نجحـت القـمـة فمـا حـال الأمـة
أرادتها الولايات المتحدة الأميركية مناسبة لتعميق الانقسامات وتعطيل العمل العربي المشترك، فاجتازت القمة هذا الامتحان وحافظت على الحد الأدنى من المظاهر لصالح بقاء مؤسسة الجامعة العربية واستمراريتها.
كان الطموح الأميركي المعلن منذ سنوات تجاوز النظام الإقليمي العربي لصالح «الشرق الأوسط» بأوصافه المختلفة «الكبير» أو «الجديد». أقامت الولايات المتحدة «محور الاعتدال العربي» وركزت تعاونها مع دول «الرباعية» ثم طوّرت هذا المحور ليشمل الدول «السُنية السبع» في المنطقة. حثت أصدقاءها العرب على مقاطعة قمة دمشق لاستبعاد البحث في مبادرة السلام العربية وتفعيلها. استجابت بعض الدول بخفض مستوى تمثيلها لكنها لم تغامر في إيصال الأمور إلى حد القطيعة. اتخذت من الأزمة اللبنانية ذريعة لتحميل دمشق مسؤولية تراجع العمل العربي المشترك وتجاهلت القضايا الكبرى من فلسطين إلى العراق ومسؤوليتها عنها. نجحت القمة في الشكل ولم تتقدم في مضمون قراراتها في مواجهة التحديات.
القضية الفلسطينية، التي ظلت محور اللقاء العربي رغم الافتراق في الكثير من القضايا الأخرى، صارت هي نفسها موضوع اختلاف يتناوب العرب على طرح المبادرات في شأنها دون الوصول إلى موقف جامع.
العراق المتخبّط بدمه يحاذر العرب الخوض في المسؤولية الرئيسية عن مآسيه. كيف يمكن العمل للحفاظ على وحدته وعروبته والعرب من حوله يتفرقون أشتاتاً في محاور يقودها غير العرب. إن محنة العراق كانت خطيئة عربية يوم ظن بعضهم أن المشروع الأميركي يشكل لهم حماية من حاكم متهور أو من جار طامع. كانت مشكلة العرب في العقود الثلاثة الماضية أنهم تخلوا عن فكرة الأمن القومي العربي الذي وحده يعصمهم من الأخطاء في تحديد العدو من الصديق. بعضهم خاض حرب تحرير أفغانستان من الاحتلال السوفياتي ولم تكن أولويته فلسطين. بعضهم عينه على شريكه في الوطن وشريكه في العروبة لا على الآتي من خلف البحار ليعيد تشكيل كيانات المنطقة وهويتها ويعيد توزيع السلطة بين من يستخلص من أتباع.
هل كانت قضية لبنان فعلاً هي القضية، وهل صار حرص العرب على مقعد الرئيس المسيحي الماروني أكبر من حرصهم على مسيحيي الشرق الذين تقتلعهم العاصفة الأميركية؟
هل هم يحرصون فعلاً على النموذج اللبناني فيما هم يتجاهلون مكوناته وصيغته ومعادلته الذهبية القائمة على الشراكة؟
كيف لم يخطر ببالهم على مدى سنوات ثلاث أن يلفتوا نظر الرئيس الأميركي لموقع رئيس الجمهورية المسيحي ودوره حين كان يمحض ثقته وتأييده كل يوم لرئيس الحكومة؟
هل صحيح أن قضية لبنان ما زالت القضية ويريد العرب أن يحاسبوا وكيلهم عن وكالته وعن أخطائه التي لا ينكرها أحد، متجاهلين أن ما حصل في لبنان كان اجتياحاً سياسياً مكملاً لاجتياح العراق وأن القرار الأميركي هو الذي أدخل لبنان مجدداً في النزاعات الإقليمية وسعى إلى إخراجه من موقعه وتجريده من عناصر قوته، وأنه تم الاعتداء عليه بحرب فشلت لكنها كانت موجعة.
فهل يجب أن يكافَأ الإسرائيليون والأميركيون على حربهم ويعاقَب الذين صمدوا في تلك الحرب وضحوا وأعطوا العرب هدية نصرهم فأضاعوها في الكيد السياسي والمهاترات عن المسؤوليات والحرص المزيّف على أمن لبنان واستقراره وازدهاره.
هناك قضية في لبنان وليست كل القضية فيه. فهل يحاسب العرب أنفسهم عن قرار القبول بالاحتلال الأميركي للعراق بهدف التخلص من حكم جائر أو من تهديد سبق أن أزالوه ودفع شعب العراق ثمنه عشر سنوات من الحصار وموت مليون طفل بافتقاد الغذاء والدواء. يريد بعض العرب أن يطرحوا القضايا بمعزل عن تاريخها، يختارون ما يلائم نفض اليد من المسؤولية عما آل إليه وضع فلسطين وعما كان وصار من تأثير الدور الإيراني في المنطقة كلها.
لقد كانت القضية وما تزال كلها في هذا الفراغ العربي الذي يجب أن يملأ بمشروع عربي للأمن القومي بلا شوفينية من عرب أحرار يتساوون في الحقوق والواجبات ويشتركون في بناء مستقبلهم بلا وصاية حتى لا نقول بحرية من الاستعمار الجديد. ولا نزال نتحدث عن العرب بغير تمييز لأنهم جميعاً مستهدفون في كياناتهم وهويتهم ووجودهم الحر المستقل.
لقد نجحت القمة في أن توقف مسار الانهيار العربي لكنها لم تنجح في ضمان أن يتوقف هذا الصراع بين قيادة المحاور على مشروع مجهول، اسمه «الاعتدال» وآخر تتضافر قوى عربية كبيرة لعزله اسمه «الممانعة». فهل هناك متسع من الوقت لهذا الحوار العربي الذي أقفلت قمة دمشق بالوعد على تحقيقه، أم سيبقى لبنان «قميص عثمان» وربما تحول إلى «قميص المسيح الممزق» على مذبح الإرادات المختلفة المتعززة بروح «الانتقام» و«الثأر» لهذا أو ذاك من شهداء العصر الأميركي إلى أي جهة انتموا؟
سليمان تقي الدين
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد