عن العدناني «منجنيق داعش» وقاتله المجهول!
خسارة تنظيم «داعش» بمقتل المتحدث الرسمي باسمه أبي محمد العدناني جسيمة جداً لدرجة أن تعويضها قد يكون شبه مستحيل. لكن العدناني ليس ابن تنظيم «داعش» وحده، إذ إن شطراً أساسياً من تاريخه ارتبط بشكل أو بآخر مع «جبهة النصرة» ومع قادة «أحرار الشام»، الحاليين منهم أو السابقين.
وبسبب خطورة الرجل وأهمية موقعه داخل التنظيم الأخطر في العالم، فقد كان من الطبيعي أن تتنافس الدول والجهات على تبني المسؤولية عن عملية اغتياله. فالولايات المتحدة أكدت أنها استهدفت سيارته بواسطة طائرة من دون طيار في محيط مدينة الباب من دون أن تؤكد مقتله، كذلك سارعت موسكو إلى القول إن طائراتها هي التي قتلت الرجل عبر غارة جوية. وردّ مسؤولون في وزارة الدفاع الأميركية بأن مزاعم موسكو بأن ضربة جوية روسية في سوريا أدت إلى مقتل العدناني «هي مزحة». وقال البيت الأبيض إن إدارة باراك أوباما «لا علم لها بأي حقائق تفيد بأن روسيا ضالعة» في قتل العدناني.
في هذه الأثناء، تحدثت أوساط الفصائل المسلحة في شمال حلب عن مقتل العدناني أثناء الاشتباكات في محيط جرابلس، بينما ذكرت أوساط مقربة من «قوات سوريا الديموقراطية» أن رصاص الأخيرة هو الذي وضع حداً لحياته.
وظهرت كل هذه الروايات بعد ساعات فقط من إعلان وكالة «أعماق» عن مقتل العدناني أثناء تفقده لصد الحملات العسكرية في حلب. وقبل هذا الإعلان، لم تكن أي جهة قد ذكرت تصريحاً ولا تلميحاً أنها قامت باستهدافه. وقد يكون هذا الإعلان الاستباقي من قبل «أعماق» هو الذي دفع البعض إلى الحديث عن سيناريو مختلف لمقتل العدناني، هو سيناريو التصفية الداخلية، بسبب خلافات بينه وبين زعيمه أبي بكر البغدادي.
وأياً تكن الجهة التي قامت باستهدافه، فإن تنظيم «داعش» خسر بمقتله أحد قدامى محاربيه والخطيب المفوه والقائد العسكري والشاعر والشيخ، وصاحب الشخصية الكاريزمية التي كانت تتفوق بحضورها عبر التسجيلات الصوتية على شخصية «الخليفة» أبي بكر البغدادي.
وقد سبق لأحد كبار شرعيي التنظيم، تركي البنعلي، بحريني الجنسية، أن كتب السيرة الشخصية لمن لقّبه بـ «منجنيق الدولة الإسلامية» أورد فيها أهم مراحل حياته وكيفية انتسابه إلى التنظيم والمناصب التي شغلها فيه، وتناول فيها كذلك دخوله إلى السجن ثم خروجه ليصبح المتحدث الرسمي باسم «دولة العراق الإسلامية». كما ذكر أهم مؤلفات العدناني، سواء في مواضيع دينية أو لغوية.
لكن العدناني عندما بايع أبا مصعب الزرقاوي في العام 2000 لم يكن السوري الأول أو الأخير الذي يفعل ذلك. بل كان هناك العشرات ممن سبقوه وممن لحقوا به، وذلك قبل الاحتلال الأميركي للعراق بثلاث سنوات، حيث كان عمره لا يتجاوز اثنين وعشرين عاماً. ولم تكن هذه البيعة المبكرة نتيجة طيشه أو حماسته، خصوصاً أن اسم الزرقاوي لم يكن حينها معروفاً، كما أن وسائل الاتصالات المتطورة لم تكن قد دخلت إلى سوريا بعد. وليس في الأمر سر، إذ بكل بساطة جاءت هذه البيعة نتيجة توجيهات حصل عليها العدناني الشاب من شيوخه الذين كان يتلقى على أيديهم تعاليم «السلفية الجهادية». فقد كان في سوريا آنذاك مجموعات سلفية ناشطة بالخفاء تسعى إلى تشكيل خلايا أولية تصلح لأن تكون نواة تنظيم جرى التخطيط من قبل أجهزة استخبارات بعض الدول لتأسيسه بالتزامن مع انتقال السلطة من الأسد الأب إلى الأسد الابن.
وينبغي عدم الاستغراب من معرفة أن أبا محمد الصادق الذي يشغل حالياً منصب عضو مجلس شورى «أحرار الشام» وكان يشغل سابقاً منصب المفتي العام للحركة، كان من أبرز الشيوخ الذين تعلم العدناني على أيديهم ودفعوا به لمبايعة الزرقاوي الذي لم يكن قد سمع به من قبل. وذلك لأن العشرات من قادة «أحرار الشام» الحاليين أو السابقين، الأحياء أو القتلى، كانوا من السباقين على صعيد سوريا في مبايعة الزرقاوي والقتال تحت إمرته في العراق، وأبرز هؤلاء أبو أيمن الحموي وهاشم الشيخ أبو جابر الذي شغل منصب القائد العام لحركة «أحرار الشام» العام الماضي.
ولم يكن من قبيل الصدفة أن يكون عنوان أول تسجيل صوتي للعدناني في شهر آب من العام 2011، أي بعد أشهر فقط من خروجه من سجن بوكا الأميركي وتعيينه في منصب المتحدث الرسمي باسم التنظيم، هو «دولة الإسلام باقية»، إذ يمكن اليوم اعتبار هذا التسجيل بمثابة المؤشر على مراهنة التنظيم على اندلاع شرارة الأحداث في سوريا لإعادة إحياء نشاطاته التي كانت قد تعرضت لضربة قاصمة جراء الحرب التي شنتها «الصحوات» ضده بالتعاون مع القوات الأميركية. وما يعزز ذلك أن صدور التسجيل الذي حمل شعار «باقية» تزامن مع دخول أبي محمد الجولاني إلى سوريا حيث أكدت شهادة أبي محمد صالح الحموي أحد مؤسسي «جبهة النصرة» أن الجولاني طلب منه مبايعته في شهر رمضان من ذلك العام.
ولم يعرف العدناني في السنوات الأولى سوى باعتباره المتحدث الرسمي باسم التنظيم، فلم تكن تنسب له أي أدوار أمنية أو عسكرية طوال تلك الفترة. غير أن الأمر اختلف جذرياً منذ حدوث الخلاف الشهير بين الجولاني والبغدادي في نيسان من العام 2013، حيث تواردت الأنباء عن تعيين العدناني في منصب الأمير العام لعموم الأراضي السورية.
ويعد العدناني من أكثر شخصيات التنظيم عداءً للجولاني. ولهذا العداء جذور قديمة تعود إلى بداية استلام ابي بكر البغدادي زعامة التنظيم، حيث تنافس الرجلان على منصب المتحدث الرسمي باسم التنظيم والذي أفلت من الجولاني برغم التزكية الخاصة التي حصل عليها من أبي مسلم التركماني أثناء وجودهما سوياً في سجن بوكا. ثم تحولت المنافسة إلى خصومة مع اختيار الجولاني ليكون موفد البغدادي إلى سوريا وتوكيل مهمة تشكيل «جبهة النصرة» إليه. وبحسب بعض الروايات غير المؤكدة، فإن العدناني كان أمير «جبهة النصرة» في إدلب (المحافظة التي ولد فيها)، لكن الجولاني قام بعزله بعد أسابيع من توليه المنصب، الأمر الذي فاقم الخلافات بينهما وحوّلها إلى عداء شخصي.
وربما هذا ما قاد العدناني إلى معاداة تنظيم «القاعدة» وزعيمه ايمن الظواهري بهذا الشكل الحاد الذي عبر عنه في تسجيله «عذراً أمير القاعدة»، لأنه ربما اعتقد أنه لولا الظواهري لما كانت قامت للجولاني قيامة بعد خلافه مع البغدادي.
ومنذ العام 2014، كان العدناني يقيم في مدينة الرقة إقامة شبه متواصلة، وهو ما أتاح له الفرصة لتعزيز نفوذه في المدينة والإمساك بخيوطها الأمنية والعسكرية بالتعاون تارة وبالتنافس تارة أخرى مع واليها أبي لقمان. وفي الرقة، قام بتشكيل «لواء الصديق» الذي يعتبر حالياً من ألوية النخبة لدى تنظيم «داعش»، ومنها أيضاً كان يشرف على عمل غرفة العمليات الخارجية التي من مهامها تنفيذ التفجيرات وأعمال العنف في الدول الغربية، بحسب ما توصلت إليه التحقيقيات في فرنسا وبلجيكا في أعقاب الأحداث التي عصفت بهما وتبناها التنظيم.
صدر للعدناني منذ توليه منصب المتحدث الرسمي باسم «داعش» حوالي 22 تسجيلاً صوتياً، أولها «دولة الإسلام باقية» وآخرها «يحيى من يحيى عن بينة» والذي حرّض فيه ذئابه المنفردة وأنصاره على قتل المواطنين في الدول الغربية وعدد من الدول العربية من دون تمييز بين مدني أو عسكري.
وبفقدان العدناني، يجد التنظيم نفسه أمام تحدّ حقيقي يختلف عن التحديات التي فرضها فقدان قياداته الأخرى والتي قد تتفوق عليه من حيث الأهمية الأمنية والعسكرية، غير أن العدناني كان يتميز عنها بشهرته الإعلامية، خصوصاً أنه كان لفترة معينة النافذة الوحيدة التي يستطيع العالم من خلالها معرفة خطط التنظيم وأفكاره، فكان الاهتمام ينصب على أي كلمة يتفوّه بها.
فهل سيستطيع تنظيم «داعش» إيجاد شخص يملأ الفراغ الذي تركه العدناني أم أن خسارته ستضاف إلى قائمة الهزائم العسكرية التي مُني التنظيم بها مؤخراً وجعلت مصيره على المحك؟
عبد الله سليمان علي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد