فريضة التفكير في القرآن الكريم

13-06-2006

فريضة التفكير في القرآن الكريم

الجمل : من مزايا القرآن الكثيرة  مزية واضحة يقل فيها الخلاف بين المسلمين وغير المسلمين لأنها تثبت من تلاوة الآيات ثبوتاً تؤيده أرقام الحساب ودلالات اللفظ اليسير، قبل الرجوع في تأييدها إلى المناقشات والمذاهب التي قد تختلف فيها الآراء.
    وتلك المزية هي التنويه بالعقل والتعويل عليه في أمر العقيدة وأمر التبعة والتكليف.
    ففي كتاب الأديان الكبرى إشارات صريحة أو مضمونة إلى العقل أو إلى التمييز، ولكنها تأتي عرضاً غير مقصودة وقد يلمح فيها القارئ بعض الأحايين شيئاً من الزراية بالعقل أو التحذير منه، لأنه مزلة العقائد وباب من أبواب الدعوى والإنكار.
    ولكن القرآن الكريم لا يذكر العقل إلا في مقام التعظيم والتنبيه إلى وجوب العمل به والرجوع إليه، ولا تأتي الإشارة إليه عارضة ولا مقتضبة في سياق الآية، بل هي تأتي في كل موضع من مواضعها مؤكدة جازمة باللفظ والدلالة، وتتكرر في كل معرض من معارض الأمر والنهي التي يحث فيه المؤمن على تحكيم عقله أو يلام فيها المنكر على إهمال عقله وقبوله الحجر عليه، ولا يأتي تكرار الإشارة إلى العقل بمعنى واحد من معانيه التي يشرحها النفسانيون من أصحاب العلوم الحديثة، بل هي تشمل وظائف الإنسان العقلية على اختلاف أعمالها وخصائصها، وتتعمد التفرقة بين هذه الوظائف والخصائص في مواطن الخطاب ومناسباته، فلا ينحصر خطاب العقل في العقل الوازع ولا في العقل المدرك ولا في العقل الذي يناط به التأمل الصادق والحكم الصحيح، بل يعم الخطاب في الآيات القرآنية كل ما يتسع له الذهن الإنساني من خاصة أو وظيفة، وهي كثيرة لا موجب لتفصيلها في هذا المقام المجمل، إذاً هي جميعاً مما يمكن أن يحيط به العقل الوازع والعقل المدرك والعقل المفكر الذي يتولى الموازنة والحكم على المعاني والأشياء.
    فالعقل في مدلول لفظه العام ملكة يناط بها الوازع الأخلاقي أو المنع عن المحظور والمنكر ومن هنا كان اشتقاقه من مادة (( عقل )) التي يؤخذ منها العقال، وتكاد شهرة العقل بهذه التسمية أن تتوارد في اللغات الإنسانية الكبرى التي يتكلم بها مئات الملايين من البشر. فإن كلمة                        (( مايند )) Mind وما خرج من مادتها في اللغات الجرمانية تفيد معنى الاحتراس والمبالاة وينادى بها الغافل الذي يحتاج إلى التنبيه، ونحسب أن اللغات في فروعها الأخرى لا تخلو من كلمة في معنى العقل لها دلالة على الوازع أو على التنبيه والاحتراس.
    ومن خصائص العقل ملكة الإدراك التي يناط بها الفهم والتصور، وهي على كونها لازمة لإدراك الوازع الأخلاقي وإدراك أسبابه وعواقبه تستقل أحياناً بإدراك الأمور فيما ليس له علاقة بالأوامر والنواهي أو بالحسنات والسيئات.
    ومن خصائص العقل أنه يتأمل فيما يدركه ويقلبه على وجوهه ويستخرج منه بواطنه وأسراره ويبنى عليها نتائجه وأحكامه، وهذه الخصائص في جملتها تجمعها ملكة (( الحكم )) وتتصل بها ملكة الحكمة، وتتصل كذلك بالعقل الوازع إذا انتهت حكمة الحكيم به إلى العلم بما يحسن وما يقبح وما ينبغي له أن يطلبه وما ينبغي له أن يأباه.

    ومن أعلى خصائص العقل الإنساني (( الرشد )) وهو مقابل لتمام التكوين في العاقل الرشيد ووظيفة الرشد فوق وظيفة العقل الوازع والعقل المدرك والعقل الحكيم، لأنها استيفاء لجميع هذه الوظائف وعليها مزيد من النضج والتمام والتمييز بميزة الرشاد حيث لا نقص ولا اختلال، وقد يؤتى الحكيم من نقص في الإدراك، وقد يؤتى العقل الوازع من نقص في الحكمة، ولكن العقل الرشيد ينجو به الرشاد من هذا وذاك.
    وفريضة التفكير في القرآن الكريم تشمل العقل الإنساني بكل ما احتواه من هذه الوظائف بجميع خصائصها ومدلولاتها. فهو يخاطب العقل الوازع والعقل المدرك والعقل الحكيم والعقل الرشيد، ولا يذكر العقل عارضاً مقتضباً بل يذكره مقصوداً مفصلاً على نحو لا نظير له في كتاب من كتب الأديان.
    فمن خطابه إلى العقل عامة ـ ومنه ما ينطوي على العقل الوازع ـ قوله تعالى في سورة البقرة.
     (إِنّ فِي خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللّيْلِ وَالنّهَارِ وَالْفُلْكِ الّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النّاسَ وَمَآ أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السّمَآءِ مِن مّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثّ فِيهَا                   مِن كُلّ دَآبّةٍ وَتَصْرِيفِ الرّيَاحِ وَالسّحَابِ الْمُسَخّرِ بَيْنَ السّمَآءِ وَالأرْضِ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ                                  يَعْقِلُونَ )            (البقرة/164).
ومنه ما يخاطب العقل وينطوي على العقل الوازع كقوله تعالى في سورة الملك ..
( وَقَالُواْ لَوْ كُنّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنّا فِيَ أَصْحَابِ السّعِيرِ )              (الملك/10).
وفي سورة الأنعام ..
(... وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إِلاّ بِالْحَقّ ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ )               (الأنعام/151).
ومنه في سورة يوسف ..
( وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاّ رِجَالاً نّوحِيَ إِلَيْهِمْ مّنْ أَهْلِ الْقُرَىَ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الاَخِرَةِ خَيْرٌ لّلّذِينَ اتّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ )     (يوسف/109).
ومنه في سورة الحشر، بياناً لأسباب الشقاق والتدابر بين الأمم .
(... تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتّىَ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَوْمٌ لاّ يَعْقِلُونَ )             (الحشر/14). 
 وهذا عدا الآيات الكثيرة التي تبتدئ بالزجر وتنتهي إلى التذكير بالعقل، لأنه خير مرجع للهداية في ضمير الإنسان، كقوله تعالى في سورة البقرة ..
( أَتَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبِرّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ )           (البقرة/44).
وكقوله تعالى في سورة آل عمران..
( يَأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجّونَ فِيَ إِبْرَاهِيمَ وَمَآ أُنزِلَتِ التّورَاةُ وَالإنْجِيلُ إِلاّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ                     تَعْقِلُونَ )                              (آل عمران/65). 
وفي سورة الأنبياء..
(أُفّ لّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ )                       (الأنبياء/67).
وفي غير هذه السور الكريمة تنبيه إلى العقل في هذا السياق يدل عليه ما تقدم في هذه الآيات.
    إن هذا الخطاب المتكرر إلى العقل الوازع يضارعه في القرآن الكريم خطاب متكرر مثله إلى العقل المدرك أو العقل الذي يقوم به الفهم والوعي وهما أعم وأعمق من مجرد الإدراك. وكل خطاب إلى ذوي الألباب في القرآن الكريم فهو خطاب إلى اللب ـ هذا العقل المدرك الفاهم لأن معدن الإدراك والفهم في ذهن الإنسان كما يدل على اسمه باللغة العربية.
(...... وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلّ مّنْ عِندِ رَبّنَا وَمَا يَذّكّرُ إِلاّ أُوْلُواْ                         الألْبَابِ )                  (آل عمران/7).
( قُل لاّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطّيّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتّقُواْ اللّهَ يَأُوْلِي الألْبَابِ لَعَلّكُمْ      تُفْلِحُونَ )                 (المائدة/100).
( الّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَـتّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَـَئِكَ الّذِينَ هَدَاهُمُ اللّهُ وَأُوْلَـَئِكَ هُمْ أُوْلُو                 الألْبَابِ )                    (الزمر/18).
    ومن هذه الآيات نتبين أن اللب الذي يخاطبه القرآن الكريم وظيفته عقلية تحيط بالعقل الوازع والعقل المدرك والعقل الذي يتلقى الحكمة ويتعظ بالذكر والذكرى، وخطابه خطاب لأناس من العقلاء لهم نصيب من الفهم والوعي أوفر من نصيب العقل الذي يكف صاحبه عن السوء ولا يرتقي إلى منزلة الرسوخ في العلم والتمييز بين الطيب والخبيث والتمييز بين الحسن والأحسن في القول.
    أما العقل الذي يفكر ويستخلص من تفكيره زبدة الرأي والروية فالقرآن الكريم يعبر عنه بكلمات متعددة تشترك في المعنى أحياناً وينفرد بعضها بمعناه على حسب السياق في أحيان أخرى. فهو الفكر والنظر والبصر والتدبر والاعتبار والذكر والعلم وسائر هذه الملكات الذهنية التي تتفق أحياناً في المدلول ولكنها لا تستفيد من كلمة واحدة تغني عن سائر الكلمات الأخرى.
(.... وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيات لَعَلّكُمْ                            تَتَفَكّرُونَ )                  (البقرة/219). 
( الّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكّرُونَ فِي خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النّارِ )                (آل عمران/191).
( ... قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَىَ وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكّرُونَ )              (الأنعام/50).
( يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزّرْعَ وَالزّيْتُونَ وَالنّخِيلَ وَالأعْنَابَ وَمِن كُلّ الثّمَرَاتِ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً لّقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ )                  (النحل/11).
( أَوَلَمْ يَتَفَكّرُواْ فِيَ أَنفُسِهِمْ مّا خَلَقَ اللّهُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاّ بِالْحَقّ وَأَجَلٍ مّسَمّى وَإِنّ كَثِيراً مّنَ النّاسِ بِلِقَآءِ رَبّهِمْ لَكَافِرُونَ )             (الروم/8).
( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لّيَدّبّرُوَاْ آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكّرَ أُوْلُو الألْبَابِ )         (ص/29).
( أَفَلاَ يَتَدَبّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىَ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ )              (محمد/24).
( .... فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ )               (النحل/43).
(.... قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنّمَا يَتَذَكّرُ أُوْلُو الألْبَابِ )       (الزمر/9).
( .... يَرْفَعِ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ                  خَبِيرٌ )            (المجادلة/11).
( .... وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاّ اللّهُ وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلّ مّنْ عِندِ رَبّنَا وَمَا يَذّكّرُ إِلاّ أُوْلُواْ الألْبَابِ )               (آل عمران/7).
    بهذه الآيات وما جرى مجراها تقررت ولا جرم فريضة التفكير في الإسلام، وتبين منها أن العقل الذي يخاطبه الإسلام هو العقل الذي يعصم الضمير ويدرك الحقائق ويميز بين الأمور ويوازن بين الأضداد ويتبصر ويتدبر ويحسن الادكار والرواية، وأنه هو العقل الذي يقابله الجمود والعنت والضلال الذي قصاراه من الإدراك أنه يقابله الجنون. فإن الجنون يسقط التكليف في جميع الأديان والشرائع وفي كل عرف وسنّة، ولكن الجمود والعنت والضلال غير مسقطة للتكليف في الإسلام، وليس لأحد أن يعتذر بها كما يعتذر للمجنون بجنونه، فإنها لا تدفع الملامة ولا تمنع المؤاخذة بالتقصير.
    ويندب الإسلام من يدين به إلى مرتبة في التفكير أعلى من هذه المرتبة التي تدفع عنه الملامة أو تمنع عنه المؤاخذة. فيستحب له أن يبلغه بحكمته ورشده، ويبدو فضل الحكمة والرشد على مجرد التعقل والفهم من آيات متعددة في القرآن الكريم يدل عليها قوله تعالى..
( .... وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذّكّرُ إِلاّ أُوْلُواْ الألْبَابِ )         (البقرة/269).
ويدل عليها أن الأنبياء يطلبون الرشد ويبتغون علماً به من عباد الله الصالحين، كما جاء في قصة موسى وأستاذه عليهما السلام.
    والذي ينبغي أن نثوب إليه مرة بعد مرة أن التنويه بالعقل على اختلاف خصائصه لم يأت في القرآن عرضاً ولا تردد فيه كثيراً من قبيل التكرار المعاد. بل كان هذا التنويه بالعقل نتيجة منتظرة يستلزمها لباب الدين وجوهره ويترقبها من هذا الدين كل من عرف كنهه وعرف كنه الإنسان في تقديره.
    فالدين الإسلامي دين لا يعرف الكهانة ولا يتوسط فيه السدنة والأحبار بين المخلوق والخالق ولا يفرض على الإنسان قرباناً يسعى به إلى المحراب بشفاعة من ولي متسلط أو صاحب قداسة مطاعة، فلا ترجمان فيه بين الله وعباده يملك التحريم والتحليل ويقضي بالحرمان أو بالنجاة، فليس في هذا الدين إذن من أمر يتجه إلى الإنسان من طريق الكهان، ولن يتجه الخطاب إذن إلا إلى عقل الإنسان حراً طليقاً من سلطان الهياكل والمحاريب أو سلطان كهانها المحكمين فيها بأمر الإله المعبود فيما يدين به أصحاب العبادات الأخرى.
لا هيكل في الإسلام ..
( .... فَأَيْنَمَا تُوَلّواْ فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ إِنّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ )   (البقرة/115).
ولا كهانة حيث لا هيكل. فكل أرض مسجد وكل من في المسجد واقف بين يدي الله.
    ودين بلا هيكل ولا كهانة لن يتجه فيه الخطاب ـ بداهة ـ إلى غير الإنسان العاقل حراً طليقاً من كل سلطان بينه وبين الفهم القويم والتفكير السليم.

    كذلك يكون الخطاب في الدين الذي يلزم كل إنسان طائره في عنقه ويحاسبه بعمله فلا يؤخذ أحد بعمل غيره..
( وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىَ .... )     (فاطر/18).
(.... كُلّ امْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ )              (الطور/21).
( وَأَن لّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاّ مَا سَعَىَ*وَأَنّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىَ )      (النجم/39-40).
    فإذا كان في الأديان دين يجتبي القبيلة بنسبها أو يجتبي المرء من قبل مولوده لأنه مولود فيها أو كان في الأديان دين يحاسبه على خطيئة ليست من عمله، فليس في الإسلام إنسان ينجو بالميلاد أو يهلك بالميلاد، ولكنه الذين الذي يوكل فيه النجاة والهلاك بسعي الإنسان وعمله ويتولى فيه الإنسان هدايته بفهمه وعقله، ولا يبطل فيه عمل العقل أن الله بكل شيء محيط، فإن خلق الإنسان للعقل لا يسلبه القدرة على التفكير ولا يسلبه تبعة الضلال والتقصير.
    وعلى هذا النحو يتناسق جوهر الإسلام ووصاياه. وتأتي فيه الوصايا المتكررة بالتعقل والتمييز منتظرة لا موضع فيها للمصادفة ولا هي مما يطرد القول فيه متفرقاً غير متصل على نسق مرسوم. فإنها لوصايا (( منطقية )) في دين يفرض المنطق السليم على كل مستمع للخطاب قابل للتعليم، وهكذا يكون الدين الذي تصل العبادة فيه بين الإنسان وربه بغير واسطة ولا محاباة ويحاسب فيه الإنسان بعمله كما يهديه إليه عقله، ويطلب فيه من العقل أن يبلغ وسعه من الحكمة والرشاد.


                                                                                            
عباس محمود العقاد  

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...