نذير نبعة: الجلنار الدمشقي
نذير نبعة، الفنان الذي وُلد في قرية «المِزة» من ضواحي دمشق. في المدرسة التقى بناظم الجعفري الذي أسس في المدرسة مرسماً يعز نظيره في كليات الفنون، وسافر إلى القاهرة فلم يذب في الفن العربي بل ظل يبحث عن الشخص والرموز السورية في فنه، انخرط في المقاومة الفلسطينية في فتح وانتقل بفنه هكذا إلى الواقع، تقلب في فنه بين أساليب عدة وأسس جماعة العشرة التي ما لبثت أن انفرطت لكن ذاته كانت ملهمتة في كل شيء.
استقبلتنا زوجته الفنانة التشكيلية (شلبية إبراهيم) على باب البيت بلهجتها المصرية المحببة؛ دالةً بيديها إلى غرفة المكتبة التي كان (نبعة) ينتظرنا فيها، جالساً بهدوء على أريكة بنيّة بجانب المدفأة، هناك وقف التشكيلي السوري بقامته المديدة، طالباً الشاي كي نبدد برودة الطقس المتقلب في إضاءة شمسه الشباطية؛ والذي كان سيبعث في الجميع طمأنينة ما لولا خبر تفجير سيارة مفخخة في حي مساكن برزة؛ قطع علينا دفء لحظات اللقاء الأولى بصاحب (الدمشقيات).
من نافذة بيته يمكن سماع دوي انفجارات بعيدة تتصادى في مداخل المدينة وعلى أطرافها، لكن في تلك اللحظات استدار (نبعة) إلينا بابتسامة أبوية؛ مفتتحاً حديثه عن أيام الصبا الأولى التي قضاها ذاك الطفل الذي كانه في بيت جدته بقرية (المِزّة) والتي صارت اليوم من أرقى الأحياء الحديثة في العاصمة السورية: «ذاكرة البستان هي الجذور التي صنعت المفاهيم والأشكال والرموز التي تراها اليوم في لوحاتي؛ فلو كان العمر شريط فيديو ورجعنا به إلى الوراء، ستكون فترة طفولتي هي من أجمل أيام عمري؛ تلك الفترة قضيتها في بستان جدتي في المزة، القرية المشكلة من بيوت طينية وليس على ما تراه اليوم من إسمنت أكلها عن آخرها».
الطفولة التي عاشها في قريته؛ وما شاهده في سني عمره المبكرة في بيت جدته من قواقع ولقى وفواكه وعصافير ومياه كان بمثابة التشكيل الأولي للذاكرة الذي انعكست فيما بعد في أعماله، إذ كان الصبي الصغير يواظب على تأملاته؛ متلصصاً على مراحل بزوغ براعم الجلنار والتفاح، متتبعاً انتحاءات الزهر وتفتحه للنور، لتصب هذه الصور لاحقاً في أعماله: (الرمانة والسكين): عشتُ طفولتي في بستان؛ شارداً بين أشجاره وأزهاره وأوراقه، فأخرج من الغرفة إلى ضفتي الساقية التي كانت ترتع على جانبيها العديد من وريقات الأزهار الملونة، وهنا كانت تتتابع أمامي أشكالها السحرية؛ مستطيلة ومائلة ونائمة على صفحة الماء».
كل هذا كان يتراكم في ذاكرة الطفل الصغير الذي ما برح يسحره المكان ويأخذه في إغماءته المتناوبة: «تتشكل داخل المخيلة صورة تلح على الفنان حتى يخرجها من مخيلته نحو الفضاء الأبيض على سطح اللوحة، ثم يخرج بها من هذا الموت إلى الألوان والأشكال التي تشكّل موضوع اللوحة، هنا الموت له معنى مختلف لدي عن المعنى المتداول، فالموت لدي هو ما بعد الحياة؛ وهو ليس شيئاً محزناً أو مخيفاً؛ فما بعد الحياة يمكن أن يكون هناك حياة أخرى، فعندما أقول إن بياض اللوحة هو الموت يعني هذا أن الأبيض لا أشكال ولا ألوان؛ بل هو سديم من البياض، مثله مثل الليل بالنسبة لطفل؛ ما إن يطلع عليه نور الشمس الذي يضيء العالم من حوله؛ حتى تبدأ الحياة فيتبدى المشهد جلياً أمامه؛ ويرى هذا الطفل العصافير والأشجار والفلاحين في الحقل، أجل الحياة تبدأ مع هذا النور».
اللوحات الأولى
نشأ (نذير نبعة) في أسرة بسيطة لأب يعمل فلاحاً وفي مهنٍ عدة، بينما كانت والدته تعمل في تطريز الملابس، المهنة التي ستعلن ملامساته الأولى من خلال مساعدته لأمه؛ حيث كان الطفل الصغير يرسم على الثياب التي تخيطها والدته لنساء وفتيات القرية، لوحته الأولى التي يقول عنها ضاحكاً: «كنت أرسم طيوراً وزخارف نباتية على تلك الأثواب، وكان منتهى سعادتي عندما تلبس فتاة من قريتي ذلك الثوب فأرى رسومي تطير على صدرها».
هذه الطيور المطرّزة على أثواب الفتيات كانت بمثابة الكروكي الأولي ليدي (نبعة) الذي حالفه الحظ كما يقول من خلال علاقته الطيبة مع معلّمه في مدرسة القرية (ثابت قباني) ابن عم رائد المسرح السوري (أبي خليل القباني): «كم التقينا في بيته الصيفي في بساتين كيوان، ذلك البيت هو المكان الذي شاهدتُ فيه لأول مرة نسخة من لوحة انطباعية».
إلى جانب بيت (القباني) كان هناك بيت (محمود جلال) أبرز الفنانين السوريين في تلك المرحلة والذي كان الفتى اليافع يتردد عليه بين فينة وأخرى: «ساعدني الحظ أن أتعرّف على ابنه (خالد جلال) عندها دخلتُ البيت وشاهدتُ لأول مرة في عمري لوحة زيتية؛ كانت عبارة عن تصوير لراعٍ ينظر إلى الأفق؛ لكن الغرفة الموجودة فيها تلك اللوحة؛ والنور المنعكس على ألوانها الترابية والبرتقالية بدا وكأنني كنتُ أرى شيئاً خارقاً للعادة، لقد هزتني تلك اللوحة المذهلة؛ كما أنني رأيتُ ـ ولأول مرة ـ في ذلك البيت أيضاً علبة ألوان زيتية كان والد صديقي يستخدمها في الرسم».
المرحلة التالية انتقل فيها (نبعة) من مدارس القرية إلى مدرسة (التجهيز الأولى) في قلب العاصمة، وهناك كان ناظم الجعفري قد أقام فيها مرسماً لتعليم التلاميذ مبادئ الرسم: «ذاك المرسم في تلك المدرسة لا يوجد له نظير حتى في كلية الفنون الجميلة بدمشق اليوم؛ فتنظيمه وأدواته التي كان وفرها الجعفري للطلبة الصغار جعلت منه مكاناً استثنائياً للتعلم».
انتسب الشاب الصغير لمرسم (الجعفري) بحكم دراسته في ثانوية (التجهيز) متابعاً عن كثب تقنيات خلط اللون والرسم بالألوان المائية وتأسيس القماش للرسم عليه بالزيت: «الجعفري علّمني كل الخامات والأدوات التي يحتاجها الفنان في بداياته، فصرتُ أفهم طبيعة قلم الرصاص وقلم الفحم وإصبع الفحم، والورق الذي نرسم عليه بالمائي، وكيف نحضّر قماشاً لنرسم عليها، وهذا كان على خلاف كل الفنانين الذين قابلتهم فيما بعد، فالجعفري كان كريماً جداً لكنه كان بالمقابل صارماً وجدياً، وهذا ما علّمني الفن واحترام أصول العمل الفني بأن نكون جديين في تعلمنا».
حتى غاية نهاية المرحلة الثانوية وحيازته شهادتها؛ كان (نبعة) قد تقدّم لنيل منحة لدراسة الفن في القاهرة أيام الوحدة السورية المصرية لكنه لم ينس أخذ الإذن من معلّمه الأول: «ذهبتُ وقتذاك إلى مرسم الجعفري في حي (عين الكرش) بدمشق، وأخبرته برغبتي بذلك، وعندها سمح لي (الجعفري) بالالتحاق بالبعثة».
في القاهرة كانت مرحلة التأسيس الحقيقية كما يصفها (نبعة) مضيفاً: «كنتُ محظوظاً أيضاً لدراستي الفن على أيدي أساتذة كبار هناك كان أبرزهم: (حسين بيكار، حامد ندى، عبد العزيز درويش، عبد الهادي الجزار) ففي أكاديمية الفنون المصرية كان هؤلاء يشدون أيدينا نحو رسم الحديث وتناوله في أطروحات الفن العالمي، وكان هذا الأخذ والعطاء يتعدى نطاق العمل الفني أو اللوحة، إذ كانت تجمعنا مع هؤلاء الأساتذة ملتقيات ثقافية وفنية لشعراء من الطلاب أو شعراء من خارج الأكاديمية تعرفت عليهم هناك وصاروا فيما بعد من أعز أصدقائي من مثل: (عبد الرحمن الأبنودي، سيد حجاب، أحمد فؤاد نجم، محمود أمين العالم، وآدم حنين)».
بين النيل والفرات
بعد عودته من القاهرة نُدِب (نبعة) للتدريس في دير الزور عام 1962؛ وكمدرّس للفن اكتشف الرجل هناك حدود البادية الشامية؛ وعلاقة نهر الفرات بها؛ كما اكتشف شجر (الغرَب) الذي تعيش جذوره في الماء؛ فيما تتطاول جذوعه وأغصانه بملامح تعبيرية خلبت لبه، ناقلةً أياه من بر النيل إلى شط الفرات العظيم؛ فتشكّلت أولى ملامح فنه المتمرد على القوالب التقليدية ذات الميول الانطباعية في كثير منها؛ أضف إليها تلك المسامرات التي كانت تجري بينه وبين المثقفين هناك وعلى رأسهم (عبد القادر عياش) الذي كان يقيم متحفاً في المدينة؛ إذ ربطته به صداقة قوية حرضته على اكتشاف مداخل دير الزور نحو نزهة في الغروب الأحمر القاني للمكان، مما وفر لـ (نبعة) فضاءً رحباً استحضر من خلاله التاريخ والحضارات السومرية التي كانت موجودة في تلك المنطقة، لتتشكل تصوراته التشكيلية التي مهدت لمعرضه الأول عام 1965 في غاليري (محمود دعدوش ـ صالة الفن الحديث) بدمشق.
يصف الناقد والفنان (طلال معلا) ذلك المعرض بأنه كان «هزة قوية في الوسط التشكيلي السوري؛ إذ كُتِب عنه الكثير من قبل النقاد وممن يهتمون بالفن التشكيلي في تلك الفترة؛ انطلاقاً من أهمية هذا الفنان الجديد الذي قدّم صورةً مختلفة وبشكل تعبيري راقٍ عن الحالة الإنسانية في سوريا، مجسداً موقفه من التشكيل من جهة ومن القضايا التي تطرحها لوحاته، ولذلك يمكن القول إن (نذير نبعة) كان من مؤسسي الحداثة في التشكيل السوري».
عشرون لوحةً كانت خلاصة معرضه الأول؛ والذي أثار سجالاً عميقاً في المحترف التشكيلي لبلاده؛ لا سيما لوحته (الحوت والقمر) ولوحة (الطلسم) و(كائنة مردوخ) و(سيزيف) و(العجاج) وهذه الأخيرة التي استلهمها من أطفال دير الزور وحركات أيديهم على رؤوسهم كإشارة لأترابهم باقتراب عواصف الرمال والأتربة في تلك البقعة النائية من سوريا الستينيات: «الطبيعة المختلفة عن طبيعة دمشق، نهر الفرات وحوله تلك الهالة الذهبية المتشكلة من ورق الشجر إلى جانب ذاك الغروب الأحمر القاني، كان مغايراً للطبيعة الرومانسية الدمشقية الملأى بشجر الصفصاف والكباد والنارنج، أجل كان ذلك فضاءً مسيطراً على الجوارح بكل معنى الكلمة».
معرضه الثاني لم يتأخر وفيه واصل الفنان السوري اعتماده على الرسم بلون (الأوهرا) أو لون الصراء وتدرجاته التي كانت تصل أحياناً إلى درجة البنيّ، لينتقل رويداً رويداً لاختصار موضوعاته من الأسطورة في شخصية أو شخصيتين في اللوحة: «كان ذلك يعكس رؤى شخصية لدي؛ فما كان يعتبر خطأً في اللوحة كنت أسعى إلى جعله قيمة تشكيلية؛ فأقسم اللوحة إلى نصفين وشخصيتين عبر تكوين متكامل؛ لكنني خرجتُ عندها من الأسطورة إلى الواقع؛ فالشخصية الفراتية قرّبتني من الواقع؛ عبر محايثتي اليومية للفلاحين ومحاولتي التعرف أكثر فأكثر على هوية المكان في الجزيرة السورية».
فلسطين
بعد هزيمة 1967 عمل (نبعة) مع الفدائيين الفلسطينين؛ مقدّماً نظرةً مختلفة للنضال المسلح وعن القضية؛ فمع انطلاقة الثورة الفلسطينية بعيد العدوان الإسرائيلي على الجبهتين المصرية والسورية، انخرط (نبعة) في صفوف طلائع الفصائل الفلسطينية المسلحة، وتحديداً حركة (فتح) فكانت فرصة أن يشتغل أهم البوسترات عن حركة النضال الفلسطيني؛ وعن الشهداء عبر رسوم وملصقات واكبت البندقية الفلسطينية في غور الأردن، المكان الذي سينتشل منه رموزه الغاضبة ووجوه شخصياته الصلبة: «كثيرون كانوا يظنون أنني فلسطيني؛ كون رسوماتي كانت بمثابة الناطق الرسمي بلسان الحراك الفلسطيني؛ فهزيمة حزيران كانت صفعة على وجوهنا جميعاً؛ جعلتنا جميعاً في حالة إحباط، لكن كانت شخصية الفدائي هي من أنقذتنا من هذا الاكتئاب، فكنا نشعر أن هذه الشخصية هي الشخصية الوحيدة التي يمكن لها أن تدافع عن وجودنا عن مفهوم الوطن، ولذلك احتلت صورة الفدائي الجزء الكبير من لوحاتي في تلك الفترة، وكان معظمها على هيئة بوستر أو ملصقات، حيث نشأت صداقات وأخوّة بيني وبين الفدائيين؛ ووفق وتيرة عمل يومي تسارع لتوثيق الكفاح الفلسطيني؛ أذكر أنني كنت أسهر ليلاً لأرسم البوستر؛ وفي الصباح كان يوزع على الجدران، إذ كان الملصق وقتذاك بديلاً عن اللوحة».
عام 1971 سافر (نبعة) إلى باريس لإكمال دراسة الفن في أكاديمية (البوزار) ليبقى فيها حتى عام 1974 ـ كانت ضرورة، يقول مضيفاً: «في ذلك الوقت كان على الفنان أن يرى على أرض الواقع ما كان قد شاهده من لوحات لفناني الغرب في الكتب والكتالوكات، فأحياناً ما كنت أراه في تلك الكتب أقل بكثير مما رأيته لاحقاً في متاحف باريس؛ تماماً كما هو مع أعمال أوجين وديلاكروا ـ (1798ـ1863) فأعظم لوحاته المعنونة (موت السردينيبال) اكشتفتها في (اللوفر) عبر نسخة صغيرة منها، إضافةً لأعماله التي حققها هذا الرسام العبقري في المغرب، فالنموذج المصغر من (موت السردينيبال) كان أجمل بما لا يقاس من نظيره في اللوحة الكبيرة».
المواجهة بينه وبين الفن الغربي كانت قبل ذهابه إلى باريس بكثير؛ إذ اطلع الفنان السوري هناك على تقنيات حديثة في الرسم؛ بعيداً عن التصور المسبق في التفكير والوعي: «كنتُ وجهاً لوجه مع مدارس الفن الغربي؛ فأخذت دور الطالب المُجد الذي كان يتفقد نواقصه فيبحث عنها ويستكلمها، لكن لم أكن شخصية لا تمتلك زاداً مثل فنانين عرب ذابوا واندمجوا تماماً في شخصية المدرسة الغربية، فهؤلاء لم يكن لديهم أرضية تحميهم من هذا الاندماج التام الذي أبعدهم عن أية خصوصية».
نقاشات عديدة أيضاً خاضها (نبعة) في أكاديمية (البوزار) مع أهم أساتذة الفن هناك، فالأعمال الفنية التي رآها هناك كان قد زال عنها القيمة والدهشة بالنسبة لقريحة هذا الفنان السوري الذي تفتحت حواسه أكثر فأكثر على تأصيل الرمز السوري في اللوحة، وإعادة صياغته من جديد وفق تقنيات أكثر تطوراً ومرونة وصولاً إلى اكتشافه لأسلوب خاص به استقاه من الأبعاد الصوفية الدمشقية: «بدأت أبحث عما أريده في تقنيات الفن الغربي لخدمة موضوعاتي السورية؛ فخلال وجودي في باريس تعرفت على صديق اسمه أحمد قاسم ابن الدكتور محمود قاسم عميد كلية العلوم في القاهرة وجدت عنده كتيب (الخيال عند محي الدين ابن عربي) كان ذلك مؤثراً في حياتي، فقد ألقى (قاسم) النص في لقاء جمعني به؛ ابن عربي غيّر لدي كل المفاهيم التي كنت قد عملتُ عليها، فاكتشفتُ أن في الخيال تكمن الحياة الحقيقية للمخلوقات؛ فعندما تقول كلمة تفاحة يقفز كل التفاح إلى ذهنك».
إضافة إلى كل الموروث المليء بالغزل والفلكلور الشعبي، اشتغل (نبعة) على تجذير رموزه التي استقاها من أضواء وروائح بستانه القديم، ومن لقى جدته وقواقعها المسحورة: «لمستُ هنا أمراً مختلفاً عن الفن في الحضارة الغربية، فبدأت أعود إلى ذلك البستان، إلى تلك الملامس الأولى عندما كنتُ أمسكُ ببرعم زهرة الرمان وأتأملها من داخلها، وكان السؤال كيف لي أن أرسم طبيعة صامتة لا توجد فيها عناصر واقعية اعتاد الجميع على رؤيتها في اللوحة من نهر وأشجار وبيت، وهذا ما استفزني فعلاً لتقديمه لاحقاً في مشروع تخرجي في (البوزار) الذي حزت عليه المرتبة الأولى».
الدمشقيات والتجليات
العودة إلى دمشق منتصف السبعينيات جعلتني أحضنها حضناً طويلاً ـ يقول الفنان السوري مضيفاً: «(الدمشقيات) جاءت كأغنية وقصيدة طويلة في حب دمشق؛ فمنذ عام 1975 وحتى 1991 كانت فترة إنتاج غزيرة لموضوعي الدمشقي؛ وخلف موضوعي هذا اختبأت كل مهاراتي ومشاهداتي؛ لكن ليس بشكل مباشر، كنت حينها أبحث عن لوحة جمهورها كل الناس لا المثقفين أو رواد المعارض الفنية، لوحة تشد الناس فلا يخافون منها كعمل غريب عنهم، ووجدت جزءاً كبيراً من الصدى الذي كنت أرنو إليه، لكن بعدها خرجت منه إلى اتجاه مغاير لما كان في الدمشقيات فكان معرضي (التجليات) الذي التقى مع الموضوع الصوفي لابن عربي، كان (تجليات) عبارة عن مخزوني الذي انتقلت فيه من موضوعي الشخصي إلى موضوع المتلقي، تاركاً المجال أكثر له لرؤية ما يريده، فعندما تكون اللوحة غنية تصبح المغامرة صعبة للفنان والمتلقي في آن معاً؛ وتبحث عن مستويات متعددة من القراءة».
جماعة العشرة
جمع (نبعة) بين قوة الخط واللون وتوظيفه لهما، فلم يراع النسب الواقعية الحقيقية للأشكال بل أخضع شخصياته في اللوحة إلى واقعية تشبهه؛ لا سيما من خلال بروفايلات النساء اللاتي كان يرسمهن. فواقعيته كانت تشبهه؛ كونها نابعة من داخله وليس من خارجه أو من رؤى الآخرين».
في الثمانينيات برز أسس (نبعة) مع رفاقه (أسعد عرابي، والياس الزيات، وخزيمة علواني، غياث الأخرس، وغسان السباعي، وعبد الحميد ارناؤوط) ما عُرف بـ (جماعة العشرة) احتجاجاً على أداء المؤسسة الثقافية الرسمية، ودفاعاً عن تصور هؤلاء عن الأكاديمية الفنية ودور اتحاد التشكيليين السوريين في رفد ودعم الحركة الفنية، لكن هذه (الجماعة) لم تعش طويلاً؛ برغم أنها أتت في فترة كانت مهمة على المستوى العربي؛ كونها حاكت البيانات التي كانت قد بزغت في المغرب العربي (جماعة البعد الرابع وكسر الجدران والانطلاق من الصالة إلى الشارع) وجماعة بغداد (الحروفية وأبعاد الحرف العربي) وجماعة (كمال شرف في لبنان) وجماعة (السودنوية) الجديدة في السودان؛ لكن (جماعة العشرة) عرف أعضاؤها في النهاية أن الفن هو مسألة ذاتية؛ ولذلك وقعت الخلافات بين أفراد تلك الجماعة فتفرقت وعادت إلى مفهوم المرسم والمعرض الفردي: «حاولنا أن نؤسس مجموعة لا يؤلف بينها فكر سياسي؛ بل يربط بينها فنانون فاعلون في الوسط التشكيلي؛ وليس من هؤلاء الذين كانوا يقدمون لوحة للمعارض السنوية، لكن مع الأسف في الفن العمل صعب ضمن فريق ومجموعات، ولهذا كان عمر جماعة العشرة قصيراً مثل كل المجموعات التي تأسست في العالم على هذا الأساس».
كانت بغداد المثير الأكبر لي كي أرسمها بعد تعرضها للقصف الأميركي من الجو مقتبل التسعينيات ـ يبوح الفنان السبعيني معقباً: «الحقيقة فكرة (المدن المحروقة) كمعرض بدأت مع مجزرة قانا وتعرض مركز الأمم المتحدة للقصف الإسرائيلي، هذه الحادثة أثرت بي كما أثر بي القصف الأميركي لبغداد مدينة الفن، مدينة جواد سليم والشعراء، فأنجزت مجموعة لوحات أطلقتُ عليها عنوان (المدن المحروقة)، وشعرت أن هذه المدينة المحروقة ستتكرر في مدنٍ عربية أخرى، وللأسف هذا ما وصلنا إليه اليوم»
رسومات عن (داعش) بالحبر الصيني أطلعنا عليها (نبعة) في مرسمه الحنون؛ هو ما يشتغل عليه مؤخراً: «في فترة حكم محمد مرسي لمصر وظّفت الفضائيات فترات بأكملها لتعطي كل يوم فتوى للجمهور، مما حفزني لتحقيق بورتريهات عن ذلك أسميتها (المفاتي)».
سامر محمد اسماعيل
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد