فتمتد من عام1993 حتي عام1997. وهي المرحلة التي تأثرت بمسار ونتائج الحرب الأهلية في طاجيكستان. مع ما ترتب عليها من إثارة مختلف أشكال ومستويات الخوف من ظاهرة الأصولية الإسلامية بشكل عام, وظاهرة انتصار طالبان في أفغانستان, أي كل ما حصل علي أطره الأيديولوجية فيما يسمي’ بالخطر الإسلامي’, أما المرحلة الثالثة فتمتد ما بعد1997 حتي الآن, وتتميز بالخفوت النسبي’ للإسلام السياسي’, وهي نتيجة لم تكن بمعزل عن محددات أساسية عادة ما يجري إجمالها فيما يلي: استعمال مختلف أشكال القمع السياسي من جانب السلطة ضد الحركات الإسلامية, وتقوية مواقع رجال الدين الرسميين والمؤسسات المرتبطة بهم من أجل إرساء أسس’ إسلام معتدل’, وتطور وتعمق محتوي الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي بما في ذلك صعود واستتباب الفكرة القومية, وآثار ونتائج’ التجربة الطاجيكية’, وضعف فاعلية وتأثير المواجهة المباشرة والعنيفة مع السلطة زمن الاستقرار, وتجذر السلطة وتكامل الدولة. بعبارة أخري, إن صعود وهبوط’ الإسلام السياسي’ يعكس مرحلة المراهقة السياسية التي بإمكانها الفعل والتأثير زمن الانتقال لكنها تفقد قيمتها وفاعاليتها زمن الاستقرار وتكامل الدولة والأمة.
’فالإسلام السياسي’ بوصفه أحد أشكال ومستويات الظاهرة الإسلامية يعكس احد مساراتها ومستوياتها من حيث محدداته الداخلية والخارجية وحوافزه ومؤثراته ونياته وغاياته, الأمر الذي يجعل من الضروري الحديث أيضا عن مرحلتين في تاريخ صيرورته الحالية: الأولي ما قبل ظهور الدولة المستقلة, والثانية ما بعدها. فهي الصيغة التي تتمثل مضمون الظاهرة الإسلامية بوصفها إشكالية المرجعية الثقافية وليس إشكالية الحالة السياسية. بعبارة أخري, إن فهم حقيقة الظاهرة الإسلامية يفترض إرجاع التسييس والأصولية والإسلام السياسي وما شابه ذلك إلي ما ادعوه بالظاهرة الإسلامية بوصفها ظاهرة المرجعية الثقافية( كأحد مظاهر المركزية الإسلامية الجديدة) وليس بالعكس, أي إرجاع الجزء إلي الكل وليس بالعكس. فوراء هذه الصيغة عوالم متعددة ومتصارعة ومتناقضة, شأن أية ظاهرة تاريخية ثقافية كبري, أي أنها تعكس ما يمكن دعوته بمنطق تاريخها الواقعي والمستقبلي.
فالظاهرة الإسلامية في آسيا الوسطي هي أولا وقبل كل شيء إشكالية مرتبطة بانحلال الوحدة الجوهرية بين التاريخ السياسي والثقافي للأمم الإسلامية في المنطقة.(23)
فقد أدي افتقاد المنطقة لتاريخها السياسي المستقل إلي أن تتحول تجاربها السياسية والاجتماعية والقومية إما إلي جزء من النضال ضد السيطرة الروسية, وإما إلي تقليد أو محاكاة باهتة للتجارب الروسية أو إلي مساع لتوليفها بطرق ومستويات متنوعة(24). وفي الحصيلة ليست هذه التجارب غير اجترار للزمن الميت, لأنها تكشف في نهاية المطاف عن خوائها الروحي وعدم صلاحيتها بالنسبة لبناء وحدة الدولة والمجتمع وتطورهما الفعال. فالتطور الفعال يفترض وجود نظام ثقافي متكامل يتخلل جميع مسامات الأنظمة الضرورية لتفعيل الدولة والمجتمع. بهذا المعني كان استقلال دول آسيا الوسطي الإسلامية هو المقدمة الضرورية الأولي لاستعادة كيان الإسلام الثقافي فيها. وهي عملية سوف تستثير بالضرورة اشتراكه الفعال في الحياة السياسية(25).
ذلك يعني أن للظاهرة الإسلامية في آسيا الوسطي خصوصيتها المرتبطة بتاريخها الذاتي بشكل عام والمتعرج في مسار السيطرة الروسية والدولة السوفيتية وظهورها الأخير(26). ولا يمكن فهم حقيقة وأعماق صعود الظاهرة الإسلامية في آسيا الوسطي المعاصرة, وآفاق الإسلام السياسي فيها بمعزل عما يمكن دعوته بتاريخ’ العقدة التركستانية’ وتحللها في المرحلة السوفيتية وصعود النخب السياسية الجديدة فيها, إذ يمكننا العثور فيها علي المقدمات التاريخية والشروط السياسية والاجتماعية الجديدة لنشاط الحركات الإسلامية المعاصرة في آسيا الوسطي.
إن إشكاليات ضعف البنية الداخلية للدولة الآسيوية الوسطي هي إشكاليات صيرورتها التاريخية الجديدة. وإذا كان اتجاهها العام يسير صوب تحقيق الحد الأدني الضروري لبناء وحدة الدولة والأمة, والاقتصاد والسياسة, الذي أخذت ترتسم بعض ملامحه الحالية, فإن دمج التقاليد والثقافة في بناء الكل الدولتي القومي السياسي ما زال يحتوي في أعماقه علي تنوع البدائل لا علي سياسة الاعتدال العقلانية, وهي ظاهرة لها مقدماتها الموضوعية في تاريخ الدول الآسيوية الوسطي وانقطاعها الطويل عن مقدمات وعيها الذاتي واستقلالها الفعلي(27).
إن إشكالية تنوع البدائل هي إشكالية الوسط العقلاني, وأن إشكالية الوسط العقلاني هي إشكالية الاختيار المناسب للأيديولوجية الاجتماعية السياسية القومية. أي كيفية دمج الثقافة والتقاليد في صرح الدولة الجديدة والتوفيق بين الحداثة والاستقرار(28) وإذا كان بالإمكان القول, بأن الدولة الآسيوية الوسطي المعاصرة استطاعت في المستوي السياسي وضع المقدمات الأساسية للاستقلال, فإن مستواها الاجتماعي لا زال يعاني من تعقيدات طبيعية ملازمة لمراحل’ الانتقال’ التاريخي الكبري, كما هو واضح في صيرورة النظام المركزي الرئاسي القوي, وضعف الديمقراطية البرلمانية, ونمو العناصر الاجتماعية في السياسة الاقتصادية, والتي نعثر عليها في تركمانستان وأوزابكستان وكازاخستان وبدرجة اقل في قرغيزيا.
وإذا كانت تركمانستان وأوزبكستان أبعد شوطا في هذا المجال فلأن وحدتها الاجتماعية( ضعف الصراع القومي والاثني)(29) توافق نسبيا مع سلوك نخبها السياسية في اعتدال برامجها ووضوح مبادئها وواقعية سياستها(30). أما بالنسبة لقرغيزيا فإن السلوك’ الديمقراطي المتهور’ لنخبتها السياسية حال دون ترسيخ المقدمات الاجتماعية الاقتصادية والسياسية بالشكل الذي يمكنها من حل إشكالية الحداثة والاستقرار بصورة متجانسة, لاسيما أنها لا تعاني من مشاكل إثنية حادة بفعل غلبة العنصر القرغيزي فيها(31). بينما تعاني كازاخستان تعقيدات جدية بهذا الصدد. إذ يشكل الكازاخيون فيها أقلية’(43% من عدد السكان)(32). إضافة إلي تمركزهم في المناطق الجنوبية والريفية. أما أغلبيتهم الوحيدة ففي مقاطعتين من المقاطعات الثماني عشرة, وهي مقاطعة غورييف( في الغرب) وقزل اورطه( في الجنوب). بينما يشكل الروس الأغلبية الساحقة في المناطق الشمالية المصنعة. لكن كازاخستان استطاعت تجاوز في مجري العقدين الأخيرين ما يمكن دعوته بمرحلة الانتقال صوب مركزية الدولة والتنسيق القومي, ومن ثم إرساء أسس الوحدة المتينة للدولة والقومية, وبالتالي إرساء أسس التطور الذاتي المستقل.
كل ذلك أدي إلي إرساء أسس ما يمكن دعوته بتقاليد استمرار السلطة و’شرعيتها’(33). أي الإدراك السياسي لقيمة الاستمرار في مواقفها من الحداثة( التحديث) باعتبارها المقدمة الضرورية لبناء الدولة العصرية. أما الاستثناء الوحيد هنا فقد كانت طاجيكستان. إذ سارت في’ تجريبيتها’ الخاصة من خلال وضعها إشكالية الثقافة والتقاليد في أولوية فعلها السياسي بعد الاستقلال. ولم تدرك بهذا المعني, قيمة الأولويات رغم أن مقدمات وحدتها الاجتماعية السياسية الوطنية ليست أقل تماسكا عما هو عليه الأمر في الجمهوريات الأخري, فهي لم تعان, شأن تركمانستان وأوزبكستان وقرغيزيا, من مشكلة قومية. إذ يمثل الطاجيك ما يقارب نحو80% من عدد السكان(34)
فقد وضعت القوي السياسية في طاجيكستان مشكلة التقاليد والموقف من التراث في أولويات فعلها السياسي. وبحثت في إسلامها المجزأ والجهوي والمذهبي عن بديل فكري عقائدي شامل, مما أدي إلي إثارة حوافز التجزئة والمواجهة عوضا عن أن يجري تحويلها إلي فاعل يلم الكينونة الجديدة للأمة الطاجيكية ودولتها الموحدة. وقد شارك الجميع في صنع هذه النتيجة. مما أدي إلي إثارة الانقسامات واستهلاكها السريع من جانب الجميع. ووجد ذلك انعكاسه العنيف في عنف الحرب الأهلية.
فالسلطة السياسية في طاجيكستان لم تكن قادرة علي توظيف العامل الإسلامي في سياستها الداخلية من أجل صنع الوحدة الاجتماعية الضرورية للاستقرار, وذلك لأنها كانت تمتلك منذ زمن طويل قبل الاستقلال, حركة إسلامية سياسية مجزأة بين تيار رسمي مؤيد للسلطة, وآخر عوامي في الأوساط الريفية, وثالث راديكالي مختمر بتقاليد الثورة الإيرانية وجهادها العسكري في أفغانستان, أي كل أولئك الذين ظهروا في نهاية السبعينيات من بين رجال الدين الشباب. فهي القوة التي استطاعت أن تملأ الفراغ الناجم عن’ انهيار الشيوعية’ والنظام السوفيتي, وأن تحصل في شخصية حزب النهضة الإسلامي علي ممثلها الأكثر قوة وتأثيرا, وبهذا تكون قد اختطت لنفسها طريقا مخالفا لما هو عليه الأمر في تركمانستان وأوزبكستان وكازاخستان وقرغيزيا.
ففي تركمانستان جري تحويل’ المؤسسة الدينية’ إلي تابع لصنع الوحدة الاجتماعية السياسية. وبغض النظر عن صعوبة القول بوجود أحزاب دينية فيها, بما في ذلك بعد انهيار النظام السوفيتي والأيديولوجية الشيوعية, فإن النخبة السياسية شددت مع ذلك علي أن تركمانستان لا شيوعية ولا إسلامية.
واتبعت النخبة السياسية القائدة في أوزبكستان ذات المواقف, حيث قام إسلام كريموف بالحج إلي مكة والقسم بالقرآن في صعوده للرئاسة, ومنع الأحزاب الدينية من العمل رغم تسجيل بعضها كما هو الحال بالنسبة لحزب النهضة الإسلامي الداعي إلي إقامة دولة إسلامية والمتميز بعدائه للأمريكان والغرب.
