هل تعود الحرب؟
أمبرتو ايكو المولود 1932 كتب كتابا بعنوان <<الى الوراء>> او <<القهقرى>> عن الغرب اليوم وعن ايطاليا عهد بيرلسكوني، ليثبت ان ما يحدث ردة، او بكلمة اخرى رجعة الى الوراء. المفكر الذي يعرف العصر الوسيط كما يعرف راحة يده، والذي يغوص في السيميولوجيا ويكتب روايات تبسط تواريخ كاملة، عكف مع سنيه الأربع والسبعين تقريبا على اللحظة الراهنة في بلاده. قبله كان المع مخرج ايطالي اليوم موريتي صنع فيلم <<التمساح>> يكني به عن بيرلسكوني وخطط علنا لعرضه قبيل الانتخابات الايطالية ليشارك في هزيمة بيرلسكوني.
هزم بيرلسكوني، لا نعرف بالطبع كيف اثر امبرتو ايكو وموريني والمثقفون الآخرون في هزيمته. لكن احدا لن يهزأ من امبرتو ايكو وموريني وسواهما لانهم خاضو هذه المعركة. لن يلوم أحد ايكو وموريني على ما فعلا او يخطر له انهما ابتذلا الفكر والفن في صراع آني. نموذج الكاتب المناضل ليس سطحيا او مفتعلا الا حيث يكون النضال هو الاقل مشقة والأكثر ملاءمة، وحيث يعوّض الانشاء النضالي عن اي غرض او تطلب آخرين، ويوفر على صاحبه مغبة النضال نفسه. اي حين يكون نموذج <<الكاتب المناضل>> سخرية من النضال ومن الكتابة في آن معا.
الأكيد ان الكاتب المناضل ليس هزأة في مكان بقدر ما هو في ثقافتنا. والأرجح ان هذا من الطرفين، من الذين يتخذون من النضال مظهر تقوى كاذبة ونفاق واكليركية رادعة، او من الذين يبيعون ارواحهم ومهجهم لفكرة بائسة عن الطوبى الفنية والأدبية. في الحالين نجد أمثلة عن كسل فكري وروحي ودغمائية وادعاء. يمكننا بالطبع ان نجد مناضلين لا يخسرون بالنضال شيئا بل ويجعلون منه فيزا للدخول الى شتى المواقع وبطاقة حسن سلوك. كما يمكننا ان نجد تغنيا بالفن يعطي قلة دراية بالعالم وبراءة زائفة غالبا.
في الرابعة والسبعين يجد امبرتو ايكو نفسه أمام شيء لا يمكنه ان يتقدم بدون ان يواجهه: برلسكوني. برلسكوني بالنسبة للمثقفين عار ايطاليا. انه يقودها كما يقول ايكو الى العالم الثالث. انه رجعة الى الاقليمية ما قبل الغاريبالديه، رجعة الى الفاشية. نحن الذين نقرأ ما قاله ايكو لا يسعنا ان نتكلم بالطريقة نفسها عن عارنا الخاص: الحرب. إن عودة الاقليمية (لنسمها بلغتنا الطوائفية) والمافياوية، والتدهور الى ما وراء الدولة (تصفية القضاء والرقابة وتحكم المحسوبية لا في مناصب الدولة فقط بل في خزانتها ايضا) هي بالنسبة لنا امور بلا تاريخ. نتحدث عن الفترة الشهابية على أنها وعد بتجديدها، لكن عمر الشهابية لم يكن قصيرا بلا سبب. كان قصيرا حتى في فترة الهيمنة العسكرية التي جرها معه والتي وحدها مرشحة دائما للعودة. الآن لا نعرف اين يمكن الفصل بين المافياوية والطوائفية المتحدتين والدولة، بل كيف يمكن استعادة الدولة بما يعنيه ذلك استقلالها النسبي. حصانة القضاء واعادة تكوين الرقابة وابعاد المحسوبية المافياوية الطوائفية عن حرم الدولة والمال العام. ينبغي ان نضيف كلمة نسبيا لكل فعل ذكر او سيذكر، لكن هذا يضعف الاسلوب وبوسع كل قارئ ان يضعها من عنده. لا نجري طويلا على هذا الغرار اذ نتذكر فورا ان العودة الكبرى المرهوبة التي تكلمنا عنها كثيرا باللمح والعلن في الفترة الاخيرة، هي عودة الحرب نفسها.
النقاش اللبناني وقع مجددا على المصطلح. بدا ان الحرب حجة مفحمة لدحض امور شتى متفاوتة. كانت الحرب تظل فجأة من تضاعيف مسائل مختلفة، بدءا من قانون الانتخاب العتيد مرورا بجدل الخصخصة ونقاش الاكثرية والاقلية ناهيك عن نقاش المقاومة، توجد دائما لحظة في الكلام هي الحرب الأهلية. يقال فجأة لا تذهبوا في ذلك الموضوع، فمآله الحرب الأهلية. تهديد بعض من يسوقه قادر عليه، ولا يسع أحد ان يكذّب ذلك. يقال ان مقومات الحرب قائمة وان ما تحتاج اليه فقط قرار وسيناريو. مقوماتها موجودة وشبحها ذلك مخيم او ماثل. وسواء كانت بعيدة ام قريبة فان النقاش ينعقد في ظلها، ولأنها وسواس بقدر ما هي امكان فإن طردها من النفوس ليس ممكنا. الشفاء منها ليس وقته الآن.
مقوماتها موجودة هنا اكثر من العراق نفسه. في العراق لا زالوا في طور التطهير المذهبي سعيا الى مناطق صافية طائفيا. في الحرب الماضية فعلنا ذلك ولم يتغير الامر كثيرا، من ذلك الحين. المناطق شبه صافية ولا ينقص سوى امر بتوجيه المدافع. الدولة التي تكونت وسط المنازعات ليست مستقلة بالقدر الذي يجعلها جديرة بالوقوف بين الاطراف، انها حصيلة انقسامات المجتمع ولن تصمد بالطبع إزاءها. ثم ان الثقل العسكري حاضر في نقاش الجماعات اللبنانية، لماذا الانكار، سواء بالتصريح او التلميح او حتى التوجس، انه حاضر ووازن في ميزان النقاش كله. لنقل ان كل كلام مغطى بمقدار من السلاح وجزء من قيمته يرتكز الى ذلك. هذه حقيقة ماثلة ومسلطة لدرجة يفضل كثيرون اجتنابها وحتى نسيانها موقتا.
اذا تكلمنا عن الحرب لا نستطيع اجتناب السلاح، الحرب تحتاج الى سلاح لكن السلاح يجعلها اكثر امكانا. لا نعرف اذا كان الفأس كما يقرر ماكس فريش يحرض على القتل لكن القتل وارد اكثر مع الفأس. يقال ان المال بلا رائحة، لكن هذا لا ينطبق على السلاح، ان له رائحة وهو احيانا يمنحها لحامله. نعرف ذلك الشعار الذي شاع ذات يوم <<هويتي بندقيتي>> وليس اصح منه اليوم. كل التاريخ البائس لحروب الغوار يثبت ذلك، الجماعات المسلحة الكولومبية او التاميلية مثلا لا تحتفظ من كل خطاب نشأتها بسلاحها، والسلاح هذه المرة يقترح اغراضا اخرى. وأحدث، المال والمخدرات في مقدمتها. اما العنف الاسلامي المعولم فيقول بالطريقة نفسها ان الهدف ليس مهما، قد يكون برجي التجارة ولكن قد يكون ايضا عائلة مسافرة في مترو وربما جماعة مصلية في مسجد، المهم هو الإنفجار والمشهد الدموي. المهم مجدداً هو السلاح الى درجة اتحاد المرء بسلاحه، الى حد حلولي يغدو معه المرء نفسه سلاحاً. كل هذا يعني ان السلاح ليس مجرد اداة، ليس ملعقة للأكل، قد يغدو في حين هو الأكل نفسه.
من مفارقات النقاش اللبناني ان الذي يحذّر من الحرب قد يكون هو الأقدر على القيام بها، بذلك يكتسب تحذيره فاعليه اكبر، لكن هذا يغدو مع الوقت تعويذيا. حين يحذر الأقوى والأقدر فإن هذا يجعل الخطر نفسه نظرياً فحسب. يشبه هذا تحذير الانظمة المستبدة الدائم من مؤامرة غير مسماة، ما يجعل الاستبداد نفسه اطروحة نظرية، يمكن هكذا اخراجها لا من حيز الفعل فحسب بل طردها الى مستقبل مجهول. تحذير الأقوى من الحرب يحيلها ايضا احتمالاً عاماً، يفصلها عن مقوماتها وعواملها المادية بحيث تغدو فلتة كلامية ودرجة من العصبية وطريقة في المخاطبة. انه فن تعويذي، يتم طرد الحرب بتقليدها، بنقلها من السلاح الى الكلمة، لكن هذا هو خبز أيام قليلة، في النهاية الحرب لا تقوم بالكلمات.
ثمة معادلة اخرى مطمئنة ايضا وتعويذية في الوقت ذاته. لن تقوم الحرب لأن من يقدر عليها لا يريدها ومن يريدها لا يقدر عليها. انها معادلة عقلانية، لكن من يمكنه طرد الحرب بمعادلة، أيا تكن وأيا يكن مصدرها. كيف يمكن ان تثبت من ان القادر لا يريد. او انه سيبقى دائما هكذا لا يريد. من يضمن ان لحظة اخرى لن تأتي فتتوازى القدرة والإرادة. ألا نستطيع ان نتخيّل ظرفاً آخر بموازنة مختلفة. ماذا لو تهددت قدرته بتغيير إقليمي او دولي مثلاً، ماذا لو تغير الظرف الذي يكبح هذه القدرة ويحول دون استخدامها، ماذا لو تفجر وضع إقليمي لم تعد المعادلات إزاءه صالحة، ثم من قال ان من يريد سيبقى دائماً غير قادر. من قال ان إرادة كهذه لو صحت لا تسعفه لان يطلب القدرة ويجدها. من قال ان القادر لا يغدو مريدا والمريد لا يبقى قادراً ومن يضمن ان تبقى الموازنة بينهما كما هي الآن. ثم من يصدق ان من الممكن ضمان امتناع الحرب بمعادلة، اي معادلة كانت، والى اي درجة يمكن التعويل على حرب باردة او سلم أهلي عام. إن صناع المعادلات هم في الأغلب هواتها، لكن الذين يخافون من الحرب يضيفون الى ذلك خوفهم من معادلاتها.
بعد خروج القوات السورية من لبنان قلنا ان هذه نهاية الحرب. مصدر هذا الحكم ان السلم الذي ضمنته القوات السورية كان في الظاهر تجميد الحرب او النيابة عن الجميع بإدارتها سلمياً، او بعبارة اخرى إفراز نتائج متغيرة ومتحركة لها. نتائج هي غالباً صورية ويبنى عليها وضع صوري. قلنا ان هذه نهاية الحرب مفترضين انها اهترأت في البراد وانَّ وضعا مستجداً غدا معاكساً لها. وأن ما كانت تفعله القوات السورية مؤخراً هو ابقاؤها حية. لا نجازف اليوم بالقول ان هذا التصوّر كان في جملته خاطئاً، وان الحرب التي افترضناها بقيت حية بإنعاش سوري كانت لا تزال حية حقيقة وبقوتها الخاصة. لا نجازف رغم ان التنظير الحالي عن الانقسام اللبناني يلائم كلاما كهذا ويدعمه، والانقسام كما نلاحظ ليس شيئا يمكن إنكاره. افضل ان اجازف بنظرية اخرى مفادها ان تكلس الوضع اللبناني نتيجة كل هذه الاقامة في البراد هو حال لبنان اليوم. ما اكتشفناه هو ان هذا التكلس ليس صوريا، انه عضوي ولم ينشأ من إرادة خارجية فحسب بل ايضا من انبنائها داخل جبلة ملائمة. مع ذلك يمكن الكلام مجدداً عن تكلس يعيق حراكاً ملجوماً لكنه لن يبقيه هكذا الى الابد، تكلس يخطف جماعات ويبقي اخرى في حالة ترقب جامد، وربما يغرق الوضع كله في ردود متكررة. يمكنني ان اتحدث هنا عن تجميد مثابر للحرب وعن صورية نسبية، وبالدرجة نفسها قد يصح الكلام عن دينامية معوقة وتطلب الخروج. سيقال ان مثل هذه النظرية تقوم على ثنائية غير ملموسة، ان الملموس هو انقسام مستشرٍ وعمودي لا يمكن تكذيبه او اعتباره ظاهريا، والبحث عن حقيقة جوهرية في مكان آخر.
ليس لأحد الآن سوى حدسه، سوى عدم تصديقه ان ما يراه يختصر كل شيء. لن نصدق ان هذا هو كل ما لدينا إذا ما قارناه بما يجري تحت اعيننا، التعليم المكثف والصلة المستعادة بالعالم والمفهوم الحديث للادارة والعمل في المؤسسات الخاصة والادارة الأقل بيروقراطية رغم فسادها والفردية واحترام الحياة الخاصة، وثقافة ثلاث لغات بالاضافة الى الاختلاط الثقافي والاتني. كل هذه امور تؤشر لخروج من عالم ثالثية مزمنة، خروج الى مفهوم للفرد وللعلاقات وللثقافة قد يكون في جانب منه فريداً في المنطقة. كان ميشال شيحا يوازن بين محافظة وثقل وتقليدية في جانب الجبل وحرية وانفتاح واختلاط في جانب البحر. أيا كانت قراءتنا الآن لميشال شيحا، فإن هذه المفارقة الغريبة لا تزال قائمة ولا نزال نجر وراءنا حياة مزدوجة او لنقل حياة مزدوجة.
لكن التقليدية تصل الى حد التكلس والاختناق، يمكننا ان نفكر بدون تأكد ان الحياة تجري في مكان آخر، وان هذه الاطر المتكتلة الصلبة هي ما بقي لنا. ثمة ديناميات اخرى لم تجد طريقها بعد الى المستوى السياسي. الانفصال بين السياسة والاقتصاد قد لا يكون الوحيد، السياسة تبدو للآن قلعة للتحجر والتقليد ولم تصل الحياة الجديدة الى مسامها. هذا امر لن يطول حتى يبدأ بالحدوث، فالحراك السياسي لا بد سيوّلد على المدى دينامية جديدة.
مع ذلك يبدو السؤال قائماً، ما يعدّه امبرتوايكو قهقرى وردّة الى الوراء. يراه انصار برلسكوني معاصره وما بعد حداثة وخفة وحركية وانتقاضاً على الاكليركية وعلى الاطر الصارمة للدولة والقضاء والمجتمع. اخشى اننا هنا لا نحتاج الى احتجاج كهذا. لا نحتاج على الاطلاق الى تنظير اوفى للفساد او لانعدام القيم او لانتهاك القانون، الدولة المافياوية والمافياوية السياسية مكتملتان عندنا، ونعلم اننا بفضلهما في الحضيض.
إذا عدنا الى سؤالنا الاول: هل تعود الحرب، فإن نجد أنفسنا امام المشهد الحربي بعينه، كأننا ما قبل المعركة. مقومات الحرب متوافرة، والدولة هشة وتقع بسهولة بين الكتل المتصارعة، والانقسام يدور بالاساس حول المسألة الحربية، مع السلاح او بدونه. ليست هذه وحدها هي مؤشرات العودة، هناك التظاهرات المسلحة والاعتداء على الاشرفية. هناك الصدى الاكيد للحرب الاهلية العراقية التي لا يراها حكام العراق وبعض مثقفيه. هناك العودة الى النقاش الذي ولدت الحرب في غماره: الصراع العربي الاسرائيلي وحق التسلح والدين القومي تجاه العروبة والاسلام. كل هذا يدخل في الحساب، مع ذلك فإن الظاهر قد لا يكون سوى المسرح القديم نفسه. قد نخلط بين تجميد الحرب والحرب. ما فعلته الوصاية يعيد المجتمع فعله، لا تزال الحرب المتآكلة تهديداً فعالاً. لا يزال التلويح بها قادراً على احداث شيء. لربما انتجنا فعلاً مضادات كافية لإبعادها، لكن المنظر لا يزال هو الذي ورثناه ولا يزال ممكنا اللعب بالأدوات اياها. ثمة ما يوحي ان هناك من عناصر الشبك والوصل اكثر مما يبدو، وان امراً كهذا يحتاج الى وقت اكبر لتظهر نتائجه. لقد كنا البادئين بالحرب ربما بهذا الثمن، او لنقل بهذه التجربة، قد نكون اول الناجين منها. هذه مهمة حقيقية، ليكن الحوار في هذا الاتجاه. لا نستطيع كتابنا ان يمروا بدون اكتراث هنا، إذا فعلوا فمن حقنا ان نعترض عليهم وعلى الفن نفسه.
عباس بيضون
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد