بمناسبة مرور 500 عام على ولادة عائشة الباعونية
"لا يُعرف الله إلا في المرأة"، يقول إمام الصوفية ابن عربي. وهو نفسه الذي عُرفتْ شاعريته بقوله: "كل مكان لا يُؤنًّث، لا يُعوّل عليه". معرفة يحار المرء في مدى سطوع تنويريتها في مجتمع طالما أشيع أنه ذكوري يضطهد المرأة، وخصوصا وسط معمعان العصور الوسطى وأزمنة دول الطوائف والاحتراب الداخلي آنذاك. بيد أن التاريخ نفسه لا يمضي ضمن مسار خطي، فيخبرنا أنّ وضع المرأة لم يكن قاصرا كله، في فترات اشتهرت بوصفها نموذجا للتردي والجمود. عرفت العصور القروسطية ازدهاراً وصلت فيه المرأة إلى قمة الحياة الاجتماعية والثقافية وحتى الفقهية، وشاركت النساءُ الرجالَ في تحمّل أعباء المراحل العصيبة، حتى أن بعضهن نهضن بأعباء السلطة السياسية وتسيير شؤون الدولة، فخُطب بأسمائهن في المساجد، وللمرة الاولى في التاريخ الإسلامي؛ مثل: ضيفة خاتون (الشام)، غازية خاتون (حماة)، وشجرة الدر (مصر)، والأهم أن بعضهن اعتلين منابر الدرس والفقه، وأخذ الناس عنهن العلم والمعرفة، وكنّ، الى ذلك، شخصيات اجتماعية مشهورة، يؤخذ رأيهن إذا تحدثن في شؤون العامة.
عائشة الباعونية، الشاعرة والفقيهة والمتصوفة الأردنية، نموذج مضيء في تاريخ الحضارة العربية – الإسلامية. كانت واحدة من أشهر نساء القرنين التاسع والعاشر الهجريين اللذين عاشت فيهما، وعرفت بكونها سباقة أكثر من علماء جيلها في حقول المعرفة المختلفة كالتصوف والفقه والسيرة النبوية وعلوم العربية.
الباعونية تعود في أيامنا هذه؛ لتكون واحدة من الشخصيات التي تتحرك في الثقافة المعاصرة بوصفها أديبة وشاعرة ومتصوّفة ساهمت بحفر مسار مضيء في المعرفة الإنسانية. فقد أعلنت الاونيسكو 2006 سنة للاحتفال بها لمناسبة مرور خمسمئة عام على ولادتها، لتكون ضمن المكرمين خلال احتفالات المنظمة العالمية بإحياء ذكرى الذين ساهموا في خدمة الثقافة والمعرفة، ويحتفي بها هذه السنة مهرجان جرش للثقافة والفنون، وهو التظاهرة الأبرز بين الأنشطة الثقافية في الأردن.
تنتسب عائشة بنت يوسف بن أحمد بن ناصر "الباعونية الدمشقية الشافعية الصوفية صاحبة الشرف والنسب، المتوفّاة سنة 922 هجرية" إلى قرية باعون قرب مدينة عجلون الأردنية، و"تنحدر من بيت اشتهر بالعلم والأدب ونما في جنباته زهد وتصوف ودارت على جلسات موائده أحكام الفقه والإفتاء، فقد كان أبوها القاضي يوسف أحمد الباعوني من علماء القضاء في الأردن"، بحسب ما تنقل بعض السير والتراجم. وتصفها كتب التاريخ بأنها "امرأة فاضلة أديبة لبيبة عاقلة، كان على وجهها لمحة جمَّلها الأدب وحلَّتها بلاغة العرب، فجعلتها بغية الراغبين في العلم والأدب، وكانت عالمة بالفقه والنحو والعروض"، وفقا لخير الدين الزركلي في كتابه "الأعلام".
وتحيل بعض المراجع نسبتها على الصالحية الدمشقية؛ وفقا إلى أطلس دمشق التاريخيّ، وفيه أنّ "الباعونيّة" كانت من ضمن بساتين منطقة صالحيّة الأكراد، بين محلّة أبي جَرَش جنوباً ومحلّة الدخوار شمالاً، ويورد ابن طولون الصالحي، مؤرخ دمشق المعروف، في كتابه "القلائد الجوهرية" أن صالحية ذلك العصر، كانت مقطونة من حوالى ألف وخمسمئة نفس، جلّهم من الأكراد الأيوبية، وتعتبر من أقدم أحياء دمشق، الموجودة خارج الأسوار؛ غير أن تلك النسبة قد تصح في مكان عيشها وسكناها ومماتها، حيث كانت دمشق حاضرة الحكم الأيوبي.
تورد بعض المصادر أن لعائشة الباعونية نحو ثلاثين مؤلفا، منها المطبوع وأكثرها مخطوط أو مفقود، ومن مؤلفاتها المطبوعة "الفتح المبين في مدح الأمين"، ومن أهم المخطوطات "در الغائص في بحر المعجزات والخصائص"، وتضمن هذا المخطوط قصيدة رائية عددها 1740 بيتا، وتحتوي على ذكر صفات الخالق وصفات الرسول الكريم. وعُدّت عائشة الباعونية من الخطّاطات المبدعات، فقد كتبت بخطها مؤلفاتها، ومنها: "البديعية" و"الملامح الشريفة في الآثار اللطيفة"، و"فيض الفضل" وهو محفوظ في دار الكتب المصرية.
نشأت الباعونية في دمشق، فبعدما كانت المدينة عاصمة الحكم الأيوبي، أضحت مع أخلافهم المماليك مركز إقليم هامشيّ تابع لرأس السلطنة في القاهرة، ولا يُعرف الكثير عن نشأتها سوى أنها ختمت وهي طفلة القرآن الكريم، وتفتحت عيناها في بيئة ورعة، حيث مأوى الصالحين ومزاراتهم؛ من أنبياء، وصوفيين، أولياء ومجذوبين؛ قرب مرقد إبن عربي؛ البيئة الروحية المسكونة بإيقاع الأناشيد الصوفية وحلقات المنشدين.
هناك حيث الثقافة التي تغلق أبوابها على الحريم، وجدت الباعونيّة نافذتها إلى الحرية، من خلال السير في الطرق الصوفية؛ فتلقت العلوم الدينية من حديث وفقه وتفسير، بالإضافة إلى العلوم الأدبية واللغوية، وأخذت الفقه والنحو والعروض عن جملة من مشايخ عصرها مثل جمال الدين إسماعيل الحوراني والعلامة محيي الدين الأرموي، ووجد تنسّكها طريقه إلى الشعر، فمضت في رحلة كشفها على هدي من كبار اقطاب الصوفية وشعرائها من أمثال ابن عربي وابن الفارض والبوصيري صاحب "البردة" المدائحية الشهيرة، فبلغت عائشة الباعونية في الشعر مقاما وصفه البعض بأنه فاق، بين المولدين "المحدثين" من الشعراء والأدباء آنذاك، ما بلغته الخنساء بين الجاهليين.
لكن حياة التنسك والانقطاع عن العالم لن تدوم، إذ خرجت المتصوفة من صومعتها، فأجيزت في الإفتاء والتدريس، واقترنت من ثم برجل معروف، فانعطفت حياة الشاعرة لتتماشى والشهرة التي حظيت بها لدى العامة والخاصة؛ وسبقها صيتها إلى البلدان التي ساحت بها طلباً لمزيد من العلم مثل حلب والقاهرة. ودرس وتتلمذ على يديها جملة من العلماء الأعلام، وانتفع بعلمها خلق كثير من طلبة العلم، وفقا للمؤرخين.
اللافت أن الشاعرة الباعونية انشغلت إبان شيخوختها بالحكم والسلطة، فسعت لدى المتنفذّين من اجل تمكين ابنها البكر من تسنّم أحد المناصب الرفيعة، وبغية ذلك الهدف، عادت الباعونية إلى تنكب الطريق القديم الذي مشته سابقا إلى القاهرة، لكن طلبا لشؤون الدنيا هذه المرّة، فذهبت في رحلة إلى الديار المصرية، ومثلت بين يدي آخر سلاطين المماليك؛ قانصوه الغوري، وانشدته مديحاً منظوماً، ربما لم يسمعه تماما، لأنه كان منشغلا عنه بهاجس الخطر العثمانيّ المقبل، عادت الباعونية إلى دمشق خائبة عاجزة، لتشهد بعد أيام اجتياح العثمانيين، وسقوط حاضرة الشام تحت سنابك خيول الترك.
توفيت الباعونية عام 1516 عن 59 عاما، ودفنت في بستان الشلبي بمنطقة زقاق طاحونة الأحمر من ضواحي دمشق. ومن بين الذين أرّخوا لها وترجموا سيرتها الأدبية والعلمية، محمد الحنبلي في كتابه "در الحبب في تاريخ أعيان حلب"، ومحمد الغزي في كتابه "الكواكب السائرة في أعيان المائة العاشرة"، ويعقوب العودات في كتابه "القافلة المنسية"، وقتيبة الشهابي في كتاب "معجم دمشق التاريخي"، وجميل نعيسة في "مجتمع مدينة دمشق"، وزينب فواز في "الدر المنثور في طبقات ربات الخدور"، وأدرج اسمها في موسوعة الشعر العربي في المجمع الثقافي في أبو ظبي.
حسين جلعاد
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد