الغزو العثماني للمشرق في مئويته الخامسة (2 من 5)
الصراع العثماني-الصفوي ومعركة چالدِران
الجمل- علي شكري *:
"سجادة واحدة تتسع لصوفيين اثنين
ولكن العالم كله لا يتسع لملكين"
- سليم خان الأول
بلاد فارس وصعود السلالة الصفوية
شهد مطلع الألفية الثانية تساقط الدول الفارسية الثلاث، السامانية والصفارية والبويهية، التي كانت تتقاسم الرقعة التاريخية لبلاد فارس، وذلك أمام صعود سلالتين تركمانيتين جديدتين—الغزنوية في الشرق والسلجوقية في الغرب، قبل أن تحل محلهما السلالة الخوارزمية أواخر القرن الثاني عشر. أواسط القرن الثالث عشر، وقعت البلاد تحت حكم المغول، وبقيت كذلك حتى أواخر القرن الرابع عشر. ونظراً للاتساع الهائل للأمبراطورية المغولية، التي امتدت من المحيط الهادئ شرقاً وحتى حدود بولونيا غرباً، وضآلة عديد الشعب المغولي، فقد كان على المغول الاعتماد على جنود ومرتزقة وموظفين من ابناء الشعوب الأخرى، وخاصة جيرانهم الترك، لما بينهما من تقارب لغوي وثقافي. وعلى مدى حقبة "السلام المغولي" Pax Mongolica، مرت النخب المغولية الحاكمة في هذه الرقعة بعمليات استتراك وتأسْلُم تحت تأثير الغالبية التركية المسلمة التي كانت تشكل القاعدة العريضة لأجهزتهم. وهكذا فما أن حل القرن الرابع عشر حتى باتت معظم هذه النخب ناطقة بلغات تركية، وتدين بالإسلام، وذات أنساب مختلطة وروابط قرابية وثيقة مع الترك، بل ظهرت شعوب تركومغولية هجينة جديدة مثل الأوزبِك والكازاخ والتتار.
ويمكن اعتبار تيمورلنك نفسه نموذجاً للحاكم المغولي المُستَترِك المسلم، وقد غزا بلاد فارس أواخر القرن الرابع عشر، ولكن مع التفكك السريع لإمبراطوريته إبان وفاته المفاجئة في العام 1405، وقع الشطر الغربي من البلاد تحت حكم سلالة تركمانية تسمى قره قوينلو (ذو الخروف الأسود). أما شرق الأناضول فكان وقتئذٍ تحت حكم سلالة أخرى منافسة تسمى أق قوينولو (ذو الخروف الأبيض). وفي كنف هاتين السلالتين تطورت الحركة الصفوية واشتد عودها على مدى القرنين الرابع والخامس عشر، بقيادة أسلاف بطل حكايتنا هذه—الشاه اسماعيل الصفوي.
الصفويون والقزلباش والشاه إسماعيل
يعود نسب الشاه اسماعيل (1487 - 1524) إلى الشيخ صفيّ الدين الأردبيلي (1252 - 1334) الذي أسس الطريقة الصوفية الصفوية في مسقط رأسه أردبيل (أذربيجان الإيرانية)، وكان وقتها سُنياً شافعياً مستتركاً من أصول كردية-أذربيجانية مختلطة، ونسب علوي (مزعوم) يصله بالإمام السابع موسى الكاظم. وقد حازت الطريقة الصفوية على سمعة طيبة ولاقت انتشاراً واسعاً في المنطقة، حتى إن تيمورلنك وهو في طريق عودته مظفَّراً من معركة أنقرة (1402) حرص على زيارة ضريح الشيخ صفي الدين تبرُّكاً، ومنح حفيده خوجا علي منطقة أردبيل كوقفٍ له ولذريته من بعده.
بيد أن الشيخ جُنيد، حفيد خوجا علي، والذي تولى مشيخة الطريقة في العام 1447، لم يكن فيما يبدو قانعاً باقتصار دور الحركة على الجانب الروحي، بل كان يطمح لتحويلها إلى حركة سياسية. وهكذا ففي عهده تحولت الحركة إلى التصوف الشيعي الغالي، الذي كان منتشراً بين تركمان القره قويونلو. ولعل الحراك المحموم لجُنيد قد أثار ريبة وامتعاض جهان شاه ملك القره قويونلو، فقام الأخير بطرده من معقله في أردبيل. بعد تنقله لبعض الوقت ما بين حلب وأنطاكية وكيليس، قصد جُنيد دياربكر عاصمة مملكة أق قويونلو، وكانت يومئذٍ سُنيَّة، حيث لقي الترحيب من ملكها أوزون حسن (حسن الطويل)، والذي ما لبث أن زوَّجه بأخته خديجة بيجوم، وأطلق يده في نشر دعوته. وقد منحه ذلك قدراً من الثقة بالنفس جعله يفكر في المغامرة بالعودة إلى أردبيل، ولكنه قُتِل في طريقه إليها خلال مناوشة مع قوة تابعة لمملكة شيروان شمال أذربيجان في العام 1460.
بعد جُنيد آلت أمور الحركة لابنه الشيخ حيدر، الذي واصل نهج أبيه في توسيع الحركة وعسكرتها مستفيدا من دعم خاله أوزون حسن. في العام 1467 تمكن أوزون حسن من هزيمة غريمه جهان شاه ملك القره قويونلو في معركة تشاباكتشور شرق الأناضول، وضمها إلى مملكته التي باتت تمتد من القوقاز حتى جنوب بلوشستان، ومن قزوين حتى الفرات. بعدها تزوج حيدر من حليمة (مارثا) ابنة أوزون حسن من زوجته الأميرة تيودورا (ديسبينا خاتون) ابنة يوانيس الرابع كومنينوس "إمبراطور" طرابزون، وأنجب منها ثلاثة ابناء، كان اسماعيل أصغرهم. كذلك فقد أعاد أوزون حسن الشيخ حيدر إلى مدينة أجداده ومعقل الحركة الصفوية في أردبيل.
أعقب عودة الشيخ حيدر إلى أردبيل هجرة الآلاف من مُريديه من تركمان شمال سورية والعراق والأناضول للالتحاق بخدمته. وتحول هؤلاء الأنصار الذين كانوا يدينون لشيخهم بالولاء المطلق، بل ويؤلِّهونه على نحو ما وفقاً لمعتقداتهم الحلولية، إلى تنظيم عسكري مركزي كان يمكن تمييز أفراده من عمائمهم الحمراء المتوجة بهرمٍ ذي اثني عشر وجهاً (التاج الحيدري) ترمز للأئمة الإثني عشر. ولذلك فقد أطلق عليهم العثمانيون اسم القزلباش (الرؤوس الحمر) من باب الاستهزاء والتشهير، ولكن القزلباش ما لبثوا أن قبلوا بهذه التسمية من باب التحدي واللامبالاة. وقد عُرِفت جماعات القزلباش في الغالب بأسماء المناطق التي هاجروا منها، وكان من أكبرها وأكثرها نفوذاً، مجموعة عشائر "شاملو"، أي الشاميون أو السوريون، والتي هاجر أفرادها من مناطق شمال سورية، ما بين حلب ودياربكر، ولا يزال الآلاف من أحفادهم يعيشون في إيران، ويُكنَّوْنَ باسمها أو بأسماء عشائرها، فيما نجد بقايا هذه العشائر، وبالأسماء عينها، بين تركمان ريف حلب الشمالي وأماكن أخرى، إلى يومنا هذا.
بعد وفاة أوزون حسن في العام 1478، استشعر خلفه يعقوب خان القلق من تنامي نفوذ وطموحات الصفويين، فتحالف مع فروخ يسّار، شاه مملكة شيروان التي كان جنيد والد حيدر قد قُتِل فيها. وفي العام التالي، تمكنت قوات تابعة للحليفين من إلحاق الهزيمة بالشيخ حيدر وقتله في دربند (باب الأبواب) خلال محاولته عبور القوقاز لغزو داغستان. وفي العام 1494، تمكن يعقوب أيضاً من قتل الشيخ ميرزا علي ابن حيدر وخليفته، واحتلال أردبيل. فاضطر الصغير اسماعيل، وكان يومها في السابعة من عمره، إلى الهرب والاختفاء لنحو خمس سنوات في مدينة گيلان، حيث تتلمذ هناك على أيدي كبار مشايخها. وعندما بلغ الثالثة عشر من عمره، عاد اسماعيل إلى أذربيجان ليقود نحوسبعة آلاف من القزلباش في باكورة غزواته. وكانت وجهته الأولى مملكة شيروان للأخذ بثأر والده الشيخ حيدر وجده جنيد، وهناك تمكن من هزيمة وقتل فروخ يسّار شاه خريف العام 1500، ثم تابع الزحف إلى باكو واستولى عليها ليتوَّج في العام التالي 1501 شاهاً لأذربيجان، متخذاً من تبريز عاصمة لمملكته الناشئة، وعيَّن أستاذه ومربيه حسين بِك شاملو (الشامي) في منصب الوكيل (نائب الشاه) والقائد العام للجيش "أمير الأمراء".
في العام التالي 1502، أطاح الشاه اسماعيل بسلطة أق قوينلو وأعلن نفسه شاهاً لفارس. وتواصلت حملاته العسكرية على مدى السنوات العشر التالية في كل الاتجاهات حتى بلغت الامبراطورية الصفوية أقصى اتساعها، فباتت تمتد من جبال هندوكوش (أفغانستان) وحتى الفرات، ومن القوقاز حتى بحر العرب. ولأول مرة منذ الفتح الإسلامي قامت دولة موحدة على الرقعة التاريخية للامبراطورية الساسانية.
كان زخم هذه الفتوحات قائماً أساساً على الحماسة والشجاعة الخارقتين لأؤلئك المقاتلين القزلباش، النابعة من عقيدتهم الصوفية وإيمانهم إلى حد التأليه بشيخهم ومَهديِّيهم الشاه اسماعيل. فمثلاً، في معركة مَروْ أواخر العام 1510، تمكن نحو 17 ألف قزلباشي من الفتك بجيش قوامه 28 ألف من المقاتلين الأوزبك الأشداء كان على رأسه شيباني خان، الحفيد الخامس لجنكيزخان، وقتله وهو يحاول الهرب، وتحويل جمجمته بعد تلبيسها بالذهب، إلى دورق للشراب على مائدة الشاه.
بيد أن الشاه اسماعيل كان فيما يبدو يفكر بمنطق رجل الدولة الميكيافللي في مسعاه لبناء إمبراطورية مترامية الأطراف ومتعددة الأعراق والثقافات. وكان هاجسه بهذا الصدد منصباً على صياغة هوية جديدة تجمع بين مختلف مكونات رعيته، وتميزهم بوضوح عن أمم الجوار، وخاصة العثمانيين في الغرب والأوزبك في الشرق. وهكذا، وعلى الرغم من غلبة التركمانية الأذرية على لغته وبيئته الثقافية، ومعتقده القزلباشي العلوي، فقد وقع اختياره على اللغة والثقافة الفارسيتان، والمذهب الشيعي الإثناعشري كأساس لهوية دولته العتيدة. ولذلك نجده يعمد تدريجياً إلى التقليل من الاعتماد على القزلباش في الإدارة، مقابل تقديم العنصر الفارسي، وإلى فرض التشيُّع الإثناعشري على رعيته بالقوة.
فعلى الرغم مما عرف عن الفرس من تبجيل لأهل البيت، وانتشار التشيُّع الزيدي، وفيما بعد الاسماعيلي والإثناعشري، بينهم منذ القرن التاسع، فقد كانت غالبتيهم لا تزال على المذهب السني غداة قيام الدولة الصفوية. ونظراً لافتقار الفقه الإثناعشري وقتئذٍ إلى الأطر والمرتكزات الضرورية للاندماج في البنية السلطوية للدولة، كونه نشأ وتطور تاريخياً على تقاليد المعارضة السلبية، فقد تطلب الأمر إخضاعه لبعض التكييف والتدجين على نحو يشبه ما جرى للمسيحية غداة إدماجها في بنية الدولة البيزنطية في عهد القيصر قسطنطين (380 م). كذلك فقد تطلب تأجيج ومواكبة الصراع الجيوسياسي مع العثمانيين، واستدامة العصبية العدائية تجاههم، افتعال بؤر استفزازية تظل مشتعلة معهم—مثل سبّ بعض الصحابة، والاحتفاء بأبي لؤلؤة قاتل عمر بن الخطاب.
وقد اتخذ فرض التشيّع في هذه المرحلة المبكرة طابعاً سياسوياً فجاً وعنيفاً يركز أساساً على الرموز والقشور، فيما يبدو أنه كان يهدف إلى اختبار وفرض الولاء للدولة الجديدة، وترسيخ سطوة هويتها. ولم تبدأ عمليه التشيّع الفقهي المنهجي إلا في مرحلة متأخرة من حكم اسماعيل، لتبلغ مداها في عهد خلفه الشاه طهماسب الأول (1524 - 1576) الذي استعان بمرجعيات شيعية عربية استقدمها خصيصاً من جبل عامل (لبنان) والبحرين والعراق. كما جرى التخلي تدريجياً عن الممارسات المستفزة للسُنَّة بعد استنفاذها لأهدافها السياسية والتعبوية، وكذلك امتثالاً لشروط معاهدات السلام التي أبرمت لاحقاً مع العثمانيين.
ولكن، ما الذي كان يجري آنذاك في الجانب العثماني؟ وكيف انزلق الطرفان إلى ذلك الصدام المأساوي؟
سليم الأول والصراع على خلافة بيازيد الثاني
كنا قد رصدنا في الجزء الأول إرهاصات تحولات في الهوية والتوجهات الاستراتيجية للدولة العثمانية إبان فتح القسطنطينية. وسنعرض هنا كيف أثرت طبيعة السلطان سليم الشخصية، ومعايشته عن كثب لتنامي الحركة الصفوية منذ نعومة أظفاره، وصراعه على السلطة مع إخوته على المنحى الذي اتخذته تلك التحولات.
ولد سليم ابن بيازيد الثاني في العام 1470 في مدينة أماسيا ذات الغالبية العلوية شمال الأناضول. وقد لُقب بـ "ياووز"، أي القاسي/المتجهم/الرهيب .. وكانت أمه عائشة خاتون (گولبهار) ابنة علاء الدولة بوزكورت حاكم إمارة ذوالقادر التركمانية في الجنوب، والتي خرج منها الكثير من القزلباش. في الفترة التي ولد فيها سليم كان الأق قوينلو بقيادة أوزون حسن، جد اسماعيل لأمه، والمتحالف يومئذٍ مع جمهورية البندقية، قد أخذوا بالتوسع في شرق الأناضول، مما حدا بالسلطان بيازيد إلى التصدي لهم وهزيمتهم في معركة أوتلوكبيلي 1473. في العام 1481، عينه والده والياً على طرابزون التي كان قد فتحها جده محمد الفاتح في العام 1461، مستبقاً وقوعها الذي كان وشيكاً آنذاك في يد الشيخ جنيد جد اسماعيل الصفوي. وظل سليم يدير شؤون هذه الولاية المتاخمة لمناطق الأق قوينلو وحلفائهم الصفويين حتى العام 1510، ومنها كان يشنّ غزواته باتجاه جورجيا، والتي كانت أيضاً هدفاً لغزوات روتينية من قبل القزلباش. ولنا أن نتخيل مقدار ما كان يعتمل في نفس الأمير الشاب من نفور وكراهية إزاء أؤلئك "الصعاليك الزنادقة"، وهو السُنّي المتعصب والأرستقراطي العسكري المحافظ الذي يقدس النظام والدولة المركزية!
ولكن المشهد الذي ظل يثير قلق وغيظ سليم عند جيرانه في شرق الأناضول ما لبث أن انتقل إلى فنائه الخلفي في غربها. ففي العام 1511، وبالتزامن مع استعار صراعه مع إخوته على خلافة أبيهم بيازيد، اندلع تمرد مسلح للقزلباش في منطقة أنطاليا جنوب-غرب الأناضول، بقيادة تركماني كان يدعى "قره بييِّق أوغلو"، قبل أن يتخذ لنفسه الاسم الحركي "شاه قولو"، أي "عبد الشاه"—وكان المقصود الشاه اسماعيل طبعاً. ولكن الأدبيات العثمانية كانت تسميه "شيطان قولو" –أجل، عبد الشيطان! وبطبيعة الحال، فقد تضافرت في إشعال هذا التمرد عوامل الظلم الاجتماعي، والعوز الاقتصادي، وحالة الضعف التي كانت تمر بها الدولة العثمانية أواخر عهد بيازيد الثاني، ولكن يبدو أنه كان لدى العثمانيين ما يكفي من الأسباب لاتهام الشاه اسماعيل ومريديه بالتحريض عليه والوقوف خلفه.
بدأ التمرد بهجوم ناجح شنه شاه قولو على قافلة الأمير شاهزاده كوركوت ابن بيازيد، واغتنام كامل حمولتها الثمينة، أعقبته إغارات متفرقة أخرى على المدن والمراكز المالية والقوافل. فسيَّر إليه السلطان جيشاً كان على رأسه أمير أمراء الأناضول، قره گوز أحمد باشا. ولكن شاه قولو تمكن من هزيمته وأسْرِ وإعدام قائده، وأدى ذلك إلى ذيوع صيته، ونسج الأساطير الشعبية حول بطولاته، فتضاعف عديد جيشه حتى بلغ نحو 20 ألفاً. ثم توجه لقتاله جيش آخر كان على رأسه هذه المرة ولي العهد شاهزاده أحمد، ومعه الصدر الأعظم خادم علي باشا. وقد أوشك هذا الجيش على محاصرة المتمردين في موقع جبلي وعر جنوب كوتاهية، ولكن شاهزاده أحمد أراد استغلال اللحظة للحصول على مبايعة الانكشارية له لخلافة أبيه، فلما رفضوا، غادر أرض المعركة تاركاً الصدر الأعظم مع قوة متواضعة من الانكشارية. وهكذا، تمكن المتمردون من الإفلات من الحصار. ولكن خادم على باشاً استمر في مطاردتهم حتى أدركهم في الطريق ما بين قيصرية وسيواز، حيث جرى اشباك قصير بين الطرفين، قُتل خلاله كل من شاه قولو وخادم على باشا، وكان ذلك بداية نهاية تلك الحركة. فبعد هزيمة من تبقى من المتمردين أمام حملة عسكرية ثالثة، تفرق شملهم ولجأ الكثيرون منهم إلى بلاد الصفويين.
سيتبيّن لاحقاً، أن ولي العهد شاهزاده أحمد قد خسر كل شيء في هاتيك الواقعتين—ليس العرش والصولجان فحسب، بل وحياته وحياة أبنائه أيضاً. فبخذلانه يومئذٍ للانكشاريين، خسر ثقتهم واحترامهم كمرشح للسلطنة، وبمقتل صديقه الصدر الأعظم خادم علي باشا، خسر نصيره وسنده الأكبر في معركة العرش. فبات رهانه الوحيد على محبة والده بيازيد له، مقابل نفوره وتوجسه القديم من أخيه سليم.
وهكذا ففي العام التالي 1512، أراد بيازيد أن يتنحى عن العرش لابنه أحمد، والذي كان قد زوَّج نجله مراد من شاهنڤاز خانم ابنة الشاه اسماعيل، كعربون لتحالف بين الجانبين في معركة وراثة العرش وما بعدها. وهنا استشاط سليم غضباً وأعلن التمرد من العاصمة القديمة أدرنة، فأرسل إليه بيازيد جيشاً تمكن من إلحاق الهزيمة به، فلجأ سليم إلى حميِّه خاقان القرم، فيما شرع بيازيد بإجراءات تنصيب الأمير أحمد على عجل. ولكن تمرد الإنكشاريين على قرار بيازيد ومطالبتهم بتتويج سليم بدلاً من أحمد، أحبط مسعى السلطان، واضطر بيازيد إلى الرضوخ لإرادة الانكشارية في نهاية المطاف. وفيما بعد، أرسل سليم والده إلى المنفى في اليونان، لكنه توفي في الطريق. ويعتقد الكثير من المؤرخين أن سليماً أمر بقتله والده خوفاً من أن يغيّر الأخير موقفه ويعود إلى الحكم.
بعد ذلك، وتبعاً لتقليد راسخ في البيت العثماني، أمر سليم بقتل أخويه أحمد و كوركوت مع جميع ابنائهما، وإعدام كل من طالته يده ممن ناصروهما دونه في معركة الخلافة، واضعاً في رأس جدول أعماله تصفية حسابه مع الشاه اسماعيل الذي تجرأ على إقحام نفسه في مسألة "عائلية" كهذه عبر إظهار دعمه لأخيه أحمد. والحقيقة أن الشاه اسماعيل لم يكن مجرد متطفل في هذه الموضوع الحساس، بل كان أيضاً، وعلى نحو ما، منافساً له على العرش. فالدعاية الصفوية في الأناضول كانت تقدم شيخها الشاه اسماعيل، بمكانته الدينية السامية ونسبه العلوي المزعوم، كبديل لآل عثمان، وكان ذلك يلقى قبولاً لدى كثيرين، وخاصة بين التركمان، وفي ظل الشلل الذي كانت تعاني منه الدولة نتيجة ضعف بيازيد والصراع على خلافته بين ابنائه.
وهكذا، وفور تربعه على العرش في 23 أيار 1512، أبرم سليم اتفاقيات هدنة طويلة مع كل من مملكة المجر وجمهورية البندقية والسلطنة المملوكية، وذلك حتى يتفرغ كلياً لحربه المقبلة مع الصفويين. كان المماليك يدركون ما يضمره لهم العثمانيون ويتمنون لهم الهزيمة، ولكنهم آثروا الحياد فلم يقبلوا عرض الشاه اسماعيل بالتحالف معه ضدهم، تماماً كما رفضوا عرضاً معاكساً من سليم.
وكما أشرنا في الجزء الأول، فإن حرب العثمانيين مع الصفويين لم تكن صراعاً كلاسيكياً مع عدو خارجي، بل كانت أيضاً استمراراً للصراع الداخلي بين أرستقراطية عثمانية كوسموبوليتية (متحللة من روابطها القومية) وغالبية العشائر التركمانية التي همَّشها مشروعهم الامبراطوري. وكان النشاط الدعائي للقزلباش يلقى آذاناً صاغية لدى كثيرين في الجانب العثماني، بما في ذلك في صفوف الإنكشارية، الذين لم تكن عقيدتهم العلوية البكتاشية لتختلف كثيراً عن عقيدتهم هم. ولذلك، فقد بدأ سليم حربه في الداخل على من كان يُعدّهم طابوراً خامساً صفوياً؛ فأمر باعتقال وإعدام كل من تطاله أيدي أجهزته الأمنية من القزلباش في الولايات المتاخمة للصفويين. وتتحدث الذاكرة الشعبية العلوية عن أكثر من 40 ألف ضحية لهذه الحملة. وكان ثمة هدف آخر من ذلك، ألا وهو الإمعان في استفزاز الشاه اسماعيل للإقدام على خوض الحرب التي بدا وكأن الأخير كان يتهرب منها، على الرغم من المراسلات الجارحة الحافلة بالإهانات الشخصية التي كانت تجري بينه وبين سليم. كذلك فقد استصدر سليم فتوى من كبار مشايخ الدولة تجيز قتال الصفويين باعتبارهم "هراطقة مرتدين". وفي سعيه لتشتيت قوات عدوه، اتصل سليم مع عبيد الله، خان الأوزبك، يحثه على الأخذ بثأرعمه شيباني خان الذي كان قد قُتل على يد القزلباش، وذلك بمهاجمة خراسان من الشرق بالتزامن مع دخول الجيش العثماني لأذربيجان من الغرب.
كان ميزان القوى العسكري يميل بوضوح لصالح العثمانيين. ففضلاً عن حداثة واحترافية الجيش الانكشاري، فقد كان أيضاً متفوقاً في العديد والعتاد. وقد تراوحت تقديرات عديده ما بين 60 – 212 ألفاً، فيما تراوحت تقديرات عديد القزلباش ما بين 12 – 80 ألف. كذلك فقد كان في حوزة الجيش العثماني نحو 500 مدفع و2000 بندقية من أحدث ما كان متوفراً يومئذٍ، في حين كانت الشجاعة الفروسية الخارقة والقدرة الفائقة على الحركة والمناورة أبرز مكامن القوة لدى الجيش الصفوي، ولكن لم يكن بحوزته أية أسلحة نارية. ولذلك فقد بدا اسماعيل متردداً في خوض المعركة، وواصل تقهقره باتجاه الشرق متبعاً تكتيك الأرض المحروقة؛ بإتلافه أية موارد يمكن أن يستفيد منها سليم في تموين جيشه، وخاصة المواد الغذائية والأعلاف. وبعد مسيرة مئات الكيلومترات في مسالك جبلية وعرة، بدأ جيش سليم يعاني من الانهاك وأظهر بعض جنوده علامات تذمّر وصلت إلى حد إطلاقهم النار على خيمته، فيما لم يُخفِ أخرون ميلهم إلى الجانب الصفوي. فأدرك سليم أن عليه خوض المعركة باسرع ما يمكن قبل تتفاقم التصدعات في جيشه.
وأخيراً التقى الجيشان يوم 23 آب، 1514، في سهل چالدران إلى الشرق من بحيرة وان، غير بعيد عن الحدود الحالية بين تركيا وإيران. ولتلافي الإصطلاء بنيران المدفعية العثمانية الثقيلة المتمركزة في القلب، كان تكتيك القزلباش يقوم على تجنب الهجوم الرأسي المباشر على مقدمة الجيش العثماني، والاعتماد بدلاً من ذلك، على قدراتهم في المناورة السريعة للالتفاف والانقضاض على جناحي العدو واختراق صفوفه. ووفقاً لرواية كاترينو زينو، سفير جمهورية البندقية (وهو بالمناسبة ابن خالة والدة اسماعيل) الذي عاصر المعركة، فإن هذا التكتيك بدا ناجحاً في البداية، ومُني العثمانيون بخسائر فادحة في الميسرة وتصدعت صفوفهم، ولكن سِنان باشا، قائد القوات الأناضولية في الميمنة، نجح في الوقت المناسب في إدارة مدافعه الثقيلة جانباً باتجاه الصفويين، وما أن هدرت حتى دب الذعر في خيول القزلباش، فحَرِنت وتشتت شملها ولم تعد تستجيب لخيالتها الذين تساقطوا قتلى وجرحى بالعشرات، أما خيول العثمانيين فقد ظلت رابطة الجأش لأنها كانت معتادة على ذلك.
وباختصار، مُنِيَ الصفويون بهزيمة قاسية، وكانت الخسائر جسيمة لدى الطرفين ومن مختلف المراتب، وأصيب الشاه اسماعيل نفسه بجراح، وبالكاد استطاع الإفلات من الوقوع في الأسر بمساعدة أحد ضباطه. وتقدم سليم شرقاً نحو تبريز عاصمة الصفويين فنهبها، ولكنه لم يستطع التقدم إلى ما بعدها، أو حتى البقاء فيها، نتيجة تململ وتذمر كبار قادته، والغارات التي كانت تشنها مجموعات صغيرة من التركمان على قواته. فانسحب منها بعد فترة وجيزة مصطحباً معه الآلاف من حِرفييها وعلمائها وتجارها (كغنائم بشرية) لتوطينهم قسراَ في الأستانة. وفور عودته، أمر بإعدام عدد كبير من قادة الانكشارية ممن لم يظهروا الولاء والانضباط الكافي خلال الحملة، وكان على رأسهم قاضي العسكر جعفر چلبي.
أما الشاه اسماعيل، فقد كانت تلك أول هزيمة تحيق به، وآخر معركة يخوضها. فقد أصيب بعدها بالاكتئاب وأدمن على الشراب نتيجة لمرارة الهزيمة، واهتزاز صورته المهدوية الخارقة أمام مريديه، وكذلك نتيجة لوقوع زوجته الأثيرة تاجلو خانم في الأسر، ورفضِ سليم ردها إليه، وإقدامِهِ على تزويجها لأحد موظفيه إمعاناً في إذلاله. ولكنه سرعان ما استعاد معظم ما خسره من أراضٍ، من تبريز وحتى شرق بحيرة وان؛ أي باستثناء شرق الأناضول وغرب أرمينيا والجزيرة الفراتية العليا. ولم يتم ترسيم الحدود بين الامبراطوريتين إلا في اتفاقية أماسيا، 1555، في أعقاب حرب أخرى دامت لأكثر من عشرين عاماً، وبموجبها جرى اقتسام كل من جورجيا وأرمينيا مناصفة بين الجانبين، كما حصل العثمانيون على معظم العراق، وأجزاء جديدة من جبال كردستان. والحال أن غالبية الأكراد كانوا قد انحازوا إلى جانب العثمانيين، لنفورهم من الصفويين ورفضهم للتشيع، وكذلك نتيجة للجهود الدبلوماسية الحثيثة التي قام بها الملا (الكردي) إدريس البدليسي، المقرَّب من سليم، مع زعماء القبائل الكردية، والتي تُوِجت باتفاقية تضمن الحكم الذاتي للامارات والقبائل الكردية. في حين بقي الشطر الشرقي من كردستان ضمن حدود الدولة الصفوية، حيث تشيّعت نسبة وازنة من سكانها، ولكن غالبيتهم بقيت على المذهب الشافعي، فيما هاجر الكثير منهم غرباً إلى الشطر العثماني.
وهنا يلاحظ أن الاستقطاب المذهبي كان أقوى من العامل العرقي/اللغوي في ترسيم الحدود بين الدولتين. حيث نجد أن الأكراد (وغالبيتهم من السُنَّة الشافعية)، وعلى الرغم من قرابتهم العرقية واللغوية مع الفرس، وارتباطهم التاريخي بهم، فضلوا الانضمام إلى الدولة العثمانية. فيما كان من الطبيعي أن يبقى التركمان الأذريون الشيعة في الدولة الإيرانية، كونهم مؤسسيها الفعليين، وقاعدة سلالاتها ونخبها الحاكمة لقرون. وهم لا يزالون يلعبون دوراً محورياً في مختلف جوانب حياتها حتى يومنا هذا (الإمام علي الخامنئي مثلاً). أما علويو شرق الأناضول (وحوالي ربعهم من الأكراد والظاظا)، والذين أُلحقوا قسراً بالدولة العثمانية، فقد ظلت عواطفهم متجهة نحو الشرق. ولا تزال تعاليم وأشعار الشاه اسماعيل، والتي كان ينشرها بالاسم المستعار "خَطّائي"، جزءاً من نصوصهم المقدسة Buyruklar، ولا زالت أناشيدهم وملاحمهم تتغنى بسيرته. وهكذا نجد أن أخطر مسألتين داخليتين تواجهان الجمهورية التركية في الوقت الحاضر، الكردية والعلوية، هما من إرث تلك الحقبة.
أما بالنسبة لإيران، فقد كانت الحقبة الصفوية بداية إعادة تكوين هويتها الوطنية والمذهبية الراهنة ضمن حدودها التاريخية. ولعل هزيمة چالدِران جاءت في مصلحة هذا المنحى في التطور؛ فلولاها، لربما اندفعت الدولة الفتية باتجاه التمدد الامبراطوري المفرط، لتلقى مصير الامبراطورية التيمورية عاجلاً، أو العثمانية آجلاً. كذلك فقد كانت الهزيمة حافزاً على إعادة بناء الجيش الصفوي على أسس حديثة، وتزويده بأحدث الأسلحة النارية، وتطعيمه بمجندين من الأرمن والجورجيين، والدخول في تحالفات دولية مع القوى الأوروبية الصاعدة مثل البندقية والبرتغال، ولاحقاً بريطانيا.
أعقبت معركة چالدِران عشرة حروب عثمانية-إيرانية، على مدى نحو ثلاثة قرون، استغرقت ما مجموعه 88 سنة، أزهقت أرواحاً كثيرة، وكان آخرها معركة إرزوروم 1821، التي حقق فيها القاجارييون بقيادة عباس ميرزا نصراً كاسحاً على العثمانيين. وقد جاءت معظم هذه الحروب في سياق الصراع على القوقاز والعراق، ولكنها لم تؤدِ في مجملها إلى تغيرات تُذكر في الخارطة، إلى أن بدأ التوسع الروسي على حسابيهما في القوقاز.
قد تبدو چالدِران للناظر من بعيد كمعركة سنية-شيعية، أو تركية-فارسية، ولكن قلما يُذكر أن الغالبية الساحقة من جنود الجيشين المتقاتلين إنما كانوا من العلويين (بكتاشيين من البلقان ضد قزلباش تركمان)، وأن السلطان "التركي" كان يكتب رسائله وينظم أشعاره بالفارسية، فيما غريمه الشاه "الفارسي" كان يكتب وينِظم بالتركية. وهي حقائق تظهر، من ناحية، مدى التداخل الثقافي والديموغرافي بين الطرفين، ولكنها تؤكد من ناحية أخرى، حقيقة أن الامبراطوريات لا أديان لها ولا أرحام، وأن "المُلك عقيم"!
* كاتب وباحث سوري
إضافة تعليق جديد