بيلوزي تشتري من دمشق طاولة نرد والاسد يفتتح استاداً دولياً بحلب
الجمل ـ سعاد جروس :تجولت رئيسة مجلس النواب الاميركي نانسي بيلوزي مع وفد من النواب الأميركيين في أسواق دمشق القديمة, تذوقت ما قدمه لها باعة البزورية, استمتعت بطعم الفستق الحلبي والتين الشامي المجفف, في وقت كان فيه الرئيس الأميركي جورج بوش يقف في حديقة البيت الأبيض منتقدا بلهجة حادة زيارتها, ومعتبراً إياها «فكرة سيئة» وان التقاط صور لها مع الرئيس السوري سيبعث برسائل خاطئة تفيد بأن سوريا جزء من المجتمع الدولي, فيما هي دولة ترعى الإرهاب.
تابعت بيلوزي جولتها وصولا الى الجامع الأموي, وقفت مغطاة الشعر عند ضريح يوحنا المعمدان ورسمت إشارة الصليب على وجهها, قبل ان تتلو صلاتها المسيحية الصامتة. انطلقت بعدها الى سوق الشرقيات اشترت طاولة نرد معضمة. ووصفت دمشق القديمة بـ«المدينة الرائعة».
لقد استبقت بيلوزي مباحثاتها والوفد المرافق لها مع المسؤوليين السوريين بلقاء طيف واسع من المجتمع السوري من مسؤولين ومعارضين وإعلاميين ودبلوماسيين وناشطين ورجال أعمال ورجال دين مسلمين ومسيحيين, في حفل استقبال أقامه في منزله القائم بالأعمال الأميركي مايكل كوربن, وأبدت حذراً في الادلاء بالتصريحات لدى تجاذب الحاضرين أطراف الحديث معها, فردت عندما سئلت عن كيفية قبول سوريا بالتجاوب مع أميركا والتحاور معها إذا كان رأسها مطلوباً, «إن سوريا لم تعد مطلوبة من واشنطن». كما لوحظ من ناحية ثانية ان السفير السوري لدى واشنطن عماد مصطفى, قد أطال في جلسته مع النائب توم لانتوس والذي يعتبر من ألد أعداء سوريا وأحد عرابي قانون محاسبة سوريا, مما أعطى مؤشرات قوية على جدية الطرفين بإعادة فتح قنوات للحوار المباشر, تتجاوز تقويض القطيعة لتصل إلى كسر الحواجز الرسمية, واختتمت الزيارة بغداء في مطعم تراثي دعا اليه الرئيس السوري وعقيلته كلاً من نانسي بيلوزي وزوجها والوفد المرافق, وكانت جلسة ودية بعيداً عن كاميرات وميكروفونات ومسجلات الوسائل الإعلامية.
وإذا كانت بيلوزي اشترت طاولة نرد شرقية في الساعات الأولى لوصولها العاصمة دمشق, فإن الرئيس الأسد كان في تلك الاثناء في مدينة حلب يستقبل رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان وعقيلته استعداداً لافتتاح استاد حلب الدولي الذي يتسع لحوالى 75 ألف مشاهد, وبدا المشهد رمزياً: ففي حين تفتح زيارة بيلوزي في جدار العزل الذي جهد بوش في بنائه ثغرة صغيرة بحجم طاولة النرد لاستعادة الحوار المباشر مع سوريا, يفتتح الأسد ملعباً لحوار واسع يشمل كل قضايا المنطقة.
كان هذا واضحاً في ما حملته بيلوزي الى اجتماعها بالأسد, حيث حددت القضايا التي طرحتها ضمن نقاط عدة أولها إيصال رسالة رئيس الوزراء الإسرائيلي ايهود أولمرت حول استعداد إسرائيل للبدء بعملية التفاوض للسلام مع سوريا, وثانياً قضية الأسرى الإسرائيليين الثلاثة لدى «حزب الله» و«حماس», وثالثاً وقف التسلل عبر الحدود إلى العراق؛ فيما لم يتم التركيز على الموضوع اللبناني مع الرئيس الأسد. وقد علمت «الكفاح العربي» ان موضوع لبنان جرى بحثه ضمن مجمل القضايا المتعلقة بالمنطقة مع نائب الرئيس فاروق الشرع ووزير الخارجية وليد المعلم. وعلل مراقبون الامر بوجود تنسيق سعودي سوري لتحقيق تسوية في لبنان على أساس الوفاق الوطني. من جانبها, أوضحت بيلوزي أن محادثات الوفد الاميركي تركزت على ضرورة إحلال السلام فى الشرق الأوسط ومكافحة الإرهاب, وأن السلام في المنطقة يعتبر من الأولويات بالنسبة الى الشعب الأميركي والعالم.
جاء الرد السوري الفوري على رسالة أولمرت التي نقلتها بيلوزي بتجديد الأسد «حرص سوريا على السلام» مذكراً بالدور الذى قامت به مع الولايات المتحدة منذ انطلاقة عملية السلام في مدريد والمحادثات التي أعقبتها وصولا الى تبنيها مبادرة السلام العربية «ما يثبت صدق توجه سوريا السلمي كخيار استراتيجي». وفي مؤتمر صحفي عقد في ختام الزيارة عاد وزير الخارجية وليد المعلم وأكد ما قاله الأسد عن «استعداد سوريا للحوار على أساس الاحترام المتبادل» مؤكداً حرصها على إحلال السلام العادل والشامل القائم على انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة بما في ذلك الجولان وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس. مشدداً على أن «سوريا جاهزة لإحلال سلام عادل وشامل وفق مبادرة السلام العربية». وقد أعربت بيلوزى عن ارتياحها للتأكيدات التي تلقاها الوفد من الرئيس الأسد حول استعداد سوريا لاستئناف عملية السلام في الشرق الأوسط.
طالب الوفد الأميركي سوريا ببذل جهودها للمساعدة في الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين الثلاثة لدى «حزب الله» و«حماس», وجرت مناقشة دعم سوريا للمقاومة في فلسطين ولبنان وبأنها تقف حجر عثرة في طريق العودة إلى المفاوضات. بالمقابل طرح السوريون قضية مئات الأسرى السوريين والفلسطينيين واللبنانيين لدى إسرائيل, ووعد الأسد ببذل مساع لإنهاء تبادل هؤلاء الأسرى بالأسرى الإسرائيليين. وطلب السوريون بذل جهود مع الإدارة الأميركية للبدء بالتحرك لإطلاق الأسرى لدى الطرفين, من خلال صيغة تبادل وتكليف النائب نيك رحال كوسيط. وقد قال النائب ديفيد هوبسون احد أعضاء الوفد: «إن الوفد أثار قضية إنسانية تتعلق بالجنود الثلاثة, ولفتنا نظر الأسد إلى أنه من المفيد ان يتحدث إلى «حماس» و«حزب الله» لتحرير الأسرى. وانه يمكن حل هذه القضية عبر المفاوضات. وستكون إشارة إنسانية إلى أننا جميعاً نريد السلام, وقد وعد الأسد بالاستجابة لطلبنا». كما ان مصير الأسرى العرب سيكون على الطاولة.
قرأ مراقبون التجاوب السوري وإبداء الاستعداد للدخول في عملية مفاوضات حول الأسرى بمثابة منح سوريا ورقة رابحة لرئيسة مجلس النواب بيلوزي, تمكنها من دعم مواقفها في الداخل الأميركي في مواجهة إدارة بوش, كما تعزز دورها المستقبلي مع إسرائيل, وفي الوقت ذاته توصيل رسالة إلى إسرائيل وأميركا بأن استخدام القوة لن يكون مجدياً لحل قضايا مصيرية. كما عادت سوريا وشرحت للوفد موقفها من «حماس,» وقال الوزير المعلم, إن حركة «حماس» تشكل جزءا أساسيا من العملية السياسية في فلسطين, وقد فازت بالانتخابات بالأكثرية, داعيا إلى دعم اتفاق مكة وحكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية وعملية السلام الشاملة بما فيها المسار الفلسطيني, وضرورة أن يظهر المجتمع الدولي حسن النية تجاه الفلسطينيين برفع الحصار الجائر عنهم.
وتناولت المحادثات الوضع في العراق. وكررت بيلوزي كلام واشنطن في هذا الشأن معربة عن قلقها «من أولئك الذين يتسللون عبر الحدود ويهددون الشعب العراقي والأميركيين» فهي ووفدها كأعضاء في الكونغرس مهمتهم الحفاظ على الأمن القومي ومكافحة الإرهاب. الجانب السوري كرر أيضا ما سبق وردده حول ضرورة اعتماد الحل السياسي وليس العسكري ودعم المصالحة, واكد الاسد حرص سوريا «على وحدة العراق واستعادة استقلاله وتحقيق الامن والاستقرار فيه عبر مصالحة وطنية شاملة وجدول زمني لانسحاب القوات الاجنبية منه», وأوضح الوزير المعلم أنه تم خلال المحادثات شرح الإجراءات التي اتخذتها سوريا لمنع تسلل عناصر عبر الحدود السورية إلى العراق وطريقة التعاون مع الحكومة العراقية, وتشكيل لجان أمنية مشتركة في هذا السبيل مؤكدا أن الحل العسكري في العراق لن يؤدى إلى نتيجة, ولا بد من رؤية سياسية تنبع من العراق, وتلقى دعم وتأييد دول الجوار والمجتمع الدولي.
وقبيل بدء زيارات النواب الأميركيين الى دمشق, دار كلام في واشنطن عن ضرورة تجريب الطرق الدبلوماسية لفك الارتباط بين دمشق وطهران, ولم يغفل النائب توم لانتوس هذا الجانب خلال زيارته واعتبر المباحثات بداية الحوار البناء مع سوريا. وقال إنه تحدث مع الأسد عن صعوبة فهمه للعلاقة التي من الممكن أن تقوم بين شخص ذكي ومميز تعلم في الغرب مع رئيس ـ أحمدي نجاد ـ يطالب بتدمير إسرائيل وينكر المحرقة. فيما كان التأكيد السوري أن الرئيس الإيراني ليس لديه طموح «غير سلمي», كما تحدث لانتوس عن اهتمام الأسد بمشروع أخبره الوفد عنه وهو تأسيس بنك نووي متاح لكل الدول التي تريد الحصول على الطاقة النووية لأغراض سلمية.
الوضع في لبنان لم يبد انه أخذ مساحة واسعة في المباحثات السورية الأميركية. وقد نقل عن الأسد قوله إن «التوافق بين اللبنانيين هو الأساس لمعالجة القضايا الأساسية التي تضمن عودة الاستقرار إلى لبنان», مجدداً «دعم سوريا الكامل للجهود الرامية الى تحقيق ذلك». وفي المؤتمر الصحفي قال النائب هنري فايسمان: «نحن ندعم لبنان دولة حرة وديمقراطية» مطالباً بـ«علاقات عادية» مع لبنان. وجاء الرد السوري المعروف ان «العلاقات الطبيعية تحتاج الى اجواء طبيعية». وأكد الوزير المعلم تتطلع سوريا الى اقامة أفضل العلاقات مع لبنان الشقيق على أساس تشجيع الأطراف اللبنانية للحوار فيما بينها للوصول إلى توافق وطني حول المسائل المختلف عليها. مشدداً على ضرورة عدم انحياز اي جهة لأي طرف لبناني بل «تشجيع جميع الأطراف للوصول إلى حل يقوم على التوافق, لأن لبنان لا يحكم الا بالتوافق», وان دمشق «تتطلع الى افضل العلاقات مع لبنان» وتدعم استقراره ونفي وجود تهريب اسلحة وفق ما أعلنه وزير الدفاع اللبناني الياس المر.
ولم ير محللون أي جديد في المواقف الأميركية والسورية التي جرى إعلانها, ولم يتغير شيء في مضمون المحادثات, ليبقى الحدث الأهم معادوتها بشكل مباشر وكسرها لسياسة العزلة التي يتبعها بوش مع سوريا, فهذا بحد ذاته يبعث على الارتياح لدى السوريين للاطمئنان على مستقبل العلاقات مع أميركا, إذ ليس لدى سوريا أي أوهام حول حدوث تغيير في سياسة الإدارة الأميركية. وكما هو واضح, كل طرف ينتظر من الآخر تبديل مواقفه, على أن عمق الأزمة في العراق يزيد اصرار كل طرف على التمسك بمواقفه وعدم التزحزح ولو قيد انملة. من هنا تكتسب زيارة بيلوزي الى دمشق والمنطقة أهميتها, إذ إنها تقوم بجولة استطلاعية مباشرة للوقوف على حقيقة الأوضاع بعيداً عن مواقف ادارة بوش المتشددة, مع أن بيلوزي التي تعرضت لانتقادات بوش الشديدة نبهت إلى أنها لا تختلف مع الإدارة الأميركية في الإستراتيجية. ما فُسر بأن زيارتها تهدف الى الاستطلاع ودراسة ما يمكن تحصيله من ثمار عبر الدبلوماسية والحوار, خصوصا أنها حرصت على تكرار ان محادثاتها في دمشق اتت بموجب توصيات «لجنة بيكر هاملتون وإصرار رئيس لجنة الشؤون الخارجية توم لانتوس». انها لم تقم بهذه المهمة انطلاقاً من خلاف حزبها السياسي مع حزب بوش... إلا أن تحليلاً آخر يرى أن الديمقراطيين يسعون الى إغلاق ملف العراق قبيل الانتخابات الرئاسية لأنهم ليسوا على استعداد لتحمل وزر تبعات استمرار نزيف الحرب في العراق, كما أن القيام بجولة استطلاعية يعكس عدم الثقة بإدارة بوش التي تعتمد القوة كوسيلة وحيدة لتنفيذ أهداف ومصالح السياسة الأميركية, مما حتم تجاهل توصيات لجنة «بيكر هاملتون», والاستعداد لتوسيع رقعة الأزمة من خلال الإعداد لتوجيه ضربة إلى إيران, وهذا ما يشكل مصدر قلق لأطراف دولية عدة أولها اسرائيل التي تخشى أن تدفع ثمن توجيه هكذا ضربة قبل تحييد سوريا عن ساحة المعركة, وقبل ضمان عدم استخدام سلاح «حزب الله» لرد انتقامي في عمق إسرائيل, مما يفسر تحميل أولمرت رسالة لبيلوزي الى الرئيس السوري يبلغه فيه استعداد إسرائيل للبدء بمفاوضات سلام مع اشتراط وقف دعم «حزب الله» و«حماس». أما سوريا التي خبرت اسرائيل عبر تاريخ من الصراع وحقبة من المفاوضات, فقد رمت الكرة في الملعب الإسرائيلي من خلال ردها المباشر بالاستعداد للسلام على أساس الشرعية الدولية والمبادرة العربية التي أعيد تفعيلها في مؤتمر قمة الرياض, ويجري تشكيل لجنة عربية للتفاوض المباشر مع إسرائيل حولها, وبذلك توسع سوريا رقعة اللعب لتدخل أطراف عربية تتولى هذه العملية, وفق شروط متفق عليها عربياً, وبما يحفظ موقع سوريا داخل الصف العربي وتحت غطاء الشرعية الدولية, ويحول دون استخدام اولمرت لورقة الدعوة الى مفاوضات السلام كطوق نجاة في معركته الداخلية, ولا سيما انه مقبل على معركة شرسة تتعلق بشهادته حول حرب تموز في لبنان. فاختبار الجدية الذي رمت إليه دمشق لدعوات أولمرت هو قبوله بالمبادرة العربية, لا التلويح بعقد صفقات منفردة, وقد كان هذا واضحاً في نتائج المحادثات مع الوفد الأميركي, ففي حين كان يناقش كل قضية على حدة, كان الجانب السوري يعيد طرح القضايا كسلة واحدة متكاملة, وهو ما سبق ورفضته إدارة بوش وقام على أساسها بتطبيق سياسة عزل سوريا, من دون أن تؤتي ثمارها بل على العكس, بعد حرب تموز على لبنان, وتأزم الوضع في العراق استعادت سوريا كامل قوة أوراقها الإقليمية, التي مكنتها من الذهاب إلى قمة الرياض بكل ثقة, والحصول على توافقات لايجاد مخارج عربية للازمات في المنطقة تكون سوريا جزءاً أساسيا فيها, سواء في لبنان أو في فلسطين وحتى العراق والعلاقة مع إيران. جاءت بعدها مباشرة زيارة بيلوزي لتطرح الحوار وسيلة بديلة لسياسة العزل في التعاطي مع دمشق, وهو ما رحب به الجانبان معتبرين أنه الخطوة التي يجب التأسيس عليها, واعتبر الأسد ان «الحوار المباشر من شأنه ان يوضح الكثير من الوقائع ويعالج القضايا الرئيسية التي تهم البلدين وامن المنطقة». بينما تحدثت بيلوزي عن «أمل وصداقة» جاءت «بهما الى دمشق, وتصميم على أن الطريق الى دمشق هو الطريق الى السلام». وان زيارتها ناتجة من القناعة بأن «الحوار مع سوريا ضرورى ومفيد وقد تم تعزيزه بشكل كبير».
بالاتفاق مع الكفاح العربي
إضافة تعليق جديد