أما قرغيزيا فإنها لم تعان أساسا من إشكاليات جدية في هذا المجال بسبب ضعف العامل الإسلامي. فقد كانت قرغيزيا ولا تزال أكثر الشعوب التركية ضعفا في إسلامها. ولم يكن ذلك نتاجا لدخولها المتأخر في الإسلام فقط, بل ولأن إسلامها في اغلبه هو إسلام العادات والتقاليد لا إسلام التوحيد العقائدي والثقافي. أما صعوده النسبي في جلال آباد( الجنوب) فهي الصيغة الجنينية لإدراك قيمة الانتماء الثقافي في معارضته للشمال المتأورب( العاصمة بشكيك).
أما كازاخستان فإنها تشبه لحد ما قرغيزيا. بمعني تمايز جنوبها المسلم التقليدي وشمالها الأوروبي العصري(38), إلا أن هذا التعارض لم يحصل علي أطره السياسية والقومية بفعل خضوعه المبكر لإرادة النخبة السياسية في توظيفه بما يخدم وحدة الدولة.
الإسلام السياسي’ المعاصر في آسيا الوسطي.
غير أن هذه الصورة المليئة بأشجار متنوعة لا تمنع رؤية الغابة المتراكمة وراءها, بمعني أن هذه الحالة المتنوعة والمتناقضة من نمو مختلف مظاهر الظاهرة الإسلامية لا تمنع من رؤية المسار الديناميكي فيها, بما في ذلك خفوتها المعاصر, فهو خفوت يعكس أولا وقبل كل شيء تحول الظاهرة الإسلامية من الظاهر إلي الباطن, وهو تحول طبيعي, وتاريخي لحد ما, الأمر الذي يمكن رؤية نموذجه ومثاله علي حالة وآفاق’ الإسلام السياسي’ بوصفه احد الأشكال المتميزة والفعالة للظاهرة الإسلامية نفسها, أي لظاهرة المركزية الإسلامية وأشكالها وتجسيدها في آسيا الوسطي.
فالمظهر الأولي لها كان يتجسد في محاولات الخروج من السيطرة الروسية وتوسيع هوة الابتعاد عنها. بمعني التحرر من سيكولوجية’ الأخ الأكبر’, ودعائية’ الدخول الطوعي’ في الإمبراطورية الروسية, وأيديولوجية الوحدة الأممية السوفيتية. وعوضا عنها أخذت تبرز ملامح’ الخطر الروسي’(39) أي ملامح الوعي الباطني بوصفه الصيغة الأولية غير الناضجة والضرورية في الوقت نفسه للاستقلال والتكامل الذاتي, أي الفاعل بمعايير التجربة الذاتية والتطور التلقائي, وهي العملية التي تستثير بالضرورة المخزون القومي الكامن في الإرث التاريخي والثقافي. وهذا بدوره ليس إلا الوجه’ القومي’ للإرث الإسلامي, أو تزاوجهما. من هنا ضعف وعدم دقة التصورات والأحكام التي حاولت وما تزال تحاول البحث في’ إسلام آسيا الوسطي’ نسخة مشوهة أو بدائية أو عادية أو محاكاة لإسلام تركي’ أو’ فارسي’ أو’ عربي’ أو غيره.
فعند ظهور الدولة الآسيوية الوسطي وبروز’ النزعة التركية’ الجديدة, أخذت بالانتشار آنذاك جملة من التصورات الدعائية القائلة, بان الظاهرة الاسلامية هي نتاج أو محاكاة لما يسمي بالنموذج التركي الذي يستجيب ويتطابق مع مهمات التحديث والعصرنة, وأنه دين القواعد الثقافية,(40) بينما وجد البعض في هذا التأثير دعاية لا تصمد أمام النقد العلمي, انطلاقا من أن تأثيره, في حال افتراضه فهو جزئي وفي المناطق ذات الأصول التركية الثقافية المشتركة, بمعني أنه لا علاقة له بطاجيكستان, الأمر الذي دفع البعض للحديث عن تأثير النموذج الإيراني, كما هو جلي في الحالة الطاجيكية. وبالقدر ذاته جري ويجري الحديث عن تأثير’ الإسلام العربي’ من خلال استفحال دور’ الوهابية’ في كل مناطق آسيا الوسطي والقوقاز.
أما في الواقع, فإن هذا التأثير, رغم طابعه الطبيعي, أي بوصفه جزءا مما ادعوه بالمركزية الإسلامية المعاصرة, لكنه يسيء فهم هذه الظاهرة من خلال إرجاع نشوئها وفاعليتها إلي عوامل قومية خارجية. أما في الواقع فإنها جزء من عملية قومية ودولتية وثقافية داخلية صرف. وليس مصادفة أن يضمحل ويتلاشي التأثير التركي بحيث يحصل علي صيغة المعارضة الشديدة لفكرة استبدال’ الأخ الروسي الأكبر’ بآخر تركي. بل ويصل الأمر في حالة أوزبكستان أن تعارض التدخل التركي بصورة علنية, بحيث وصل الأمر برئيس الدولة إسلام كريموف أن اعتبر محاولة اغتياله الأولي مؤامرة تركية. والشيء نفسه يمكن قوله عن التأثير الإيراني أو العربي.
مما سبق يمكن القول, بأن المسار الطبيعي والتاريخي للظاهرة الإسلامية في آسيا الوسطي هو جزء من سياق التطور التلقائي للدولة والأمة والثقافة والدين ونماذجه المحتملة بوصفها جزءا من حل الإشكاليات التي تواجههم بهذا الصدد. فقد كان تأثير العالم الإسلامي الخارجي جزئيا رغم قوته النسبية الأولية. وهي ظاهرة يمكن رؤية مثيلها أو نموذجها حال المقارنة السريعة بين الماضي والحاضر. فإذا كانت تقاليد الحنفية والأشعرية قد تراكمت في آسيا الوسطي بأثر تقاليد حركة الإرجاء والثورة التي قادها آنذاك الحارث بن سريج, فان وحدة نسبها وإبداعها الفكري اللاحق, أي توليف تقاليد المرجئة والحنفية والمعتزلة والأشعرية قد جري ضمن سياق الصراع الداخلي للمنطقة, رغم كونها كانت جزءا من كل إسلامي ثقافي موحد بمعايير العقيدة الكونية للإسلام ومراكز الدولة المتنقلة للخلافة. بعبارة أخري, إذا كان انتشار الحنفية في شرق خراسان وما وراء النهر مرتبطا بنشاط المرجئة, فإن هزيمة الحارث بن سريج قد دفعت بهما إلي الانتشار في مدن بلخ ونسف ونيسابور وبخاري وسمرقند وغيرها, واستطاعت هذه العملية المعقدة أن تنتج شخصيات فكرية عظمي مثل البخاري والبزدوي والسرخسي والصدر الشهيد والماتريدي والزمخشري(42). إضافة إلي كوكبة الفلاسفة العظام أمثال الفارابي وابن سينا وعشرات غيرهم. وحالما ننقل هذه الظاهرة إلي العالم المعاصر, فإننا نقف من الناحية المجردة أمام نفس المقدمات فيما يتعلق بالتطور التلقائي. رغم اختلافها عما كان عليه الأمر في الماضي. غير أن لكل مرحلة تاريخية خصوصيتها. وخصوصية الظاهرة الإسلامية الحالية في آسيا الوسطي تقوم في أن الحركات الإسلامية السياسية فيها هي مكون جوهري في تكون الدولة وبناء المجتمع, إذ تعكس في نشاطها وخمولها, عقلانيتها ولاعقلانيتها, عمقها وسطحيتها, تاريخ وواقع الحركة الاجتماعية والسياسية في آسيا الوسطي نفسها.
فمن المعلوم أن آسيا الوسطي الإسلامية ودولها المعاصرة المتكونة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي, افتقدت لأكثر من مائتي عام تاريخها السياسي والدولتي المستقل. أما المرحلة السوفيتية فلم تصنع غير نظم إدارية بيروقراطية لا تعرف معني وقيمة الحركات السياسية المستقلة والمعارضة السياسية القوية, إذ لا تشبه دول آسيا الوسطي المعاصرة بعد خروجها من تحت ركام الاتحاد السوفيتي, علي سبيل المثال, باكستان بعد خروجها من الهند. إذ لا توجد فيها حركات سياسية واجتماعية كبري ومؤثرة( مثل الجمعية الوطنية الإسلامية, التجمع الثقافي الإسلامي, الجمعية الإسلامية المركزية الإسلامية في البنغال, التجمع الثقافي الإسلامي في كلكوتا) ولا شخصيات سياسية وفكرية متميزة( مثل سعيد أحمد خان, وحمد علي جنة, وأبو الكلام آزاد وآغاخان ومحمد إقبال وأبو الأعلي المودودي وعشرات غيرهم). إضافة لذلك أدي انهيار الاتحاد السوفيتي إلي قطع الروابط الاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية’ المتكاملة’ في كيان الدولة المركزية السابقة. وفي نفس الوقت أبقي هذا الانهيار علي النخب السياسية السابقة للمرحلة السوفيتية بعد أن جري إحداث تغيير في أولوياتها الأيديولوجية, وهو تحول لم يجد أمامه خيارا غير’ اقتصاد السوق القومي, فالنخب السياسية القديمة هي نخب بيروقراطية لم تتقن أسلوب النشاط السياسي الديمقراطي وتقاليد الحقوق السياسية. لهذا تراكم في رؤيتها عن الدولة القومية واقتصاد السوق الليبرالي خليط غير متجانس من القيم والمفاهيم والممارسات أدت إلي بناء نظم فردية في الحكم.
فإذا كان الانبعاث القومي هو الصيغة المباشرة لتوحيد القوي الاجتماعية والسياسية في بداية ترسيخ أسس الدولة المستقلة, فإن استمراره يفترض تأسيسه الأصيل, وبالأخص بالنسبة لدول آسيا الوسطي, وهو تأسيس يفترض استناده إلي المكونات الواقعية والضرورية في نفس الوقت مثل( المكونات القومية التركية والفارسية) والثقافية( الإسلامية), إلا أن النخب السياسية السائدة لم تستند في الواقع إلا علي التقاليد الروسية السياسية( القيصرية والسوفيتية). وبرز ذلك بقوة مبالغ فيها في إتباع سياسة ترسيخ أسس وتقاليد الحكم الفردي ومحاربة المعارضة ومحاولة تصفية مختلف أشكالها ومستوياتها. وليس مصادفة أن تقف هذه النخب السياسية إلي جانب’ الأعداء التاريخيين’ للإسلام في المنطقة ضد’ الأصولية الإسلامية’(باستثناء جزئي من جانب تركمانستان). لذا نجدها تتفق مع السلطة الروسية في محاربة ما يسمي بالإرهاب الإسلامي’, وتؤيد الهند في’ تخوفها من الحلف الأصولي الإسلامي في آسيا الوسطي’, وتتعاضد مع السلطة الصينية في’ تخوفها من الأصولية الإسلامية في المنطقة’(43). بينما لا يتخوف أي منهم من التطرف والإرهاب الفعلي للأرثوذكسية الروسية والهندوسية والبوذية في مواقفهم من الإسلام والمسلمين!
تعكس مواقف النخب السياسية السائدة حاليا في دول آسيا الوسطي انسلاخها الواعي وغير الواعي عن المكونات الجوهرية للذات الثقافية الخاصة.,وتشير في نفس الوقت إلي استمرار تقاليد قوة السلطة وسلطة القوة( المميزة للتقاليد السياسية التركية والقيصرية والسوفيتية), لا معايير الرؤية الاستراتيجية لقوة التقاليد الثقافية وقيمتها بالنسبة لبناء الدولة العصرية, أي أن النخب السياسية الحالية لا تدرك قيمة القفزة النوعية’ في مشاريع البدائل الإسلامية, باعتباره حدسا ثقافيا عميقا للانتقال من سيكولوجية العوام إلي فرضيات البدائل العقلانية واجتهادها الدائم, لكنها تبقي في الوقت نفسه جزءا من تجربة التطور الطبيعي والتلقائي المعقد لمنطقة آسيا الوسطي ودولها الحديثة. إضافة لذلك, أن’ البدائل الإسلامية’ لم تتجسد بعد في أيديولوجيات سياسية متكاملة, لأنها لم تتحول بعد إلي جزء عضوي في الوعي الاجتماعي والسياسي لدول آسيا الوسطي, أما وجودها السياسي بهيئة أحزاب وحركات وتجمعات وأفراد, فانه يشير إلي الملامح الأولية لهذا التحول.
فقد ظهرت الحركات الإسلامية السياسية المعاصرة في آسيا الوسطي كجزء من صيرورة التعددية الاجتماعية والفكرية بعد انحلال السلطة السوفيتية وأيديولوجيتها الرسمية الوحيدة(44). وأدت الخصخصة وانحلال احتكار العمل السياسي إلي تمايز اجتماعي وعقائدي وفكري أفرز تنوعا سياسيا شكلت الحركات الإسلامية(45) طيفا من أطيافه موازيا للوعي السياسي القومي في دول آسيا الوسطي الإسلامية. فقد أنتجت دول آسيا الوسطي في مجري هذه العملية تنظيمات سياسية عديدة وأنتجت أيضا نموذج من علاقة الدين بالسياسة(46). فبعد انهيار الاتحاد السوفيتي علي ما يقارب عشرين تنظيما سياسيا إسلاميا, سبعة منها في أوزبكستان, وستة في كازاخستان, وأربعة في قرغيزيا, واثنان في طاجكستان, وواحد في تركمانستان. لكن ما يميز أغلبها هو كونها كلها أحزاب محلية وصغيرة, وتسعي لتأسيس أحزاب وطنية, ومنهمكة أساسا في ميدان النشاط السياسي. والاستثناء الوحيد بينها لثلاثة أحزاب هي حزب النهضة الإسلامي لطاجيكستان), والحزب الإسلامي لتركستان( أوزبكستان), وحزب ألاش( كازاخستان). إذ تتصف هذه الأحزاب بوجود برنامج سياسي واضح, وتمتلك وسائل أعلام خاصة بها, إضافة إلي تنظيم سياسي حزبي, رغم عدم الاعتراف الرسمي بها. إضافة لذلك, أن هذه التجمعات والأحزاب أخذت في التوسع من حيث ديناميكيتها الداخلية والخارجية, بمعني الاعتراف بها داخليا وتوسيع صلاتها الخارجية بالعالم الخارجي والإسلامي بشكل خاص, وكذلك انهماكها في توسيع المدي النظري عبر ترجمة المصادر الفكرية القديمة والحديثة.
بالطبع أن هذه الأحزاب والحركات لها تاريخها الذاتي في نوعية ما يمكن تسميته بالإسلام الروسي’ و’الإسلام السوفيتي’ الذي أنتج’ إسلاما شعبيا’ إلي جانب أو بالضد من’ الإسلام الرسمي’. ومن الممكن تتبع ذلك علي ظهور تيارات وشخصيات مؤثرة في الظاهرة الإسلامية لآسيا الوسطي بعد استقلالها وظهورها الجديد بهيئة دول وقوميات. ومن بينها تجدر الإشارة إلي تيار’ أهل الحديث’ الذي أكثر من مثله رحمة الله العلامة(1981) الذي كان تلميذا للحجي دومله, الاسم المستعار لمحمد هندساتني رستم.(1892-1989) احد أهم وأشهر ممثلي التيار الحنفي(47). وعليه تخرجت أغلب الشخصيات الدينية المؤثرة في آسيا الوسطي, إذ تخرج عليه عبد الولي مرضاييف الذي انتقل لاحقا إلي معسكر’ الوهابية’ والأخذ بمهاجمة أبو حنيفة والشافعي علي لسان ابن حنبل. وتجدر الإشارة أيضا إلي تيار’ أهل القرآن’ الداعي بالرجوع إلي الأصول. وكذلك تيار الأكرمية, الذي كان يناقش أساسا ويؤسس لأهمية قضايا العبادة الصرف عبر تشديده علي أهمية معرفة الصلاة وكيفية القيام بها والتمسك بشروطها وما شابه ذلك. ومهاجمة ما يسمونه بالخرافات والبدع. كما تجدر الإشارة إلي الفرقة الصوفية( نورجيلار) مريدو بديع الزمان سعيد نورسي(1870-1960), التي كانت تنشط في طشقند وسمرقند, إلي جانب النقشبندية التي تمركز نشاطها في وادي فرغانه.
أما الأحزاب السياسية فمن الممكن الإشارة إلي كل من حزب إسلام لاشكالاري( جند الإسلام) الذي انقسم لاحقا إلي تيارين: الأول, هو حزب’ العدالة’, الذي حاول ضبط حدود الحياة بطريقته الخاصة وفرض شروط رؤيته علي الناس, حيث جري القضاء عليه عام1992. والتيار الوهابي, الذي كان يوجه اهتمامه الرئيسي صوب قضايا الدين والعبادة. وقد كان قائدهم آنذاك طاهر يلداشيف, الذي قام بتشكيل خلايا من خمسة إلي عشرين شخصا, حيث استطاع تنظيم ما يقارب ستين خلية. وبعدها نشأت الكثير من الأحزاب الصغيرة التي سرعان ما اندثرت مثل( حزب الله), الذي كان استمرارا ونسخة من تيار التوبة, الذي نشط بين أعوام1992-1995, أما حزب التحرير الإسلامي( ذو الأصول العربية) فقد ظهر عام1990, غير أن اللوحة السياسية لا تنحصر بالأحزاب والتيارات والحركات الإسلامية, بل وتشتمل أيضا علي حركات ثقافية وسياسية) ليست حزبية, وتشترك في الحياة الاجتماعية, وتتميز بقدر معقول من الاعتدال في الفكر والسلوك العملي.
وبغض النظر عن هذا التنوع الأولي والمتناقض والمتصارع أيضا, فإننا نقف في الواقع أمام حالة توسع وتعمق الظاهرة الإسلامية في آسيا الوسطي. وليس هذه الحالة معزولة عن مكوناتها الوجودية( الإسلامية) بوصفها المقدمة الضرورية الأولية, سواء جري النظر إليها بمعايير التاريخ والثقافة والهوية أو بمعايير المصالح القومية وفكرة الدولة. فقد كان التماهي بين الإسلام والقومية في آسيا الوسطي وما يزال مكونا جوهريا وجوديا للأمة والثقافة والوعي التاريخي الذاتي. فبعد انحلال الاتحاد السوفيتي, علي سبيل المثال, كان يعتقد95% من القرغير و90% من الأوزبيك و79% من الكازاخيين بأنهم مسلمين. كما أن المرحلة الروسية والسوفيتية لم تقطع الصلة بالتراث بما في ذلك من جانب النخبة السياسية المغتربة والمتأوربة. بل حتي البنية التقليدية في آسيا الوسطي( من جهوية وفئوية وقبلية وعائلية) لم تتعارض مع هذه الظاهرة, بمعني أن لكل جهة وفئة وانتماء قبلي أو عائلي صلته الخاصة بالإسلام من حيث كونه دينا وثقافة وتاريخ(48). والشيء نفسه يمكن قوله عن السلوك السياسي للسلطة والنخب في الاستعمال النفعي للإسلام, بمعني إمكانية تأثيره المباشر وغير المباشر علي تفعيل الظاهرة الإسلامية علي المدي القريب والبعيد(49).
إن هذه المظاهر المتناقضة من الناحية الظاهرية هي جزء من معترك الحياة السياسية وصيرورة الدولة القومية, أما من الناحية الباطنية فإنها تتمثل وتجسد الأبعاد الدفينة للظاهرة الإسلامية نفسها بوصفها جزءا من تكامل وعي الذات القومي الثقافي, ومن ثم فإنها تعمل, رغم تناقضها الشديد أحيانا, علي إرجاع آسيا الوسطي إلي تطورها الطبيعي, أي كل ما يجعل من الطبيعي أيضا رجوع الإسلام وتقاليده إلي ميدان الوعي الاجتماعي, وهي ظاهرة سوف تتعمق مع كل إدراك لقيمة الموروث الثقافي الإسلامي, بمعني الاقتراب الجزئي المستمر والمتعمق بين التيار التحرري الديمقراطي والتيار الإسلامي. فإذا كانت الحركات الإسلامية هي الصيغة الثقافية لتمثل وعي الذات القومي, فان الحركات القومية هي الصيغة السياسية لهذا التمثل, أي أنهما يلتقيان في الباطن ويتباينان في الظاهر, وهو خلاف حدده ويحدده الشرخ التاريخي بين الوعي السياسي الدولتي والموروث الثقافي الخاص. ومن ثم فإن كل خطوة إيجابية إلي الأمام يخطوها الوعي الاجتماعي السياسي والقومي والثقافي سوف تؤدي حتما إلي تلاقيهما أو اتحادهما في رؤية الأولويات الكبري بالنسبة لمصالح الدولة والمجتمع, وهو واقع نعثر عليه في ازدياد أثر وقيمة الموروث الثقافي الإسلامي عند الحركات السياسية والاجتماعية القومية( الراديكالية والمعتدلة), كما هو الحال علي سبيل المثال عند حزب ألاش( الاستقلال) الكازاخي, وحزب العصبة القرغيزي, وحزب راستوخيز( النهضة) الطاجيكي. فقد وضع حزب ألاش مبدأ التضامن الإسلامي في صلب مبادئه الأربعة الأساسية إلي جانب مبدأ الوحدة الاجتماعية والحرية والديمقراطية, وجعل من بناء الدولة الإسلامية الموحدة لتركستان هدفه النهائي. وقد كان حزب ألاش استعادة لحركة ألاش التي نشأت في بداية القرن العشرين في تركستان. من هنا تعكس تسميته تمثل تجاربه القديمة وأفكاره الأساسية. ويعتمد الحزب أساسا علي الشباب والمثقفين, ويتميز بنزعة راديكالية قومية( وتركستانية), فهو الحزب الوحيد في كازاخستان الذي ينتقد السلطة بكل قواه ويعمل بجدية من أجل نشر أفكاره وتحقيق أهدافه, ويضع الآن في صدارة مساعيه العملية السياسية تحرير أوزبكستان بصورة جذرية من التأثير والوجود الروسيين في البلد.
ونفس الشيء يمكن قوله عن حزب العصبة القرغيزي, الذي يضع بين أهدافه الكبري الانبعاث القومي للقرغيز, ومعه انبعاث الإسلام, ولكن تحت راية الدولة الدنيوية. أما حزب راستوخيز الطاجيكي فهو من أوائل الأحزاب السياسية في آسيا الوسطي, التي أدرجت مهمة التحرر الوطني, وبناء الدولة الديمقراطية( ضمن الاتحاد السوفيتي) في أولويات برنامجه السياسي, وأخذ يقترب في مجري اشتداد الصراع السياسي والاجتماعي في طاجيكستان من مواقع الإسلاميين ليدخل معهم في نهاية المطاف في’ المعارضة الطاجيكية الموحدة’, ويخوض الصراع المسلح أيضا إلي جانبهم ضد السلطة الحالية.
