حلب... الضربة القاضية
ضربت مدينة حلب موعداً جديداً مع تاريخها أمس. مأساة 19 تموز 2012، يوم اقتحم آلاف المسلحين الأحياء الشرقية أصبحت من الذاكرة. كلّ ما استتبع الغزو المدعوم أطلسياً وخليجياً في سبيل إسقاط الدولة السورية من البوابة الشمالية، رُسمت نهايته في الساعات الماضية. بالضربة القاضية أنهى الجيش وحلفاؤه المعركة الأكبر والأصعب في تاريخ الحرب السورية.
من ذاك اليوم من شهر رمضان قبل أكثر من 4 سنوات، عاندت حلب البقاء. الأحياء الغربية كانت في حصار دامٍ. حاضنة ستة ملايين مواطن تناثروا بين المحافظات الآمنة أبقت مليوناً منهم. آلة القتل في خاصرتها الشرقية رمت مئات الآلاف نحو الرئة الغربية. المدنيون الباقون تشاطروا أحياءً مثخنة بالقتل اليومي والخطر الوجودي، فيما بقيَ عشرات الآلاف، شرقاً، تحت سطوة أمراء حرب حوّلوا أزقتهم إلى دكاكين عسكرية تستورد الدعم المادي والإنساني من دول أحالت كلّ المدينة إلى رأس حربةِ إسقاط البلاد، وإلى عاصمة من عواصم التقسيم السوري. 53 شهراً مرّت على حلب المجزأة، المفتوحة على مصراعيها نحو الحدود التركية، وشريان المعارضة نحو إدلب وحماه. العاصمة الثانية شهدت مجزرة الرعب بحق عسكريين وأمنيين ورجال شرطة، ومدنيين اتهمتهم المجموعات المسلحة بموالاة الدولة.
وتذكر حلب جيداً حصار أحيائها الغربية لأشهر، ثم فتح طريق اثريا ــ خناصر ــ السفيرة من قبل الجيش والحلفاء، وهو الطريق الذي تكرر إقفاله، تارة من قِبل «جبهة النصرة» وحلفائها، وطوراً على يد «داعش». حينذاك، كان أشد أحلام الحلبيين وصول قوت يومهم عبر شاحنات تقطع مئات الكيلومترات لتغذية السوق والمستشفيات بالطعام والمحروقات والمستلزمات الطبية. ومنذ أسابيع قليلة، كانت المدينة على موعد مع أقسى معركة هدّدت وجودها من جبهتها الغربية. صمد الجيش وحلفاؤه ومنعوا الانهيار الكبير، لكن المسألة لم تعد في مواصلة ما كان. قرر حلف دمشق إيقاف طبع «عصب الشمال» بحالة الستاتيكو التي تُنتج كل أشهر «غزوة» جديدة برعاية إقليمية ودولية. اتُّخذ القرار الذي كاد يحول دونه عشرات الاجتماعات والقرارات الأممية، ومثلها من الخطط العسكرية والدعم الاستخباري واللوجستي لهجمات ضخمة كُسرت على أسوار المدينة التاريخية. في 26 تشرين الأول بوشر التنفيذ من البوابة الشمالية للأحياء الشرقية، حيث حُررت منطقة هنانو لتكرّ سبحة الانهيارات ويعزل القسم الشمالي في غضون 48 ساعة. أيام معدودة، وضعت الجيش على أعتاب كل الأحياء لتكون الاشتباكات الأخيرة أمس في جيوب في حيّ بستان القصر.
رغم ذلك، نصر حلب بالنسبة إلى دمشق وحلفائها ينغصّه احتلال تنظيم «داعش» لمدينة تدمر. «لؤلؤة البادية» لا تساوي بحساب الاستراتيجيا والميدان والسياسة أهمية حلب، ولا يؤدي سقوطها إلى المفاعيل نفسها. لم يستطع المسلحون هذه المرّة أن يجرّوا الدولة السورية إلى معادلة جديدة وواقع مختلف على غرار إسقاط محافظة إدلب في آذار 2015 (ما عدا كفريا والفوعة).
إسقاط تدمر هدفه أولاً الحدّ من مفاعيل انتصار حلب نفسياً ومعنوياً، وأظهر أنّ «داعش» ما زال في استطاعته المبادرة، وهو من المفترض أنه «يعيش أيامه الأخيرة». هذه القدرة على الخروج من غرفة العناية الفائقة ليست وليدة ظروف ذاتية يمرّ فيها التنظيم، ففي ظل معركة وجود تتهدّده في كل من الموصل والرقة والباب استطاع نقل المعركة بعيداً عن شمال سوريا، وذلك لظروف موضوعية هيّأتها واشنطن لتكون أرضية صالحة لـ«حماية ظهره». فهو الذي اتّضح له أن معركة الرقة غير جدية ولا خطر محدق بعاصمته، وأنّ طائرات «التحالف» تكاد تختفي من الأجواء. تحرّك آمن وتجميع قوات بين دير الزور والرقة لأيام أفضى إلى هجوم عنيف على الجبال والحقول النفطية والغازية المحيطة بتدمر، قبل دخولها.
التخادم بين واشنطن وإمارة البغدادي ليس جديداً. الإدارة الأميركية كانت صريحة في تصريحاتها منذ تشكيل تحالفها ضد التنظيم: لسنا معنيين بضرب أهداف لداعش في نقاط تماس أو خطر في مقابل الجيش السوري. والأولوية الواضحة للحلف الغربي ضد دمشق هي إضعاف الجيش السوري وكل ما يمسّ تماسك الدولة وقدرتها جغرافياً أو اقتصادياً أو سياسياً، فلن توفّر واشنطن فرصة في سبيل ذلك.
وفي إسقاط سريع على حالة الجبهات اليوم، نجد أنّ ورقة «المعتدلين» أو «الجهاديين» بنسخة «جبهة فتح الشام/ النصرة» وحلفائها خسرت الرهان في محيط دمشق، وجنوباً من داريا وخان الشيح، وصولاً إلى درعا، وكذلك الأمر في «الغزوتين» الأخيرتين في حلب وأخرى مشابهة في حماه. لذا، ظهرت ورقة «داعش» الأنجع عِراقياً لتتمظهر في سوريا. الإرهاب المحمود أميركياً والملطّف تحت عناوين مختلفة بين تنظيمات تتبع لخطط وزارة الدفاع أو تلك الواقعة في إطار مشاريع وكالة الاستخبارات المركزية والمتحالفة علناً مع «النصرة» وملحقاتها في غيبوبة اليوم. واشنطن يهمّها من يملأ فراغ «الإرهابيين» وهي غير معنية بكسر أي تنظيم لحساب دمشق أو حلفائها، لذا نرى معركة الكاميرات والبيانات في الرقة، ونتابع خفوت هدير الطائرات الأميركية فوق الموصل في الأيام الأخيرة.
في الـ 18 من أيلول الماضي، حرقت طائرات «الأطلسي» جبال الثردة في دير الزور موقعة عشرات الضحايا في صفوف الجيش السوري. يومها كان طوق حلب يُثبَّت ومحيط الكاستيلو الآمن يتّسع بالتزامن مع هدنة متقطعة ومفاوضات أميركية ــ روسية في جنيف. الرسالة الأميركية وصلت: حلب خط أحمر. وفي خطوة متقدمة في الردّ بعيداً عن حلب التي فرضتها موسكو كمعركة أمر واقع، جاء اجتياح تدمر في خطوة تذكّر بسقوط بلدة كسب وجزء من ريف اللاذقية في آذار 2014 بعد تحرير يبرود في القلمون وقلعة الحصن في حمص.
لكن اليوم، إشهار ورقة المقاتلين الحاصلين على شهادة «المجتمع الدولي» وتصريفها في الميدان غير متاح. في الحد الأدنى في سبيل تحصيل مكسب يوازي أهمية حلب.
عملياً، تدمر بيد «داعش» مجدداً، لكن لا خطر مشابه لما حل العام الماضي من انهيارات متواصلة تصل إلى القريتين في ريف حمص الشرقي ثمّ إلى الطريق الدولي ومنطقة القلمون، وحتى سلسلة الجبال الغربية الواصلة إلى الحدود اللبنانية، حسب مصدر ميداني متابع. وفي المعلومات، أيضاً، أنّ «جبهة النصرة» تخطّط وتُعدّ لهجوم على طريق خناصر لقطع خط الإمداد عن مدينة حلب في سيناريو تكرّر مراراً ولم يدم نجاحه سوى أيام. ردّ الفعل اليائس لن يكون الأخير في ظلّ حرب مفتوحة ومتواصلة وجبهات يعمل المسلحون وداعميهم على فتحها، من أرياف حماه إلى «معركة الباب» وصولاً إلى الجنوب السوري الحاضر دائماً في الحسابات الإسرائيلية وغرفة عمليات «الموك» في عمان. حلب تحرّرت بكل ما يعني ذلك من نتائج سياسية وميدانية مدوّية. قطعت الحرب شوطاً كبيراً في ترجيح كفّة فريق دمشق على خصومه... وغداً يوم معارك آخر.
إيلي حنا
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد