في ذكرى هزيمة حزيران: كيف يعيش الفلسطينيون

02-06-2007

في ذكرى هزيمة حزيران: كيف يعيش الفلسطينيون

وضعت حرب حزيران التي اندلعت في الخامس من يونيو عام 1967أوزارها ، وبدأت سيول اللاجئين تتدفق من الضفة الغربية الى الأردن.

أنشئت مخيمات جديدة، وتدفقت أمواج من البشر الى تلك التي أقيمت في أعقاب حرب سابقة، وكان مخيم الوحدات أحد تلك المخيمات من الجيل الأول.

ذهبت الى مخيم الوحدات بحثا عن حكاية.

لم أشأ أن ألتقي مدير المخيم أو ممثل مفوضية اللاجئين، فأنا لا أريد أرقاما ولا احصائيات حول النازحين عام 1967 أو عام 1948 وما بينهما، بل أنشد حكاية.

قادتني قدماي ومساعدة أحد أصدقائي الى عائلة أبو داوود.

بيتهم في المخيم بسيط ولكنه لا يختلف عن منزل أي شخص في أية قرية في الضفة، ليست له ملامح المخيم بصورته النمطية، فسكان الوحدات هم مواطنون أردنيون من جهة، ومن جهة أخرى مخيمهم يشبه أية بلدة أردنية صغيرة أكثر من صورة مخيم فلسطيني بالانطباع المأخوذ عنه.

دخلت المنزل، وكان بانتظاري أفراد عائلة أبو داوود الذين يمثلون أربعة أجيال. افترشنا الأرض وبدأنا بارتشاف الشاي بالنعنع الذي قدمه المضيفون. هذا المذاق الساحر الذي لا تضاهيه نكهات أغلى الماركات الانجليزية أدهشني. لم أسأل عن السر، بل فضلت ارتشاف ذلك المشروب اللذيذ بمتعة ظاهرة.
-حدثنا اذن عن نزوحك في عام 1967 يا أبو داوود!

نظر الي العجوز الذي حفرت سنواته الخمسة وثمانون أخاديد في وجه، ويبدو أن طلبي لم يرقه، ولم يلبث أن اتضح السبب:

لن أحدثك عن عام 67، فقد كان وصلت الى هذا المخيم في اطار نزوحي الثاني. أنا جئت الى هنا من مخيم اخر في الضفة الغربية، نزحنا اليه عام 1948. لا هذا المخيم ولا الذي قبله يعنيني، فهما ليسا مسقط رأسي. أنا ولدت في قرية اسمها تل الصافي، كانت تابعة لقضاء الخليل.

اذا أردتم البحث عن قرية تل الصافي على الخريطة فلن تجدوها، فهي قد محيت عن الوجود، الا اذا حصلتم على خريطة كتلك التي أراها لي أبو بسام، نجل أبو داوود الذي كان في الثانية من عمره حين غادر تل الصافي في نزوحه الأول، ولكنه يعرف عنها أكثر بكثير مما يعرف الكثيرون عن مسقط رأسهم حتى ولو كانوا يعيشون فيها، ويحفظ أسماء عائلاتها عن ظهر قلب، ويلم بتاريخها منذ العهد الروماني.

نطق أبو داوود، وتجسدت قريته "تل الصافي" المدمرة والمغيبة، تجسدت بيوتا وحدائق، سهرات في أمسيات الصيف وأكواب شاي بالنعنع تدور على السامرين، حكايات وأسراب سنونو، قطعان عجول ترعي في المسطحات الخضراء وأشجارا يتسلقها الشياطين الصغار بحثا عن أعشاش الدوري، أعراسا وماتم، ضحكات ودموعا، أفران التنور الريفي التي تخبز فيها النساء الأرغفة الطازجة لوليمة "المسخن"، مدرسة القرية وحلقات الدبكة، قصص حب وشقاوة و........هجوم المأساة التي بدأت ملامحها تلوح في الأفق منذ فترة.

أبو داوود وصف لي بوابة منزله بأدق تفاصيلها، مطلية باللون الأبيض ولكن هناك بقع صدئة عند الأطراف، حتى هذه لم ينسها، رغم مرور كل تلك السنين !!!!

ما أدهشني في ذاكرة أبو داوود أنها لم تكن انتقائية، لم تقتصر على القضايا التي تعيش في ذاكرته بشكل ايجابي، كما لم يتحدث برومانسية كعادة الذين يتذكرون ماضيهم. خذوا بقع الصدأ مثلا على البوابة، وتصوروا أنه لم يدع أن تلك البلدة هي "جنة عدن" ذات حدائق غناء، نعم فيها أشجار وبساتين، ولكن الصورة التي رسمها لم تجعلني أتخيلها "جنة الله على الأرض".

مع ذلك فهو جسد أمامي بكلماته شوارع تنبض بالحياة، وحياة تزخر بالحركة، وحركة لا تنتهي في كل زاوية من زوايا تلك القرية ذات الطرقات المتربة .

انها ليست قطعة من الجنة، ولكنها "تل الصافي" ، بلده، حيث ولد هو واثنان من أولاده، وحيث كان يتمنى أن بعيش ليرى العائلة تتكاثر والأولاد ينجبون أحفادا وهؤلاء بدورهم يتزوجون وينجبون، كما حصل لاحقا، ولكن ليس في "تل الصافي" بل في مخيم نزحوا اليه ثم نزحوا منه الى آخر ثم الى ثالث يحملون ذكرياتهم عن بلدتهم تل الصافي أينما حلوا في حقائب ملابسهم، بانتظار تحقق الحلم الذي تقف دونه تعقيدات مفاوضات السلام، اذا نجحت أية جهة دولية في اعادة احيائها، والتي أدرج فيها موضوع اللادجئين في لائحة القضايا المؤجلة.

المصدر: BBC

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...