كل ذلك يكشف عن أن تعمق الصراع السياسي وإدراك الأولويات الكبري لمصالح الدولة والمجتمع يدفع بالتيار القومي والتحرري والديمقراطي إلي الاقتراب من الحركات الإسلامية, كما يدفع بالحركات الإسلامية إلي الاقتراب منها, أي أن’ التكامل’ بينهم يعكس تكامل البنية الاجتماعية والقومية في دول آسيا الوسطي, كما أن تباعدهم يشير إلي واقع’ التفاضل’ بين الدول نفسها, وبين السلطات والمعارضة أيضا, وهي ظاهرة يصعب تذليلها دفعة واحدة لأسباب تتعلق بتاريخ نشوء الدولة الآسيوية المعاصرة ونخبها السياسية الجديدة. ونعثر علي هذه الظاهرة أيضا في تاريخ’ تكامل’ و’تفاضل’ الحركات الإسلامية السياسية نفسها في آسيا الوسطي(السوفيتية) ودولها المستقلة المعاصرة. ومن الممكن اتخاذ حزب النهضة الإسلامي نموذجا حيا لهذه الظاهرة, لاسيما أنه الحزب الأكبر والأعرق والأقوي من الناحية العقائدية والأيديولوجية والسياسية والتنظيمية, إذ جعل من مهمته الأساسية إرجاع المسلمين إلي حضرة الإسلام, وتطهير الدين الإسلامي من مخلفات وبقايا مراحل الانحطاط والمرحلة السوفيتية, وذلك من خلال الرجوع إلي مبادئ الإسلام الأولي الحقيقية(50), وفي تاريخ هذا الحزب وتحولاته يمكن رؤية مسار التعددية السياسية في أواخر المرحلة السوفيتية وبداية نشوء الدول المستقلة, وهي عملية تستثير بالضرورة تباين واختلاف المصالح والآراء والاجتهادات.
ففي كازاخستان, التي تتميز عن بقية دول آسيا الوسطي بمستوي عال من الدنيوية والروسنة, لم تتحول الظاهرة الإسلامية فيها إلي حركة سياسية فعالة بعد, فهي مازالت في حالة أقرب إلي العادات وتقاليد وأعراف حياتية وبعض معالم العبادة البسيطة, خاصة في المناطق الجنوبية( المتاخمة للعالم الإسلامي). ذلك يعني أن الإسلام السياسي فيها مازال في حالة كمون.
أما في قرغيزيا, التي تشبه لحد ما كازاخستان(51), فإن الظاهرة الإسلامية فيها أكثر وضوحا وحضورا, رغم أن القرغيز أقل شعوب آسيا الوسطي تعلقا واندماجا بالتقاليد الثقافية الإسلامية بسبب تقاليدهم الرعوية الجبلية وضعف تقاليد المدينة,(52) إلا أن الفراغ الأيديولوجي والعقائدي بعد انهيار الشيوعية السوفيتية جعل من الإسلام, إلي جانب الفكرة القومية, عاملا أيديولوجيا مهما(53). ومع ذلك فإن الظاهرة الإسلامية فيها مازالت جزءا من الصراع السياسي المتراكم في مجري عملية تكامل البنية الاجتماعية والسياسية والحكومة للدولة. إذ لم تتحول الظاهرة الإسلامية بعد إلي كيان سياسي مستقل, بل مازالت في طور الاندماج العضوي الملازم لاستعادة تقاليد العبادات الإسلامية مثل بناء الجوامع والمساجد والمدارس الدينية والاهتمام بتراث الإسلام(54).
ونعثر علي نفس المنحي في تركمانستان, إلا أن ما يميزها بهذا الصدد عن بقية دول آسيا الوسطي الإسلامية, هو استغلال السلطة للظاهرة الإسلامية بما يخدم توجهها السياسي, إذ تسعي السلطة من وراء الاهتمام ببناء الجوامع والمساجد وإرسال الطلبة لتحصيل العلوم الإسلامية في البلدان الإسلامية, بل وإدخال مادة تاريخ الإسلام في المدارس, إلي جعل نفسها’ الممثل الشرعي الوحيد’ للإسلام في خدمة المصالح الوطنية كما تفهمها النخبة السياسية السائدة في تركمانستان حاليا, إذ تعتبر السلطة الإسلام جزءا من المكونات الثقافية للقومية التركمانية. وبنفس الاتجاه العام تسير تصورات واقتراحات المؤسسة الدينية في تركمانستان, عندما تشدد علي أن الإسلام هو ليس كيانا مهمته ملء الفراغ الناتج عن انهيار الأيديولوجية الشيوعية في الاتحاد السوفيتي, بل مكون روحي جوهري سوف يكشف عن حيويته في كل ميادين الحياة بعد جيل أو جيلين من التربية الإسلامية. ذلك يعني أن مهمة الإسلام بالنسبة لها هو مهمة المستقبل. أي أن الظاهرة الإسلامية هي ظاهرة المستقبل الكامنة حاليا في بناء وحدة الدولة المستندة إلي التقاليد والثقافة القومية( التركمانية) والإسلامية.
بينما تختلف الحالة في أوزبكستان. فمن المشهور أن الاوزبكيين من بين أكثر شعوب المنطقة(باستثناء الطاجيكيين) تأثرا بالتقاليد الإسلامية والحفاظ عليها,(55) إضافة إلي أنها المنطقة التي تحتوي علي أكبر وأوسع وأعرق المراكز الثقافية الإسلامية ألا وهي بخاري وسمرقند. فقد كانت أوزبكستان من الناحية التاريخية والدينية مصدر التوسع الجغرافي لعالم الإسلام بين أتراك آسيا الوسطي. لهذا برزت الظاهرة الإسلامية فيها مع أول انفتاح نسبي في أواخر المرحلة السوفيتية. حينها أخذت تنتشر الحركات السياسية والأحزاب الإسلامية السياسية مثل حزب النهضة الإسلامي وحزب العدالة( الإسلامي), وحزب الله. فقد كان حزب النهضة منذ البدء في موقف المعارضة للسلطة الرسمية السياسية منها والدينية, إلا أنه تعرض إلي مهاجمة السلطة وتفريق صفوفه وإلقاء القبض علي أعضائه ومؤازريه, مما اضطره لاحقا للإعلان في10 آغسطس1992 عن دخوله للعمل السري المناهض للسلطة الحالية. أما حزب العدالة الذي تأسس في16 ديسمبر1991 بأثر تشكيل مجموعات من مختلف الفئات الاجتماعية في مناطق نامنغان وانديجان وفرغانه’ لإحقاق العدالة’ من خلال محاربة ظواهر الفساد والخروج عن العادات والتقاليد الإسلامية. وأثار نشاطه الاجتماعي مخاوف السلطة مما اضطرها لقمعه وسجن بعض رؤسائه(56). أما حزب الله فقد اتبع منذ البداية أسلوب النشاط السري لأنه رفض منذ البدء التعامل مع السلطة, ووقف موقف المعارض الشامل لها, حيث جعل هدفه الرئيسي إرجاع أوزبكستان إلي الحضرة الإسلامية وتقاليد الشريعة, من خلال تثبيت وترسيخ القيم الإسلامية وإعادة بناء الدولة والمجتمع علي أسس الإسلام وعقائده الكبري.
أما في طاجيكستان فقد تبلورت الحركات السياسية الإسلامية منذ وقت مبكرا(57) فمنذ السبعينيات أخذت تظهر بوادر الحركة الإسلامية السياسية السرية, التي تجلت للمرة الأولي في أحداث عام1976 في كورغان ــ توبه, عندما اشتبك الإسلاميون مع السلطة في مواجهات مباشرة. بعد ذلك انتقل نشاطهم السري إلي المدن والقري. واتخذ الصراع في البداية مظهر محاربة رجال الدين الرسميين, باعتبارهم ممثلي السلطة المناهضة للإسلام نفسه, وأخذ بالازدياد عدد المساجد’ السرية’. ومع بداية البيريسترويكا انتشرت المساجد العلنية بسرعة بالغة. فإذا كان عدد الجوامع عام1989 يبلغ17 جامعا, ففي عام1997 بلغ204 جوامع. في حين ازداد عدد المساجد لنفس الفترة إلي نحو5000 مسجد, وهو توسع يعكس تحول’ إسلام الظل’ إلي كيان فاعل في الحياة الروحية والسياسة لطاجيكستان. وتجلي ذلك بوضوح شديد في بداية التسعينيات من القرن العشرين(1992) عندما استطاع حزب النهضة الإسلامي والحركة الإسلامية الاستيلاء علي السلطة السياسية في العاصمة, إلا أنه لم يستطع الاستمرار في قيادتها بفعل أسباب داخلية( مثل ضعف تكامل البنية الاجتماعية الوطنية, وتأثير النزعة المناطقية والقبلية, والتباين الاقتصادي والسياسي والعقائدي الحاد بين مختلف المدن والمناطق, واستعمال العنف المتبادل عوضا عن الحوار السياسي) وخارجية( مثل التدخل الأوزبيكي والروسي وسلبيات التجربة الأفغانية). وأدي ذلك بحصيلته إلي اشتداد وتعمق عناصر وآلية الحرب الأهلية, التي خسرت بها الحركة الإسلامية زمام السيطرة السياسية داخل البلاد, وأبقت عليها بوصفها التيار الأكبر والأوسع والأقوي للمعارضة السياسية والمسلحة في طاجكستان, حيث تحولت الحركة الإسلامية السياسية إلي قطب المعارضة الوطنية والتحررية والديمقراطية الطاجيكية داخل البلد وخارجه. وجعل ذلك منها القوة المعارضة الوحيدة القادرة علي إدارة الحوار السياسي مع السلطة وفرض شروطها المعقولة بالنسبة لاستتباب الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الوطنية. وتتوج ذلك عبر مساومات مع السلطة الحالية إلي استعادة وجودها السياسي الشرعي ومؤسساتها الفاعلة, بما في ذلك السلطة التنفيذية.
مما سبق يتضح, بأن الظاهرة الإسلامية هي جزء من عملية تاريخية ثقافية سياسية كبري ترافق الصيرورة الجديدة للدولة القومية في آسيا الوسطي, أي المحكومة بفقدان التاريخ السياسي واختباء التراث الثقافي فيما وراء وجودها الحديث والمعاصر, الأمر الذي أنتج حالة معقدة من تداخل المكون السياسي والثقافي في الظاهرة الإسلامية. وجعل في الوقت نفسه من’ الإسلام السياسي’ انعكاسا طبيعيا لهذا الخلل بين التاريخ والوعي, والدولة والثقافة. إلا أن المسار المعقد لهذا التداخل سوف يكشف مع مرور الزمن الحقيقة القائلة بأن الظاهرة الإسلامية من حيث جوهرها هي إشكالية تاريخية وسياسية وقومية من إشكاليات إرساء المرجعية الثقافية الخاصة, بمعني أولويتها مقارنة بالأبعاد السياسية الملتهبة في الظروف الحالية. وكلما يجري إدراك هذه الحقيقة كلما يصبح أكثر واقعية إمكانية تحولها إلي بديهية سياسية نظرية وعملية قادرة علي إزالة التعارض والتناقض المفتعل بين التراث والمستقبل, وهي عملية معقدة ومتناقضة, لكنها تجري ضمن سياق المنطق الكامن فيما ادعوه بصيرورة المركزية الإسلامية الجديدة, أي مركزية إرساء أسس’ الإسلام الثقافي’, وسوف تقطع دول آسيا الوسطي هذا المسار الشاق من خلال توصلها إلي إدراك الحقيقة القائلة, بأن الإسلام وتراثه الكبير هو ليس إشكالية سياسية, بل مرجعية ثقافية.
ميثم الجنابي
مجلة الديمقراطية المصرية
إضافة تعليق جديد