مقدمة في تاريخ الجنون السوري (2)
هل الشعب مجنون أم عاقل، هل هو حقاً عارف طريقه نحو المستقبل، كما تقول شعارات المعارضات العربية التي جنحت نحو صحراء (السلف الصالح) الذي يشبه "داعش" ؟ المنطق الفلسفي يقول أن النتائج مرهونة بالمقدمات، بينما نحن لا نعرف من هاذي المقدمات لتاريخ الشعب سوى ما ذكر من أعمال النخبة السياسية والدينية والعسكرية وصراعاتهم المجنونة التي واجهوا بها جنون الأمم الغازية !
الوسائل الوحيدة التي بين أيدينا للاستدلال على ما يكون بما قد كان هو الحفريات اللغوية أولاً والقطع الأثرية المكتشفة ثانياًَ إضافة إلى الحكايات والأساطير المبثوثة في الثقافة الشعبية، ونترك ماهو رسمي لمغفلي المدارس.. لكن وبما أن المعرفة القديمة مازالت مرتبطة بالنصوص المقدسة فلا مناص من أن نفتش في تبن اللغة عن إبرة الحقيقة التي خِيطت بها شيفرة «الشعوب السماوية» بعدما انتشرت دياناتها التوحيدية شرقي المتوسط قبل أن تتمدد على مجمل خارطة العالم القديم والجديد مسببة خلافات كثيرة بين أهل الأرض كما لو أنها وباء تنتشر فيروساته عبر البرامج الدينية في «الحواسيب البشرية» وتستعمرها بشكل مدمر قلّ أن ينجو منه جهاز إنساني، وإذا حصل، فإن البرامج الأخرى تعمل على تدميره أو عزله في أحسن الحالات..
نظم الإنسان السوري القديم حياته على إيقاع آلهته، القمر والشمس، فكان الزمان.. ثم شخصن المكان وجعل له أرباباً ثانوية: الخصب والموت والحب والحرب والثقافة والخوف .. فكان أكثر تجانساً مع ترابه الذي ينبت منه وإليه يعود ليرقد فيه حتى لو كان في أبعد نقطة عن مكان ولادته.. هل تدركون لماذا يعود الإنسان، كما لو أنه سمكة سلمون، ليموت في الأرض البائسة التي هرب منها طوال عمره! إنه سر التراب الحكيم الذي ننتمي إليه فعلاً وليس إلى السماوات السبع التي افترضتها الديانات السماوية ثم أثبت العلم الوضعي انتفاء وجودها..! فسرّ الألوهة موجود على الأرض وليس في الأثير الفارغ إلا من شحنات الطاقة والضوء، وهو يتجلى في عبقرية التراب وقدرة الماء الذي ترف روح الرب فوقه وتتلجلج في طين الكائنات الحية ونسغها كما لا يستطيع عقلنا أن يدرك.. طاقة مبثوثة في المخلوقات وجاذبيتها الأرضية التي تمسكها لئلا تقع فوق بعضها.. طاقة موجودة في الماغما والثروات الباطنية التي نعتاش عليها كما لو أن الأرض جسد الرب التي نتقوت بها ثم ننهبها وندمرها كما لو أننا كافرين..
لهذا كان الإنسان السوري الأول ألصق بترابه ومائه كما لو أنه طين أولي معجون بيد الرب وقدرته؛ طين نقي من كل دنس، ينفخ الرب فيه من روحه فيكون عقلاً وغريزة متصارعين في جسد كما لو أنهما آدم وإبليسه، اللذان ذُكرا في الأساطير اليهودية التي تورطت بها الأديان التالية لها..
فقد بدأ التلوث العقلي مع انتشار الأسفار اليهودية في الديار الشامية، ثم بنت المسيحية عليها كنيستها، لتبني الديانة الإسلامية بدورها فوقهما، حيث قامت الثقافة السورية (السماوية) وبنيت على أساس خطيئة آدم السماوي، الذي كان صنوه الأرضي قد اكتشف القوانين الأخلاقية قبلما يأكل تفاحه المدنس برغبة الخلق والتكاثر، وقد ثبت قوانينه هاذه على"اللوح المحفوظ" ككرت الذاكرة، ونقصد لوح الوصايا التي اعتمدتها الشرائع القديمة قبل أن تأتي الديانات الموسومة بالسماوية لتبني عليها وتؤممها لصالح أتباعها من دون «الأغيار» «الغوييم» «المشركين» الذين وضِعوا جميعاً في سلة واحدة، الكاذبين منهم والصادقين، إلى أن يدخلوا في الدين السماوي الجديد أفواجاً، وبعدها فقط يمكن أن يبدأ تسجيل حسناتهم في دفتر الرب السماوي !؟
وقد شرعنت «النصوص السماوية» لعبة القتل والتقطيع والتعزيز لتوسيع وتعزيز أسوار السياسة والدين على حساب الناس الصالحين بحيث صار الانتماء إلى الحزب السماوي الجديد هو ما يعطيك صفة المؤمن الصالح، وعدم الانتماء صفة الكافر الشرير حتى ولو كنت تمشي على صراط الأخلاق المستقيم!؟ وبات بإمكان الفرد المريض بالكراهية أن يغدو نجماً دينياً يهيمن على أرواح أتباعه ويوجه سلوكهم انطلاقاً من البيت الذي قيل أن الرب يسكنه واسمه كنيس أو كنيسة أو جامع كما ورد في كتاب الرب الذي لا يأتيه البلل من خلفه وأمامه في كل زمان ومكان..
فمنذ ثلاثة آلاف عام بدأ استعمار النص السماوي المقدس الذي تحكم بسائر القطعان وفصل طريقة حياتها تحت سلطة الآب الخفي الذي ينوب عنه الآباء الأرضيون بوكالة شفوية، النص المعمّى الذي يشبه شارحه وفريقه المذهبي أكثر مما يشبه نفسه حتى صار لدينا مذاهب بعدد الفقهاء، أو نصفهم، أو أقل قليلاً، بحيث يبدو مع تقدم الزمن كبيراً كثيرا..
فقبل صدور الكتب السماوية كانت الشرائع الإنسانية المنقوشة على الألواح الطينية مختزلة، بسيطة، واضحة، بمفردات قليلة، وتراكيب غير معقدة، تتناسب وبساطة الحياة الرعوية أو الزراعية، غير أن صدور الكتب السماوية بلغاتها الفصحوية المتعالية التي لا يتقنها سوى الكهان والخطباء، شكل هيمنة صوتية على أسماع وأفئدة عموم الناس من متكلمي العامية غير المقدسة، وبالتالي بات قيادهم أسلس.. كما أن تعقيد التراكيب والكتابة والتشكيل والتنقيط استدعى تدوين علم النحو لضبط العقول على إيقاع النصوص (المفكرة بذاتها) في مجتمع شفوي وأمي، فأنتج علم النحو مجتمعاً محافظاً يميل إلى سهولة النقل والإتباع أكثر من التفكير والإبداع، فتقدم النقل على العقل كلما أوغل الدين وتغلغل في نفوس محازبيه المتشددين، وكان هذا أمراً حسناً في عيون الولاة الاستبداديين وسائر «أمراء المؤمنين» الذين رأى أغلبهم في الاجتهاد (هرطقة وسحراً وزندقة) تستوجب فصل الرأس المفكر عن جسده الذي يعتبر ملكية للطائفة بما فيه قلفة الذكر وبظر الأنثى في اليهودية والإسلام بينما زادت المسيحية عليهما الرهبنة التي تعني إلغاء العضوين المبشرين بالحياة والتفاح ...
ينتمي النص المقدس إلى عمق اللغة المفكرة بذاتها أكثر من انتمائه إلى حركة الحياة خارجه، فهو منذ لحظة صدوره بات في مستنقع الماضي، بينما زمن الإنسان يجري كالماء بعكس اتجاه الماضي ويتقدم عليه بالتجربة، ولهذا فإن ربط الإنسان (غير المقدس) وعقله الجاري في نهر الزمن، بالنص المقدس والمجمد في الزمن، ساهم في فصام عقله الديني عن عقله الاجتماعي، حتى بتنا نرى التاجر في أسواق دمشق يحلف الأيمان الكاذبة وينتج الإعلانات المزيفة لترويج بضاعته، ثم يذهب إلى بيت الرب سواء كان كنيساً أم كنيسة أم جامعاً ليؤدي صلاته بخشوعٍ للربّ شديد بمشاركة زبائنه الضحايا، وعندما تسأله عن مثل هاذا التناقض في سلوكه، يقول لك: ( كل شي لحالو خاي.. الدين شي والحياة شي)، إذ يمكن للتاجر أن يجد له صاحبة أو غلاماً يفترعه، كما يمكن له أن يتجاوز حقوق شريكه وسرقة زبونه لأن «التجارة شطارة» وربه لن يسامحه في فروضه الدينية فيما لو تهاون فيها، بدءاً بالصلاة وانتهاء بالحج والزكاة: "حج مبرور وسعي مشكور وتجارة لن تبور" حيث يمحو ذنوبه بالتبرع بجزء من أرباحه المضاعفة بالخبث.. إنه نوع من الفصام الأخلاقي الذي راكمه استبداد النص السماوي المقدس بأتباعه الأرضيين غير المقدسين..
ف"داعش" اليوم كما "النصرة" التي خرجت من مؤخرة "القاعدة" هي نتاج الكتب العتيقة، ونصوصها المهيمنة، التي خرج منها الخليفة وأمراؤه وجنوده من حيث لا ندري، وكأنه ثقب في الزمان تدفقت منه شخصيات التاريخ الميت لقتل ما تبقى فينا من الإنسان المعاصر الذي تم إنجازه منذ الاستقلال... اسمعوا إلى هاذي اللغة الوعظية المتعالية التي ينطقون بها وهم يتقمصون محمداً وأبي بكر وأبي الدرداء وقتادة والقعقاع.. ليس لديهم أي شيء أرضي يؤسسون عبره لوجودهم الاجتماعي بيننا ككائنات مجهولة سوى القتل بواسطة هاذي اللغة «الجزلة المتينة» والاستشهادات المستلة من «الكتاب» المقدس الذي لا يسمح للشعب بإعادة التفكير في دلالاته خارج السياق الذي وضعه الفقهاء المتراكمين على مزبلة الزمان.. وهنا يكمن مقتلنا في منهج النقل الذي ألغى العقل.. النقل عن النص المقدس الذي يلغي (العقل المدنسّ بالعلوم الأجنبية التي تدرس في مدارس الدولة الكافرة !؟) إنها محنة الإلتزام بالكتب القديمة التي تحتوي على المعرفة المجمدة في ثلاجاتها رافضة الطعام الطازج المقطوف من حقول الفكر والمعرفة المتدفقة في عقول المبدعين ونسغهم الأخضر.. وبالتالي فلعل أفضل ما تعرض له العرب هو إقدام المغول والتتار على رمي كتب مكتبات بغداد في نهر دجلة حتى تلون ماءه بلون الحبر حيث خلصنا مجانين الغزاة من بعض غذائنا المجمد، فما تبقى منه في (الكتب الصفراء) التي يعنى السلفيون بطباعتها كان كافياً لإعادة تصدير الأفكار الاتباعية للسلف الصالح والمطيعة للولاة والحكام في الوقت الذي حجبوا فيه الكتب التي تحتوي أفكاراً متمردة قد تقدح شرار العقل العربي الإسلامي..
ولكن ما هو الغذاء الذي كان يتقوت به العقل العاميّ ولغته اليومية للموازنة مع عقل الفصحى المقدس؟ ألف ليلة وليلة ـ الزير سالم ـ دليلة والزيبق ـ تغريبة بني هلال ـ سيف بن ذي يزن ـ خرافات الأنبياء وقصص المتصوفين والأولياء وغيرها من حكايات ما قبل زمن الطباعة وأوائله، فيما تبنت الدولة السورية الأولى، بعد تعريب المناهج الدرسية الذي جرى أواخر أيام الحكم العثماني، لغة قريش المقدسة ودين الإسلام الأموي، على الرغم من انقراض بني أمية ومؤيديهم قبل قرون سحيقة على يد العباسيين، وعدم استخدام لغة قريش في التواصل الإجتماعي، وذلك كردة فعل على سياسة التتريك والفرنسة الاستعماريتان، أي أنها اعتمدت لغة وثقافة الغزاة العرب الجنوبيين بديلاً لثقافة الغزاة غير العرب الشماليين، وتجاهلت في مناهجها المدرسية التنويه للثقافة الشعبية المتجذرة في تراب الناس ولاوعويهم العميق، إذ ربطت العروبة بالإسلام ولهجة قريش التي كانت لغة الإذاعة والتلفزيون والمسرح وحتى ترجمات الأفلام الأجنبية حيث كان أبطال هوليود يتحدثون بلغة قريش بفضل حكام البعث ومن قبلهم آباء الإستقلال الذين كانوا محكومين بالإنعكاس الشرطي ضد الإستعمار الفرنسي ومن قبله التركي والمملوكي ليشكلوا مستقبل «رد الفعل» السوري بدلاً من ابتداع ثقافة معاصرة تواكب حركة التقدم الإنساني.. كما تم ربط فنون الثقافة الغربية المستوردة بإشارات تمتد بجذورها إلى الثقافة العربية، فراحوا يفتشون عن الإشارات المسرحية والروائية والسينمائية وحتى العلوم الفيزيائية في النصوص العتيقة لعرب نجد الأقحاح كنوع من الإنكار لتفوق الإستعمار الأجنبي !؟
وبالعودة إلى ظروف تشكل العقل العامي المنفصل عن العقل الرسمي (الفصيح) فقد كونت ألف ليلة وليلة جزءاً من مخيال الفرد السوري بينما «مجروية الزير سالم» شكلت نمط شجاعته الفردية، أما ثقافته الدينية فكانت أسيرة فهم إمام الجامع للإسلام الذي يختلف عن فهم إمام الجامع المجاور، الخطيب الذي أخذ اسم مهنته من فعل الخطابة بالفصحى مدعماً عظاته غالباً بحكايات مجتمع الصحراء العربية الذين أبدعت لغتهم أربعين اسماً للناقة ومذكرها الجمل الذي سميت باسمه أيضا أشهر حروبهم الأهلية.. وقد استمرت ثقافة بيئة الجمال الى زمن استيراد الترين الذي سمي قطارا على اسم قافلة الجمال كما سمي التلفون هاتفا أي صوت الجن وصولا إلى النت الذي أطلق عليه اسم الشابكة.. وهكذا امتلك السوري عقلاً مجزءاً غير متجانس، إتباعي لا إبداعي، لغوي لا علمي (كائنات مسلسل باب الحارة وحارة الضبعة المعادي نموذجاً)... إلى أن دخل الاستعمار الفرنسي بمدارسه ومشافيه وكهربائه التي مددت على عُمدٍ، وهندسته المعمارية التي امتدت شبكاتها الصحية تحت الأرض بعدما كانت مكشوفة في العراء كما في بغداد اليوم.. فكانت الصدمة من براعة الغازي وثقافته الجديدة المنفلتة من عقال النصوص المقدسة: إعجاب ممزوج بالكراهية والغيرة من هؤلاء «الكفار» الأنجاس، الأمر الذي دفع الأثرياء إلى إرسال أولادهم إلى جامعات ومدارس «الحرية» التي أوجدها الانتداب الفرنسي، حيث تخرج الأولاد منها ليقودوا حركة الحداثة في المجتمع والدولة الأولى لسورية «الحرة» إلا قليلا !؟
غير أن الأبناء لم يفلحوا في قيادة سفينة بدفتين متعاكستين: شرقية شرعية، وغربية علمية، فأنتجوا دستوراً للدولة وقوانين للأحوال الشخصية، تمد رقبتها نحو الحداثة لكنها محكومة بطول رسن الشرع.. فلم يتفق أهل السفينة الإخونجية البعثية الشيوعية القومية الناصرية السورية: هل يتقدمون نحو الغرب أم يرجعون إلى ماضي الشرق، وبات الفرد السوري المسافر في يومه يعيش حياتين مزدوجتين: حياة المنزل وقوانين الأسرة الشرقية المحافظة، وحياته العملية خارج البيت، والتي تعرضت في معظمها لحركة التحديث والتغريب، في المدرسة والمؤسسة والمصنع والمزرعة.. كما بات يتحدث بلسانين ويسمع بلغتين من جذر عربي واحد: الفصحى الرسمية في الجامع والإعلام والخطاب الرسمي، والعامية الشعبية في حياته الحقيقية والطبيعية، الأمر الذي هيأ لفصامه ساعة بعد يوم وشهراً بعد سنة وأوصلنا إلى الجنون التام في خطاب «الثورة السورية» التي يديرها الإسلافيون ويشارك فيها ماركسيون جنحوا نحو طوائفهم في غفلة من العقل اختلطت فيها ذقن غيفارا مع لحية الخليفة أبي بكر البغدادي في كثافة من الشَعر غير المشذب آيديولوجياً..
وبالعودة إلى سيرة «الزير سالم» التي يختزل بطلها انتفاخ الديك السوري، كما تجسدها مسلسلات البيئة الشامية، لنتأكد من قدرة السوري على القتال ومقارعة الاستعمار، ولكنه بعد انتهاء الحرب غير قادر على تجديد بنائه الإجتماعي ومراكمة تمدنه واستحقاق مكتسبات الحداثة بيديه المقيدتين إلى توجهات شراح النصوص المقدسة، حيث الشرح يستدعي الشرح إلى أن يبتعد المعنى عن النص الأساسي ويبعد جمهوره عن جمهور غيره وكلا الجمهورين يقفان في الزمان ولا يتقدمان في المكان، ومن طول الاستنقاع يبدأ الفريقان بالتناطح على المصالح والتفاخر حتى في المقابر.. «ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر» ..
أما بالنسبة لسايكولوجيا المرأة الشامية فهي أقرب إلى حكايات «ألف ليلة وليلة» كما ذكرنا بحيث أتخيل أن مؤلفها امرأة، امرأة تاجر أو جُلَّاسة في حمام السوق تجمع الحكايات الخرافية التي تشبه الواقع غير الواقعي لأمة توقفت عند قراءة أول كتاب جمعته ولم تقرأ بعده شيئاً رغم أن كتابها هاذا يبدأ بأمرهم بالقراءة: إقرأ !؟ فألف ليلة وليلة تنضوي على ما لم نعرفه حول سايكولوجيا المرأة المحكومة بشبق ديكها كما لو أنها دجاجة، الأمر الذي يضطرها إلى ألاعيب «الحريم» حيث تنشأ الفتاة كريحانة في أصيص ذكور العائلة وتنتهي إلى قهرمانة تقهر الرجال بعدما ينتهي دورها الجنسي وتغدو الأم الكبرى تيامات «تيتا» تحكم رجال الأسرة وتحركهم كما في حكايات «دليلة والزيبق» الشعبية.
وهكذا عاش السوريون في سلسلة انتدابات لا تنتهي: انتداب عسكري ـ انتداب ذكري ـ انتداب نسوي، هاذا عدا الانتداب الطائفي والإثني الذي يسوّر الجميع بدائرته المغلقة كسور دمشق العنصري قبل الإستقلال، باستثناء الانتدابات العسكرية التي كانت تمد يدها دائماً نحو حداثة الغرب للحصول على سنده وأدوات قوته، فكانت حداثتنا من أسفٍ ثمرة العسكر لا المثقفين التنويريين، لهذا بقيت مقتصرة على استيراد التكنولوجيا دون الإفادة من الثقافة التي مهدت للنهضة الغربية، حيث عطل العسكر ورجال الدين عمل التنويريين وأبقوا على هيمنة النص واللغة والسلف الصالح وراحوا يفتشون عن بذور الحداثة في متاحف الأمة وغبار موتاها، فاختلفوا مجدداً حول شرح النصوص المقدسة بينما لم تشكل (ثقافتهم العامية) أي خلاف بينهم بحد علمنا بعد، وهكذا حصلنا على مدينة إسبارطة العسكرية بدلا من أثينا الثقافة !؟
إذاً يمكننا القول أن الازدواج اللغوي كان مقدمة للخلاف العقائدي، حيث كانت لغة الغازي القرشي هي ما يحكم الخطاب السياسي الرسمي المحافظ، ولأن شجرة قريش البعلية لا أشجار السوريين المروية هي ماظلل رؤوس المواطنين، منذ أن نقب خالد بن الوليد سور دمشق وتسوّر الجنود حياة المدنيين، استمر استيراد النخبة الحاكمة من البيئة الصحراوية، أي أن الانتداب الاستعماري كان سائداً منذ ما قبل السلوقيين وحتى انتداب الفرنسيين، وكذلك اللغات الرسمية الحاكمة، لم تكن أبداً هي لغة الشعب (العامية) التي أنتجها السوريون عبر آلاف السنين !؟
تاريخ الخطأ السوري
الإنسان منظومة لغوية تتشكل من مجمل الحكايات التي تحرك برنامجه الزمني: حكاية الأسرة والطفولة الأولى، الحارة والبيئة الحاضنة، الطائفة ورجالاتها، المدرسة والمعلمين والرفاق، حكاية الأعداء والأصدقاء وغير ذلك.. وهي تجتمع كمصفوفات داخل برنامجه العام وشيفرته الوراثية، فيأتلف ويختلف مع باقي المجموعة التي تشكل بيئته الإجتماعية بحسب تشابه وتقارب حكاياته معهم، بحيث يمكن القول أن الحكايات الرئيسية التي يشترك بها مجتمع ما هي ما يشكل هويته الأساسية إلى جانب اللغة والمصالح والعصبيات والتاريخ والمشيئة المشتركة بالإضافة إلى ذاكرة الألم الجمعية التي تغذي دائرته العصبية، حيث نجد لدى كل مجتمع هولوكوسته الذي يحرك خوفه وردود أفعاله، نوعٌ من الفوبيا العامة التي تصب في حالة الجنون العام وتعرقل التلاؤم وتماسك الشخصية الإجتماعية.. وحتى نفهم القسم الأكبر من بنية عقل عامة المجتمع السوري لابد من العودة إلى قصصه الشعبية الخالدة، والتي يمكننا تقسيمها إلى فئتين، مؤنثة أنتجتها ذاكرة النساء الشفوية، ومذكرة أنتجتها حاجة الرجال إلى الفخر وإظهار القوة الديكية.. وفي حين تمثل «سيرة الزير سالم» و«سيرة بني هلال» و«سيف بن ذي يزن» عالم التبجح الذكوري، تمثل «ألف ليلة وليلة» و«دليلة والزئبق» عالم التشويق والمراوغة النسوي، هذا عن ا لذاكرة الشعبية المخزنة باللغة (العامية) داخل مصفوفة كل فرد، أما الذاكرة الرسمية فهي مخزنة باللغة القرشية (الفصحى) وتتمثل في الحكايات الدينية والسياسية للسلطة الأبوية القاهرة للمرأة وعامة الناس المحرومين من حظوة استخدامهم للفصحى من على منابرها المقدسة، إذ يمكننا وسم ذلك بالطبقية الجنسية التي أضافت دائرة أخرى إلى مجمل الدوائر العنصرية للعصبية الشرقية، حيث ناست الشخصية السورية واهتزت بين خطابي الفصحى والعامية في الذاكرة الجمعية، إضافة إلى تأثير الثقافات الغازية القادمة مع سنابك خيول الأعداء لتقرع أبواب السوريين مع كل حقبة جديدة، حيث يضطر الفرد باستمرار إلى إعادة النظر في ترتيب عقيدته وأخلاقه لتناسب مصالحه، الأمر الذي مهد لظهور فلسفة التقية والمراوغة بغية موازنة حياته القلقة، ولكن إلى حين ينحشر في الزاوية ويغدو مضطراً للمجابهة على مبدأ «إذا هِبت أمراً فقع فيه»..
إذاً وفي الوقت الذي كانت تشكل فيه اللغة القرشية، القوية الجزلة والصائتة المقلقلة والمقعقعة بغنّة ومن دون غنّة، لسان نخبة السلطة المستبدة، مثلت اللهجة العامية ماء الشعب الذي يسبح فيه الجميع: سرد مبسط وسلس، تقريري ومباشر يذهب إلى دلالته مباشرة دونما مخاتلة أو مواربة مجازية، وهي لغة ذات اتجاه واحد في التفسير، ولو نقلت لها الشرائع لما كنا تورطنا بكل هاذي المذاهب التفسيرية التي شرذمت الأمة.. إذاً فقد تحولت النصوص الرسمية المقدسة إلى منظومة منفصلة عن حداثة الحياة في العصور المتعاقبة، وهي منظومة تتحكم بحامليها وتحركهم كما لو أنهم عبيداً تابعين لا مبدعين فاعلين، وهكذا تأخرت استحقاقات شرق المتوسط الإنسانية أمام نهوض الغرب الاجتماعي وتطوره اللغوي والثقافي الذي أنتج مفهوم المواطنة ومنظومة الجمهورية العادلة..
فمن خلال التنقيبات اللغوية والدلالات الحكائية يمكننا أن نغور عميقاً في الشخصية السورية، حيث تمتد حفريات الفصحى لمسافة أربعة عشر قرناً بينما لا نعرف عمق العامية وقرارها، ولكنها أقدم من لهجة قريش بالتأكيد، فلهجة قريش كانت لغة الرب المسلم ووكلائه في الشام، بينما تمتد العامية إلى ما قبل الرب المسيحي واليهودي اللذان استعبدا السوريين بنصوصهم المقدسة أيضاً ردحاً من الزمان.. وقد ساهم هاذا في ازدواجية الفرد السوري، الكاذب في صدقه، والصادق في كذبه، إلى درجة اختلاط المسائل الأخلاقية وموازينها في تقسيمات عمره، طفلاً وشاباً وكهلاً؛ وفاقم الأمر آباء الاستقلال ومن ثم سادة البعث في سياسة التعريب كرد فعل شرطي على سياسة التتريك والفرنسة، حيث أُبعدت العامية عن المشاركة في مصير الشعب ليغدو أفراده مثل سمك خارج ماءه يلعبط في صحن الحاكم قبلما يتغوطه عبر أمعائه الثقافية الغليظة والدقيقة دونما اعتبار لبنية الخطاب التي شكلت ذاكرته، إلى درجة يمكن القول معها أن التمثلات اللغوية المختلطة قد شربكت جزءاً من ذاكرة الفرد وذكائه وجعلت منها أقانيم معرفية منفصلة عن بعضها، الأمر الذي أثر سلباً على وحدة هوية الشعب السوري في الزمان والمكان..
لغة النصوص المقدسة إذن كانت أداة الدولة ومؤسساتها (الرشيدة) ونخبها الفريدة للسيطرة على عامة الشعب، لغة عقاب دونما ثواب، استخدمت لشرعنة القتل الرسمي وتزييت دواليب السلطة التي جعلت من آيات الكتاب المقدس غمداً لسيفها ومن الشراح والفقهاء يداً تمسك بقبضته، فكان الولاة يستخدمونها ضد بعضهم كما ضد رعاياهم بفضل براعة الفقهاء والشراح وفتاواهم السفسطائية التي مازالت تجتر نصوصها مثل جمل يلوك عصفا مأكولا.. وهاذا يعيدنا إلى المقدمة، من أن الرب الخالق لم يصدّر كتبه بلغات البشر، وإنما أوحى بها رقميا للرسل والأنبياء، فحملت معها أخطاء البشر وتشابك لغاتهم وتفسيراتهم المتضاربة مع بعضها حيث انقسمت (إسلاميا) بين حكايتين لأسرتين متنافستين: حكاية آل البيت النبوي (هاشم) للإسلام الروحي، وحكاية أمية التي أعادت تجميع نصوص الكتاب وشرحها وتفسيرها المناسب لاستمرار حكمها، إلى أن غدا الإسلام المنفصم إرث الكراهية والتنافس لا المحبة والتكامل، وصراع الفصائل الإسلاموية على أرض سورية اليوم خير مثال..
تلاقي الجذر البعثي العلماني مع الإخونجي السلفي:
تبنى البعث الرسالة الخالدة للأمة العربية الواحدة، كما تبنى الإخونجيون الرسالة الخالدة للأمة الإسلامية الواحدة، وعندما تحدثا عن الأمجاد الإمبراطورية للأمة التي ينتميان إليها تشاركا الحكايات نفسها باللغة القرشية النحبوية نفسها، فالتقيا عند دولة أميّة المنقرضة بسيوف الدولة العباسية، ولكن كان لكلا الفريقين صورة خاصة لأميّة العربية الإسلامية، وهنا يكمن خطأ الآباء المؤسسين للبعث الذين لم يستشرفوا مصيره السلفي الذي وصل إليه في الموصل اليوم كما في مدينة الرقة، حيث غدا البعث النقشبندي جزءاً من داعش الخلافة الإسلامية، تماما كما تنبأت في جريدة "السفير" يوم سقوط بغداد تحت سنابك الدبابات الأمريكية حول حتمية نشوء «البعث العربي الإسلامي» وأنكر القراء والأصحاب كلامي..
فقد تنافس كلا التيارين على عباد الله الفقراء لينتجوا أحزاباً علمانية أودينية، ولكن كليهما كان أصولياً سلفياً غير قابل للتغيير على الرغم من تمثل البعث لآيديولجيا القومية الشوفينية والجمهورية العلمانية، وانتهى الإسلاميون أيضاً إلى تبني الجمهورية الدينية المغلقة على الطائفة السنية دون التفرعات الإسلامية والتي وسمت بالأقليات احتقارا لشأنها، وابتعد كلاهما عن تطبيق مفهوم المواطنة على الرغم من اتفاقهما على تبني لعبة صندوق الانتخابات على الطريقة الغربية، في الوقت الذي كان فيه تاريخ الحكم العربي يعتمد مبدأ الشورى (العمرية) والإنقلابات القرشية لا تقنية الانتخابات الديمقراطية، وكما انقلب الصحابة على بعضهم من قبل انقلب البعثيون، كما الإسلاميين، على بعضهم واعتمدوا جميعاً تقنية الشورى المغلقة على النخبة القرشية دون عامة (المهاجرين والأنصار) ضمن لعبة: نحن الأمراء وأنتم الوزراء.. واستمر الخلاف البعثي إلى أيام صدام والأسد والخلاف الإسلامي إلى أيام أبي بكر البغدادي وأبي محمد الجولاني.. إنها جذور الجنون المقدس الذي راكمه شراح النصوص المقدسة عبر التاريخ المقدس لكائنات الإفتراس المقدس بعد التكبير باسم ربهم القدير على خروف اسماعيل الذي أكلته النار السماوية المقدسة ..
أما بخصوص بقية التيارات السياسية التي ظهرت على الأرض السورية بعد الاستقلال، فإنها كانت أيضاً حبيسة اللغات الأوروبية ومترجميها إلى العربية، إذ اتكأ القوميون السوريون على ما يقوله المنقبون الأثريون في دوائر الاستشراق عن تاريخنا السوري القديم اعتماداً على ترجمتهم لنصوص اللغات السورية المنقرضة، بينما حاول الشيوعيون تمثل نصوص الماركسية اللينينية المقدسة اعتماداً على الترجمة الروسية المترجمة بدورها عن اللغة الألمانية، فأنشأوا ماركسية طائفية أكثر منها ماركسية لينينية، فاختلفو مع بعضهم وانشقوا عن قياداتهم قبل جمهورهم وذهبو إلى السجون التي كانت تحتاج إلى نزلاء كيما تكتمل ثورة البعث المظفرة .. سجون كانت أشبه بمشافي الأمراض العقلية في القرون الغابرة حيث كان الممرضون يعذبون المرضى لطرد الجان من أجسادهم..
الثورة التركمانية
الغزاة السلاجقة من أتراك وتركمان عثمانيين تبنوا عقيدة الإسلام، بعدما كانوا وثنيين، لتسهيل حكمهم لشعوب تسير بهدى كتاب وآيديولوجيا توفر كامل السيطرة عليهم لمن يتوغل في ثقافتهم ، فكان إسلامهم سطحياً وتصوفهم بليداً وكسولا، فلم يقدموا لأمة العرب والإسلام أية إضافة سوى أنهم جمدوها في الزمان والمكان حتى استنقعت وأسِنت، وعندما اندحروا بعد 400 سنة من الحكم المتوحش استعاروا الثقافة الأوروبية واستبدلوا الطربوش بالبرنيطة دون أن يغيروا بنية تفكير ما تحت القبعة، فنامت العثمانية قرناً من الزمان بقوة العسكر ثم استيقظت فجأة مع حكومة الإخونج الأردوغانية على حلم استعادة الخلافة العثمانية انطلاقاً من سورية.. وهكذا انقلبوا فجأة ضد جارتهم دمشق وشاركوا بقوة في «الثورة السلفية السورية» بواسطة التركمان الذين شكلوا المكوّن الأكبر في التمرد على الحكم العربي في العراق وسورية، بينما شكل إسلاميو الخلافة المكون الثاني فيها دونما أي خلاف ظاهر بين المكونين، وكان من الطبيعي أن تنشق غالبية العناصر الإسلاموية والتركمانية عن جسد «الجيش العربي السوري ومؤسسات السلطة» إلا قليلاً من المتنورين التركمان الذين لم ينساقوا في اللعبة وظلوا أمينين لسوريتهم التي أسهموا فيها كرؤساء ووزراء ومسؤولين ومواطنين ..
فقد تابعت بنفسي الملف التركماني، باجتهاد شخصي ومباركة رسمية، لاستعادة التركمان إلى داخل الدائرة السورية، بدءاً من مدينة اللاذقية، لاكتشف بعدها حجم المكون التركماني في التمرد السوري، بدءاً من الجولان مروراً بحوران فحمص فحماه فاللاذقية فإدلب وسائر البلدات والقرى المتاخمة للحدود السورية التركية وصولاً إلى تركمان الصين «الويغور» الذين تحرضهم العثمانية الجديدة للإنفصال عن الصين في دولة تركمانستان الشرقية، كما تأكدت من أن مجمل التركمان غير الشيعة هم من أصحاب النزعة العثمانية التي تسمي الاحتلال فتحاً للبلاد العربية ، تلك التي شكلت أحياء أشبه ب «الغيتو» داخل المدن والقرى السورية بعد اندحار الإمبراطورية العثمانية، رافضين ضمنياً الإندماج مع المحيط الوطني الذي تشكل بعد الاستقلال واندمجت فيه مجمل القوميات والطوائف السورية.. وقد ساعدت سياسة التعريب الشوفينية التي اعتمدها غلاة البعثيين على تنامي النزعة التركمانية والكردية والشركسية في المجتمع السوري والعراقي عندما أصروا (بحسن نية) على تعريب الحياة المدنية بما فيها أسماء المواليد والدكاكين وحتى المطاعم والكباريهات والماركات الأجنبية، وكان التعريب على الطريقة الأموية بالطبع.. الفصحى والفصحى القرشية فقط، تماماً كلغة خطاب أمراء وخلفاء العصابات الإسلامية التي تلوث كامل الأرض السورية اليوم بتخلفها وبراغيثها وأشلاء ضحاياها الأبرياء.. وبالتالي فقد اختلط الأمر عند عامة الجمهور: هل هو بعث للإسلام الأموي أم بعث للمستقبل العربي واستثمار للعقل المتحرر من إرثه السلفي .. ونكمل..
--------------------------------------
1- وصل عدد المجاهدين «الويغور» القادمين من «تركمانستان الصينية» لنصرة إخوتهم في سورية إلى المئة بداية 2014.
2- شكل التركمان السوريون العنصر الأساسي في الاستثمارات التركية في سورية قبل الأحداث وأغرقوا الأسواق السورية عموماً والحلبية خصوصاً بالبضائع التركية الرخيصة التي أضرت بالصناعة الوطنية بتشجيع من السلطات البعثية التي نافقت بدورها لرأس المال الخليجي السعودي.
التعليقات
كم أتمنى أن تدرج هذه المقالة
سؤال..عن الشعب المجنون
انه التاريخ خخخخخ
وجهة نظر
قهرمانة
ممتازة. أنت تضع اصبعك على شيء حقيقي
لا تاريح بعد اليوم و لا لغة
القانون
الناس على دين ملوكهم!
المنشطرون عمودياً
خربشات على هامش الهامش ...
كونداليزا رايز في زمن الروز رايز
إضافة تعليق جديد