الغزو العثماني للمشرق في مئويته الخامسة (1 من 5)
الصراع العثماني-التركماني وجذور المسألة العلوية في الأناضول
الجمل- علي شكري (*):
في الرابع والعشرين من شهر آب المقبل، سيحتفل المشرقيون، كلٌ على طريقته، بالذكرى المئوية الخامسة لمعركة مرج دابق، التي انتصر فيها العثمانيون بقيادة السلطان سليم خان الأول على المماليك بقيادة السلطان الأشرف قانصوه الغوري. وقد أخذت المعركة اسمها من السهل الذي وقعت فيه إلى الشمال من حلب، وفيها تقرر مصير المشرق العربي لأربعة قرون ستأتي.
بيد أن الغزو العثماني للمشرق لا يمكن اختزاله بمعركة مرج دابق وحدها، فقبلها بسنتين كانت معركة چالدِران (23 آب 1514) والتي انتصر فيها أيضاً السلطان سليم على الصفويين بقيادة الشاه اسماعيل الأول، موسعاً حدود السلطنة لتشمل شرق الأناضول وغرب أرمينيا، ومدشِّناً أكثر من ثلاثة قرون من الصراع بين العثمانيين والصفويين، ومن جاء بعدهم من الأفشار والقاجار. وبعد مرج دابق جاءت معركة الريدانية (22 كانون الثاني 1517) التي أفضت إلى زوال دولة المماليك وضم مصر والحجاز إلى السلطنة العثمانية، وانتقال "الخلافة الإسلامية" من العباسيين إلى العثمانيين. ولكنه، وقبل هذه وتلك، ثمة أكثر من 120 عاماً من الصراع العثماني-التركماني، كانت ضرورية، ليس فقط لتمهيد الطريق أمام ذلك الغزو، بل وكذلك لخلق السياق الجيوسياسي الذي قاد إلى تفجير الصراع على المشرق بين العثمانين وجيرانهم الصفويين والمماليك، وقبلهما، مع الأوزبك التيموريين.
ولعله من مفارقات التاريخ أن تبدو أحداث تفصلنا عنها كل هذه القرون، راهنةً وحاضرةً إلى هذا الحد، حيث يخوض أحفاد السلطان سليم من "العثمانيين الجدد" بقيادة رجب أردوغان معارك مشابهة، وفي سبيل الهدف عينه—السيطرة على المشرق. بل إن سهل مرج دابق ذاته قد يشهد معركة مماثلة في وقت قريب من ذكرى المعركة الأولى، مع تقدم الجيش السوري وحلفائه لاستكمال تحرير ريف حلب الشمالي من ميليشيات العثمانية الجديدة التي تحتله منذ نحو خمس سنين.
أما على مستوى الرموز، فلا أدلَّ على راهنية هذه الذكرى من إطلاق داعش اسم "دابق" على صحيفتها المركزية، وهي تسمية تَشي بارتباطاتها العثمانية الجديدة بأكثر من استنادها إلى حديث نبوي مزعوم تبدو صياغته أشبه بتنبؤات نوستراداموس، وكذلك ظاهرة شيوع استخدام عبارات مثل، "صفوي شيعي رافضي" أو "عثماني/سلجوقي سفاح" في سياق الصراع المحتدم في المشرق منذ سنين، والاحتجاجات العنيفة التي شهدها "ميدان تقسيم" في استنبول في حزيران 2013 ضد إطلاق اسم السلطان سليم على جسر جديد ثالث فوق مضيق البوسفور. وعليه، فإن إحياء هذه الذكرى وإعادة قراءتها في سياق الحاضر، ورصد ثوابت ومتغيرات الصراع في المنطقة، وعليها، بين الأمس واليوم، ستكون أكثر من مجرد ثرثرة مناسباتية على هوامش الرزنامة.
ولذلك فإننا سنعرض في هذه السلسلة الرباعية لكل هذه الأحداث وجذورها التاريخية ودورها في تشكيل المشرق الحديث، مخصصين الحلقة الأولى لجذور وبواكير الصراع العثماني-التركماني والمسألة العلوية في الأناضول، والثانية للمحور العثماني-الصفوي، فيما سنخصص الحلقتين الثالثة والرابعة للمحور العثماني-المملوكي.
العثمانيون: من إمارة "الغازي" إلى الامبراطورية
لئن كان الصراع العثماني-المملوكي يمثل تجسيداً للتنافس الجيوستراتيجي التاريخي بين الأناضول ومصر منذ أيام الحثيين والفراعنة، بغض النظر عن السلالات الحاكمة في كل منهما، فإن الصراع العثماني-الصفوي يبدو مركباً وأكثر تعقيداً. فهو من ناحية، شأن الأول، يجسَّد التنافس الجيوستراتيجي القديم بين الهضبتين الأناضولية والإيرانية منذ أيام الإخمينيين. ولكنه من ناحية أخرى، يجسَّد الصراع السياسي والثقافي والمعاشي بين المشروع الامبراطوري للأرستقراطية العثمانية (وقبلها السلجوقية) الحاكمة، وغالبية العشائر التركمانية في الأناضول وأذربيجان وشمال سورية والعراق، منذ بدء الاستيطان التركماني في تلك المناطق أواخر القرن الحادي عشر. أما الظاهر السني-الشيعي/العلوي لهذا الصراع، فكان في معظمه حاجة دعائية وتعبوية لأطرافه من أجل شحذ العصبيات وبناء سرديات تستحضر المقدسات إلى حيز صراعات هي دنيوية في الأساس. ولا أدل على ذلك من حقيقة أن حرب العثمانيين مع المماليك السُنَّة لم تكن أقل ضراوة من حربهم على الصفويين.
فغداة نشوء الإمارة العثمانية في العام 1299 في أقصى شمال-غرب الأناضول، كان الأخير يضم نحو دزينة من الإمارات التركمانية الصغيرة (Beylik) على شاكلتها، بالإضافة إلى كلٍ من سلطنة سلاجقة الروم في غربها، وامتداد الإمبراطورية الإيلخانية (المغولية) في شرقها، مع جيب مملوكي صغير في الجنوب. وفيما بعد، أدى انحلال وانحسار دولتي السلاجقة والإيلخانيين إلى تفريخ المزيد من هذه الإمارات التي حظي العديد منها بحماية المماليك. وعلى مدى معظم القرن الأول من حياتها، حرصت الإمارة العثمانية الفتية على أداء وظيفة "مجاهد الثغور" أو الـ"غازي، ġāzī" ضد الروم، فاقتصرت حروبها التوسعية في تلك الفترة على تراقيا والبلقان، حيث كانت تحرز مكاسب كبيرة بفضل مزيج من التكتيكات العسكرية المتقدمة والدبلوماسية الذكية، مستفيدة من ضعف الدولة البيزنطية والمجتمعات والكيانات السياسية المحلية، والتناقضات الأرثوذوكسية-الكاثوليكية.
بيد أن السلطان بيازيد الأول، الملقب "يلْدِرِم"، أي الصاعقة، وبعد معركة كوسوفو 1389، وزواجه من الأميرة أوليفرا ديسبينا ابنة لازار أمير صربيا، وما تبعه من سلام وتحالف مع الصرب، التفت جنوباً لاستئناف قتاله ضد أبناء عمومته في الإمارات التركمانية في غرب ووسط الأناضول، والذي كان قد بدأه عندما كان حاكماً لمدينة كوتاهية في عهد أبيه مراد الأول. وقد اصطدم هذا التوجه باعتراض وتململ في صفوف الفرسان التركمان (السباهية) في جيشه، ليس لاعتبارات مبدئية وعاطفية فحسب، بل وكذلك لأن غنائم الحرب ستكون أقل في تلك الجبهات. ولذلك كان على بيازيد زيادة اعتماده على الإنكشارية، وعلى أنسبائه الصرب وغيرهم من الحلفاء والأتباع من مسيحيي البلقان.
خلال العامين 1390-1391، وفيما المماليك منشغلون بتيمورلنك وبذيول المحاولة الإنقلابية التي قام بها يلبغا الناصري نائب حلب، ومنتاش نائب ملاطية على السلطان سيف الدين برقوق، نجح بيازيد في إخضاع واستتباع معظم الإمارات التركمانية الواقعة غرب الأناضول (مثل: صاروخان، آيدين، منتشا، قرمان، گرمايان، بنو حميد، تاكا)، وهو ما دفع أمراءها المغلوبين على أمرهم إلى طلب الحماية والنصرة من تيمورلنك في سمرقند، بوصفه يومئذ زعيم التحالف المغولي-التركي في آسيا الوسطى، و "الوريث الشرعي" للإرث الإيلخاني في الأناضول. وإزاء رد بيازيد الفظ على مطالب تيمورلنك بكف يده عن هذه الإمارات، لم يجد الأخير بداً من الزحف إلى الأناضول بجيش جرار (تراوحت تقديرات عديده ما بين 150 ألفاً وما يزيد عن المليون) فكانت بينه وبين بيازيد معركة أنقرة 1402، التي يعدّها بعض المؤرخين أضخم معركة في القرون الوسطى. وفيها أبلت القوات الصربية والوالشية الحليفة، التي كان يقودها شقيق زوجة بيازيد، الأمير ستيفان لازاريفيتش، بلاءً حسناً، ولكن غالبية الفرسان التركمان الذين كانوا في الجيش العثماني انشقوا عنه خلال المعركة لينضموا إلى جيش تيمور. وهكذا مُنيَ العثمانيون بهزيمة ماحقة، ووقع بيازيد نفسه أسيراً في يد تيمور، ليموت في الأسر قهراً، والأرجح انتحاراً، بعد ذلك بفترة وجيزة، ولتغرق السلطنة في أتون حرب أهلية بين أبنائه لأكثر من عشرة سنين، أصبحت خلالها ألعوبة في أيدي دول البلقان، التي كانت تدين لها سابقاً بالولاء والطاعة وتدفع لها الجزية.
وبطبيعة الحال فقد استعادت الإمارات التركمانية التي أخضعها بيازيد استقلالها خلال تلك الفترة، مستفيدة من حالة التفكك والاقتتال الداخلي التي كانت تمر بها الدولة العثمانية. ولم تستتب أمور الدولة من جديد إلا في العام 1413، بوصول محمد الأول ابن بيازيد إلى سدة الحكم بمساعدة من دول البلقان التي كانت قد انحازت بداية لجهة شقيقه موسى چلبي، قبل أن تنقلب على الأخير وتميل إلى جانبه.
يستحق محمد الأول لقب "المؤسس الثاني" للسلطنة العثمانية، حيث نجح خلال عهده الذي لم يدم أكثر من ثمان سنوات في إخرجها من الفوضى والانقسامات، ووضعها على الخارطة من جديد، وإن ضمن حدود أقل اتساعاً مما كانت عليه عشية معركة أنقرة. وكان من أبرز التحديات التي واجهها في علاقته بالتركمان، تلك "الثورة الاشتراكية" التي أطلقها الشيخ بدر الدين السماونالي في العام 1416 من دوبروجا (على دلتا الدانوب) وتردد صداها على امتداد السلطنة، وخاصة في شبه جزيرة قرابورون على بحر إيجة، وصمصون على السواحل الجنوبية للبحر الأسود، ونجحت في استقطاب الفئات الفقيرة والمهمشة من مختلف المِلل والنِحل. وكان الشيخ الأزهري المرموق و "قاضي العسكر" السابق، بدر الدين السماونالي وقتها أبرز مشايخ الصوفية العلوية. أما المبدأ الذي قامت عليه ثورته، فكان تحقيق العدالة الاجتماعية من خلال توزيع الأراضي على الفلاحين وإلغاء الضرائب، أو بحسب تعبير الشيخ نفسه "كل شيء مشاع ما عدا وجه الحبيبة". وقد انتهت تلك الثورة التي خلدها الشاعر الشيوعي ناظم حكمت في "ملحمة بدر الدين - 1936"، في العام 1420 بسحقها عسكرياً وإعدام الشيخ بدر الدين وغيره من قادتها وإبادة الآلاف من الثوار.
ولم تستعِد السلطنة كامل عافيتها ورقعتها الجغرافية قبل نكبة تيمورلنك والحرب الأهلية، إلا في عهد السلطان مراد الثاني الذي حكمها نحو ثلاثين عاماً (1421 - 1451). ومع تسلم ابنه محمد الثاني زمام الأمور كانت السلطنة قد أصبحت ناضجة لتحقيق إنجازها التاريخي التالي—فتح القسطنطينية. وهو ما كان السلطان الجديد قد كرس له سنتين من التحضيرات وحشد الموارد، وأنتهى من انجازه بجدارة يوم 29 أيار 1453، بعد حصار دام 53 يوماً.
لن يخلو من الوجاهة اعتبار سقوط القسطنطينية في يد العثمانيين، الحد الفاصل بين العصرين الوسيط والحديث، ليس فقط لرمزية المدينة باعتبارها "روما الثانية"، بل وكذلك بالنظر لدوره في تشكيل العالم الحديث من خلال سلسلة الديناميات السياسية والاقتصادية والثقافية التي أطلقها. وفيما يخص موضوعنا، فإن هذا الإنجاز الذي كان المسلمون قد عجزوا عن تحقيقه على مدى أكثر من ثمانية قرون، جعل صاحبه لا يكتفي فقط بلقب "الفاتح"، بل ونجده في نشوة انتصاره، يتخد لنفسه أيضاً لقب "قيصر الروم"؛ وهو لقب يعكس تحولاً بالغ الدلالة في هوية وذهنية الدولة العثمانية. فعندما تجلس على عرش قيصر الروم، وكائناً ما كان أصلك وفصلك، فستبدأ برؤية العالم من منظاره وتترسم منهجه—هي إن شئت، عبقرية المكان والجبرية الجيوستراتيجية!
وبحيازته عاصمة امبراطورية عريقة مثل القسطنطينية، لدولة تتموضع استراتيجياً على أراضي قارتين، وقصراً أسطورياً مثل "الباب العالي" Topkapı، ومسجداً مهيباً يجسد ألف عام من التراث الروحي والفني للمسيحية الأرثوذوكسية والثقافة الهيلينية مثل آياصوفيا .. كان من الطبيعي أن يفكر السلطان والقيصر والفاتح محمد خان بإضافة "خليفة المسلمين"، أيضاً، إلى مجموعة ألقابه السامية. وهو ما كان يتطلب منه الزحف جنوباً إلى القاهرة حيث كان يقيم الخليفة العباسي حبيساً في ضيافة المماليك، وإلى الحجاز حيث "الحرمين الشريفين"، وأن يمر في الطريق إليهما على الشام—"شام شِريف" كما تسمى بالتركية. ولكن قبل هذا وذاك، كان عليه ترتيب حديقته الأمامية بإحكام قبضته على الأناضول وضم ما تبقى فيها من الإمارات التركمانية المستقلة، وإخماد حركات الاحتجاج والتمرد الاجتماعية التي كان يقودها في الغالب دراويش الطرق الصوفية العلوية منذ أيام السلاجقة. وهي مهام سيستغرق تنفيذها أكثر من نصف قرن، تشمل ما تبقى من عهده بالإضافة إلى عهد ولده بيازيد الثاني، ولتتحقق أخيراً على يد حفيده سليم الأول.
وبطبيعة الحال، كانت ثمة دوافع أخرى، وربما أكثر أهمية من الناحية الجيوستراتيجية، تتطلب أيضاً توسع العثمانيين جنوباً. فقد أدى قطع السلطان محمد الفاتح لطريق الحرير المار بالقسطنطينية نحو أوروبا إبان فتح الأولى، إلى حالة من الهياج والاستنفار العسكري والديني والاقتصادي في سائر أنحاء القارة. وفي هذا السياق، انطلقت القوى الأوروبية الصاعدة، وخاصة اسبانيا والبرتغال، للبحث عن طرق بحرية بديلة للوصول إلى جنوب-شرق آسيا. وقبل أن تتمخض تلك الجهود عن اكتشاف رأس الرجاء الصالح والقارة الأمريكية أواخر القرن الخامسر عشر، أراد العثمانيون السيطرة على فرع آخر من طريق الحرير كان يمر إلى أوروبا عبر تبريز-حلب، وكذلك على طريقين للتوابل، احدهما عبر البصرة-حلب، والآخر عبر البحر الأحمر. وهي عوامل سنتطرق إليها، بالإضافة إلى مجريات الصراع مع الإمارات التركمانية، بتفصيل أكبر في الجزء الثالث والرابع من هذه السلسلة، كونها على صلة أكثر بالصراع مع المماليك. وسنركز هنا على الإحاطة بالسياق الذي أدى إلى الصراع مع الصفويين وأنصارهم من التركمان القزلباش.
فما هي إذن الأسباب الكامنة وراء التوتر والعداء بين العثمانيين والغالبية العظمى من أبناء جلدتهم التركمان؟
تتريك الأناضول وتغريب التركمان
لنوضح بداية ما الذي نقصده بتسمية "التركمان"، وفي السياق الأناضولي تحديداً، وكيف نميزهم عن بقية السكان المسلمين الناطقين بالتركية في الأناضول.
باختصار وتبسيط شديدين، المقصود بالتركمان هنا هم أؤلئك المنتمين إلى قبيلة "الأوغوز" الذين دخلوا في الإسلام، وهاجروا على دفعات من موطنهم في آسيا الوسطى نحو بلاد المشرق اعتباراً من أواخر القرن الحادي عشر وحتى الثالث عشر، واستقروا على امتداد أذربيجان والأناضول وشمال سورية والعراق. أما ما عداهم من المسلمين الناطقين بالتركية في الأناضول، وسنسميهم هنا بـ"الأتراك"، فهم ينحدرون أساساً من أؤلئك الذين جرى تتريكهم وأسلمتهم من المكونات المختلفة لسكان الأناضول الأصليين (يونان، أرمن، لاز، سريان، ألبان وغيرهم .. ممن كانوا يُسمون إجمالاً بـ"الروم") والذين عاشوا فيه لآلاف السنين قبل الغزو التركماني السلجوقي (معركة ملازكرت1071 م).
ويمكن تقسيم هؤلاء بدورهم إلى فئتين: فئة جرى تتريكها وأسلمتها بواسطة المؤسسات الدينية للدولة السلجوقية والمدارس الصوفية المولوية، وهؤلاء كانوا في الغالب من سكان المدن والحواضر القريبة منها في غرب الأناضول، وباتوا يتبعون المذهب السنّي. وفئة أخرى من بسطاء الأرياف النائية والمناطق الجبلية، خاصة في وسط وشرق الأناضول، الذين تفاعلوا مباشرة مع العشائر البدوية التركمانية المهاجرة، فتمازجت عقائدهم الشعبوية عفوياً لتنتج ضروباً من الطرق الصوفية العلوية في الغالب، مثل الحروفية والبكتاشية والتختجية. وبطبيعة الحال فقد ذاب بعض التركمان في محيطهم الديموغرافي وفقدوا انتماءهم العشائري، ولكن الذين نقصدهم هنا بتسمية "تركمان" هم أساساً أؤلئك الذي حافظوا على روابطهم وأنسابهم العشائرية—وهؤلاء لم تتجاوز نسبتهم 10% من مجمل سكان الأناضول في أي وقت من الأوقات. أي إن الغالبية الساحقة من سكان الأناضول لم يكونوا تركماناً من الناحية "العرقية"، بل كانوا رْومَاً مستتركين، وإن التركيب العرقي لغالبيتهم لم يتغير جوهرياً نتيجة للفتح السلجوقي، حيث اقتصرت التحولات في هويتهم، أساساً، على اللغة والدين.
أما الإمارة العثمانية فقد نشأت بداية في كنف سلاجقة الروم، وورثت عنهم ذهنية الدولة المركزية والتطلعات الامبراطورية، وثقافة نخبوية فارسية اللغة والمحتوى، بيزنطية الهوى، ومذهباً سنّياً متشبعاً بالمؤثرات الصوفية والشيعية، على قدر كبير من التسامح، وموقفاً استعلائياً متوجساً إزاء بقية التركمان. فالدولة العثمانية، كما سلفها السلجوقية، لم تكن في واقع الحال دولة "تركمانية"، مثلاً، بالقدر الذي كانت فيه الدولة الأموية "عربية"، بل كانت أشبه بالدولة العباسية أو الهابسبورغ—كوسموبوليتية عائمة فوق بحر من الإثنيات التي تُسخِّر مواردها لضمان بقاء واستمرار أرستقراطيتها الحاكمة.
وفيما يتعلق بالهوية، لم يكن العثمانيون يقدمون أنفسهم أبداً على أنهم أتراك أو تركمان، وإنما، ببساطة، كـ"عثمانيين" Osmanlı أو كمسلمين Müslüman. ولم يتبنوا الهوية التركية إلا في القرن التاسع عشر متأثرين بحمى عصر القوميات في أوروبا، وكرد فعل على ثورات التحرر القومي لشعوب البلقان ضد هيمنتهم. بل نجد أنهم كانوا يظهرون الكثير من الازدراء لأبناء جلدتهم التركمان، فيشيرون إليهم بعبارات مهينة ونابية، مثل eşek Türk أي "تركي حمار"، فيما كانت عبارة “Türk kafa” وترجمتها الحرفية "رأس تركي" مرادفاً للغباء في قاموسهم!
وعلى الرغم من إلتزام الدولة العثمانية بالإسلام السنّي الحنفي والجهاد في سبيله، فقد كانت غالبية رعاياها حتى ذلك الوقت (مطلع القرن السادس عشر) من مسيحيي البلقان، وذلك بدون أن يمارسوا عليهم أية ضغوط، أو يقدموا لهم حوافز تذكر، للتحول إلى الإسلام—فعائدات خزينتهم من الجزية التي كانوا يدفعونها كانت أهم عندهم من دفعهم إلى الإسلام. ومع أنهم اعتمدوا بداية على التركمان في بناء جيوشهم، بالنظر لشجاعة هؤلاء وبراعتهم المنقطعة النظير في الفروسية والرماية بالقوس، إلا أن التطور المطرد للأسلحة النارية أتاح لهم تقليص الاعتماد على خدماتهم تدريجياً مقابل الاعتماد أكثر على الانكشارية الذين برعوا أكثر في استخدام تلك الأسلحة.
وكان الجيش الانكشاري Yeniçeri (الجيش الجديد) يتألف حصراً من أبناء البلقان المسيحيين من ذوي الأجساد القوية، والذين كانوا يُنتزَعون من عائلاتهم وهم صِبية يافعون في إطار حملات تجنيد دورية تسمى "دوشرمه" devşirme (أي التحويش) ليُلحَقوا بمدارس داخلية توفر لهم تعليماً عاماً رفيعاً وتربية عسكرية صارمة، وتُنشئهم على قيم الإسلام والولاء المطلق للسلطان، وذلك بإشراف دراويش صوفيين من العلويين البكتاشيين، والذين كانوا يلازمونهم حتى في ساحات المعارك. وبذلك حصل العثمانيون على قوة عسكرية ضاربة من المحترفين، منقطعة عن جذورها الاجتماعية، ومتحررة من أية ولاءات قرابية كتلك التي كانت تتنازع جنودهم من التركمان، وتجمعها عصبية جديدة خاصة بها صُممت لخدمة مصالح "الدولة العلية".
ولم يقتصر دور الجيش الانكشاري على الجانب العسكري، فقد كان يمثل أيضاً مصدراً للكوادر الإدارية للمناصب العليا. وهنا أيضاً نجد غلبة العنصر غير التركي؛ فمثلاً، يذكر المستشرق الألماني جيلزر أنه من أصل 48 شخصاً شغلوا منصب "الصدر الأعظم" ما بين العامين 1453 - 1623 كان ثمة خمسة فقط من ذوي الأصل التركي، في حين أن 31 من الباقين كانوا من مُحدثي الإسلام. وكذلك كانت حال زوجات وأمهات السلاطين، حيث كنَّ في الغالب من غير التركيات.
وكانت اللغة العثمانية تعجّ بالكلمات الفارسية والعربية، أكثر بكثير من اللغة التركية الحديثة، أما شعراؤهم، فكانوا ينظمون باللغة والأوزان العروضية والجماليات البلاغية للشعر الكلاسيكي الفارسي. ولعلها من المفارقات الصادمة في حكايتنا هذه، حقيقة أن السلطان سليم نفسه، والذي كان يقرض الشعر تحت الاسم المستعار "مـَهـْلـَس سليمي"، كان ينظم شعره بالفارسية، في حين نجد أن غريمه الشاه اسماعيل الصفوي (الذي يوصف بالفارسي)، وكان أيضاً شاعراً، كتب أشعاره بالتركية. وكذلك كانت الحال في المراسلات السجالية الجارجة التي كانت تجري بينهما.
بالمقابل نجد أن غالبية التركمان كانوا يحافظون إجمالاً على نمط حياتهم العشائري التقليدي، ومنهم تشكلت الطبقات الحاكمة والعسكرية في الإمارات التركمانية قبل اجتياحها وضمها إلى الدولة العثمانية. ويبدو أن هؤلاء، وخاصة من جاؤوا منهم في الهجرات المتأخرة في القرن الثالث عشر، لم يستسيغوا كثيراً الإسلام السنّي بنسقه الفقهي المعقد والمدوَّن بالعربية أو الفارسية التي لا يفهمونها أصلاً، ولا فرائضه العبادية الثقيلة، ولا الهيكليات البيروقراطية التراتبية التي أقامها السلاجقة والعثمانيون لمشايخهم على غرار الإكليروس الأرثوذوكسي. لذا نجدهم قد ابتكرو إسلامهم الخاص بهم، والقائم على التصوف (العلوي خصوصاً) فضلاً عن عناصر من ديانتهم الشامانية القديمة، وديانات غنوصية أخرى كانوا قد تأثروا بها مثل الزرادشتية والمزدكية والمانوية، وكذلك المسيحيات الأناضولية الموصومة بالهرطقة، مثل البيلكانية أو البولسية الأرمنية [1].
وبطبيعة الحال فإن التناقض الظاهر بين الإيديولوجيا الامبراطورية المركزية المحافظة للدولة العثمانية (وقبلها السلجوقية)، والثقافة العشائرية والنزعة الاستقلالية لدى هؤلاء التركمان، كان يعكس تناقض المصالح الاقتصادية والأنماط المعاشية للجانبين. ففيما كانت مداخيل الخزينة العثمانية تعتمد أساساً على الضرائب التي يدفعها الفلاحون والمزارعون، فإن تربية المواشي كانت مصدر الرزق الرئيس لهذه العشائر. وكما يحصل عادة في مثل هذه الحالات، فإن سعي الجماعات الرعوية إلى الكلأ والمراعي الجديدة يتسبب بالكثير من المماحكات والنزاعات مع المجتمعات الزراعية المستقرة التي يعيشون بين ظهرانيها. وبالتالي فإن أي تقويض لهذه المجتمعات الزراعية سينعكس على عائدات الضراب والأمن الاقتصادي بشكل عام.
وللتغلب على آثار الكارثة الديموغرافية التي كان قد تسبب بها وباء الطاعون أواسط القرن الرابع عشر، كانت سياسة الدولة العثمانية تقوم على توسيع وتعزيز المجتمعات الزراعية عبر تشجيع استقرار البدو الرحل، بل وحتى إجبارهم على ذلك بالقوة، وكذلك على استقطاب الحرفيين والصناعيين والمتعلمين عموماً للسكن في حواضرها. وهكذا، مثلاً، نجد أن السلطان محمد الفاتح، وفضلاً عن لجوئه إلى التوطين القسري، قدم تسهيلات سكنية وضريبية مغرية جداً لاجتذاب نوعيات معينة من السكان لعاصمته الجديدة، ومن مختلف الأجناس والأديان. كما نجد خلفه بيازيد الثاني، يبادر إلى إرسال أسطول بقيادة أمير البحر كمال ريس إلى الأندلس لاستجلاب أعداد كبيرة من مسلميها ويهودها إبان سقوط غرناطة في العام 1492، ويمنحهم حق الإقامة والمواطنة طمعاً بمهاراتهم وخبراتهم. فيما نجده هو نفسه يأمر بإعادة توطين الآلاف من تركمان الأناضول قسراً في أراضٍ جديدة كان قد فتحها في بلاد اليونان على بعد مئات الكيلومترات عن موطنهم الأول، وهو ما كان قد فعله أيضاً والده محمد الثاني إبان حملته على إمارة قرَمان (1468 – 1474). ولم تكن مثل هذه الممارسات بحق التركمان دوماً من باب التنمية الاقتصادية، أو الهندسة الديموغرافية، بل كثيرا ما كانت إجراءات أمنية وقائية أو تنكيلية عقابية.
هكذا إذن كان يجري تغريب وتهميش التركمان على أيدي ذوي القربى، وعلى هذه الخلفية كانت تنشب الثورات والحركات الاحتجاجية من وقت لآخر بقيادة الدراويش والشعراء والمنشدين الصوفيين الجوالين aşıklar (أي العشّاق)، كثورة الشيخ بدر الدين التي أشرنا إليها، وقبلها ثورة بابا إسحاق (1239 - 1241) أيام السلاجقة، وثورة شاه قولو التي سنأتي على ذكرها لاحقاً.
وقد أدت موجة التوسع العثماني الجديدة في الأناضول خلال النصف الثاني من القرن الخامس عشر باجتياح وضم المزيد من الإمارات التركمانية، وما رافقها من فرض للأنظمة المركزية الصارمة والضرائب الفاحشة، وتهجير وتوطين قسريان للعشائر .. إلى موجة جديدة من هذه الاضطرابات التي قادتها هذه المرة حركة صوفية علوية صاعدة أطلق عليها العثمانيون اسم القزلباش. خطورة هذه الحركة لم تكن تتمثل فقط في انتشارها الواسع من أذربيجان وحتى بحر إيجة، ومن البلقان وحتى شمال سورية والعراق، ولا من طبيعتها العسكرية المركزية وروحها الجهادية المتوثبة، بل وفضلاً عن كل ذلك، من ارتباطها وولائها المطلق للدولة الصفوية الصاعدة في الشرق، ومؤسسها الطموح والهُمام، الشاه اسماعيل الصفوي.
في الحلقة المقبلة، الصراع العثماني-الصفوي ومعركة چالدِران.
إضافة تعليق جديد