الاسلام.. بين المجتمع والسياسة
1- النظام الاسلامي
على غرار المجتمع العربي، القبلي والعائلي، جاء البناء الهرمي للاسلام كمنظومة سياسية سيادية على أساس ديني اجتماعي؛ مستمداً قوته من قمة الهرم بما تتمتع به من صلاحيات وآليات تحكم وسيطرة، واستقراره رهن بقوة الجالس في القمة ومدة استمراره في الحكم. ونستشف من مراجعة التاريخ أن قوة السلطة الاسلامية واستقرارها اقترنت بفترات محددة متفاوتة بينما كانت القلاقل وحركات التمرد رهينة بضعف الحاكم أو كثرة تبدله. فبعد الاستقرار النسبي الذي اعقب ولادة الدولة العربية على يد الرسول محمد، ترك موته حركات تمرد وقلاقل استهلكت كل حكم الخليفة الأول وعقب الاستقرار النسبي أيام عمر وبدايات عثمان، فان الاضطرابات والفوضى استمرت حتى سيطرة معاوية على مقاليد الأمور. وكان الاستقرار أيام العباسيين رديفاً بأبرز حاكمين فيها ، هارون الرشيد والمأمون الذين استمر حكم كل منهما أكثر من عشرين عاماً. وتمثل الاضطرابات والتمرد والقلاقل الوجه الثاني لمبدأ مركزية العنف الذي يقوم عليه هرم السلطة، فتخلخل قبضتها يعطي للمحكومين فرصة التحلحل والتحرك والتعبير عن الرأي. ومن خصائص البناء الهرمي للسلطة أن وجود النظام وخصائصه يتم رسمها من قبل شخص الحاكم وحاشيته. وبالتالي فلا وجود للثبات في أسس هذه الدولة وخصائصها السياسية والايديولوجية التي تبقى رهن التغير بتغير واجتهادات الحكام التي لا توجد سلطة تردعها أو تراقب قراراتها. والاسلام، بهذا المعنى لم يكن واحداً على العموم في عهود حكمه المختلفة. ان اتخاذ الاسلام دينا سياسيا سلطوياً ترتب عليه تحمله تبعات السياسة وتقلباتها التي لا تتناسب مع شريعة دينية تستمد مصداقيتها من خصائص الثبات والعدالة والمساواة في تطبيق أفكارها والتصاقها بحياة الانسان. بينما تبع التصاق الاسلام بسلطة الدولة تسرب آلية العنف في المسائل الدينية. ولعل الدين الاسلامي الوحيد بين الاديان الذي يعتمد قائمة عقوبات جسدية ونفسية في تلافيف النص الديني، وهذه العقوبات ليست في جوهرها ومظهرها غير عقوبات دولة سياسية اجرائية، ولا يوجد ما يبررها على صعيد الثقافة الدينية أو السياسية. الولاء المطلق الذي يلزمه الدين الاسلامي للخالق، يردفه بالولاء والطاعة لشخص الحاكم السياسي، مهما اختلفت مسمياته وأهيلت عليه من ألقاب دينية مجانية، بدء من الخليفة وأمير المؤمنين أو حامي حمى الاسلام إلى الحاكم بأمر الله وما إلى ذلك. فساوى الاسلام الدين بالدولة، له ما لها وعليه ما عليها. فلا غرو أن تلحق به بعد ألف وأربعمائة عام من التبعات والترسبات الثقيلة وتركة الارهاب ، ما كان غنيا عنه لو انتهج سبيلاً خاصاً به ونأى بنفسه وبمبادئه عن ترهات السياسة وصراعات المصالح الشخصية.
وكان من مضاعفات هذا التداخل، أن حركات المعارضة السياسية والتمرد على شخص الحاكم السيء أو السياسة غير السليمة، أن تتحول إلى حركات معارضة دينية وتمرد على نظام الدين وقانون معاملاته. من الضروري اليوم مراجعة الحركات التي ظهرت خلال الحكم العربي في مختلف عهوده وتفكيك العوامل الدافعة والأهداف المرجوة التي طالبت بها، لندرك أنها كانت ردّاً على الفساد السياسي والاداري لتلك الحكومات وما شاع فيها من محسوبيات واكتناز للأموال وسوء استخدام السلطة وتسخيرها للمآرب الخاصة، مما يتنافى أصلاً مع الجوهر الديني للاسلام الذي جاء رحمة للمسلمين. تفكيك الآليات السياسية والحكمية والفصل بين النظام السياسي العربي والنظام الاسلامي ضرورة ملحة للنجاة ببردة الدين من مهاوي السياسة المتردية. وما يسمى اليوم بالخطاب السياسي للاسلام، وعودة الجماعات السلفية أو الأصولية والتطرف والارهاب، ليست سوى حركات تمرد ومعارضة ضد النظام السياسي العربي المتهرئ والذي بلغ بالشعوب العربية أسفل السافلين وما يزال يناضل للاحتفاظ بالسلطة والتسلط دون أي اعتبار للمطالب الشعبية ومستلزمات التطور ومسؤوليات الحاجات الأساسية للمواطنين الذين تزداد ظهورهم انحناء ليزيد الحكام امتلاء وخيلاء. موجات الاسلام السياسي انما هي حركات سياسية معارضة من داخل الأنظمة الحاكمة المتبجحة بالدين، ولا غرو أن يعود منشأ معظم تلك الحركات، إلى معاقل التسلط السلفي الجامدة فتتولى توجيهها نحو الخارج لتبرئة نفسها، ولو إلى حين.
2- الاسلام واليمين المناوئ
تصنيف مبادئ الدعاية الاسلامية الأولية، المتمحورة حول المساواة والعدالة الاجتماعية وحقوق المرأة ومحاربة الظلم والعبودية، يضع الاسلام في صدارة الحركات اليسارية في مسيرة التطور الاجتماعي، ولكن واقع الحال، المقترن باقتران الدين بهيكلية الدولة والسلطة القائمة على العنف والاغتصاب، جعل من تلك المبادئ والدعوات مجرد شعارات فضفاضة مجردة من المضمون المادي. ولعل من وجوه الاشكالية الدائرة بين المثقفين ورجال الدين أن أي نقاش أو مجادلة أو نقد اجتماعي سياسي، يتم مواجهته وتفنيده بالمستوى الأول بنصوص تشريعية أساسية من القرآن والسنة، بينما يتوجه النقد لسياسات راهنية من قبل نظام يلصق بنفسه صفة الدين، فيعمم مساوئه على الدين كله، ولا يجرؤ رجال الدين، الذين يقفون في حاشية النظام السياسي من تأشير المغالطات والاعتراف بالسياسات الفاسدة، وبالمقابل، يتم اللجوء للعنف، فيصطبغ الدين بالارهاب السياسي وتتعقد الأمور بدل الانفراج والاستنارة.
ان مسألة مدى مطابقة أنظمة الحكم اليوم لجوهر الدين مفارقة أخرى، ليس هذا مجالها!.
المهم هنا ذلك الافتراق التاريخي الذي مسخ الحركة الاسلامية منذ المراحل الأولى. بين المبادئ الاجتماعية الانسانية التي مثلت جوهر الدين ومبرر ظهوره واشتداده خلال فترة وجيزة، وبين التيارات اليمينية المحافظة في المجتمع العربي التي بذلت وسعها لحرف الاسلام عن توجهه الاجتماعي وصياغته بما يخدم مصالحها الضيقة.
ان الخلافات التي واجهت ظهور الاسلام، ثم طفحت عقب وفاة محمد، تجد صورتها في صورة توازنات المجتمع المكي وخريطة الموازنات القبلية قبل الاسلام. ان مراكز النفوذ التقليدية للمجتمعات القبلية العربية لم تستسلم أمام محمد؛ ولكنها ساومته في اتجاهين: المسايسة وتقديم الدعم المالي لضمان تحقيق مكاسب في حال النجاح والتوفيق؛ المعارضة والحرب الشديدة لافشال الحركة وتصفيتها، ممثلة ببني عبد شمس. وذلك يعكس من وجهة نظر أخرى أن خريطة تقسيم النفوذ استمرت تمسك بالخيوط، ومع اشتداد أنصار محمد من المتضررين، وسيطرته على قريش، لم يهرب بنو أمية ولم يتعرضوا للقتل لمعارضتهم الدين الجديد وتسببهم في مقتل المسلمين، وانما حظوا بنفس التقدير الذي حظى به أنصار محمد من شيوخ قريش. هذه المساواة وتقسيم مكاسب النصر بين حكام قريش بالتساوي، كان أول تراجع في مصداقية الحركة الاجتماعية الجديدة، لصالح استمرار هيمنة مراكز النفوذ التقليدية، ووضع الثغرة التي أولغ منها الخنجر في قلب الحركة الجديدة حتى الأبد، باستفراد بني أمية بالحكم لاسلامي وهم الذين حاربوه حتى آخر لحظة. هذا التراجع، أضعف من قوة محمد السياسية من جهة، وكان المسؤول أمام بدء تزايد النفوذ التقليدي في أيامه واشتداده بعده لافراغ الدين وتحويله إلى آلية مجانية للحكم الشمولي بعد أن أسس محمد لبنة الدولة العربية الموحدة التي استعصت قبله على الكثيرين،ورسخت سيطرة قريش السياسية والاقتصادية والدينية على مشارق الأرض ومغاربها بعد أن كانت محسورة في أطراف الحجاز، بينما تم تهميش عائلة النبي والقائد محمد خارج آلية النفوذ حتى الأبد.
وللتيار التقليدي اليميني المحافظ الذي سيطر على الدين الجديد ووضعه في خدمته، يرجع الفضل في الجهد الأدبي، الفقهي والسياسي، لأدلجة الدين الجديد والنظام الجديد وفق مرتكزات حرصت على تبوء قدم لها في النص التشريعي القرآني أو النبوي، والقدم الأخرى في منظومة النفوذ التقليدية القبلية. وما اعجز الحصول عليه في التشريع الأساسي أمكن الالتفاف عليه بما يزيد على ثلاثة آلاف حديث نبوي موضوع مسند بتمحيص المصادر الاجتهادية. وهكذا تعرض الاسلام كأيديولوجية سياسية دينية لما تتعرض له الأحزاب والأيديولوجيات المعاصرة من محاولات التفاف ومراوغة ومسخ وانشقاق، بقي الفكر العربي يتحاشى التطرق إليه وعلماء الدين المعنيين يغضون النظر عنه، لاتقاء غضب الحاكم المستبد وادراكهم عمق الجراح والآثار التي قد لا يمكن تلافيها.
وكما اليوم، كان لكل زمان ومكان، من الحكام المستبدين، خدم وحاشية من رجال الثقافة والفلسفة والدين، من تضع نفسها وعلومها، طواعية أو قهراً، في خدمة الاستبداد نجاة من سيفه. فوضعت المؤلفات الكبيرة في جوانب السياسة والسيرة والدين، في الفقه والتشريع والتاريخ والمجتمع، ما أريد به المحافظة على الدولة والدين من الضياع والتحلل، ولكنهم، وإن دعموا وجود النظام السياسي، فانما خانوا ضمائرهم واستهانوا بالأمانة العلمية والرسالة الاجتماعية وجوهر الدين. أن ما يسمى اليوم بثقافة السلطة انما يعود لتلك الأيام وما يزال ينعكس في كلمات الأهداء والشكر التي تستهل تلك المؤلفات لذوي النفوذ. لا أحد يدل اليوم على عوامل تعدد المذاهب والفرق والنحل ودخول الكثير من الغريب والمنتحل في تقاليد الدين وأسسه. بل أن العجز عن الاتفاق الذي ما يزال سائداً وعاماً حتى اليوم أنما هو دليل خلل بنيوي سياسي لا قبل لأحدهم التطرق إليه. لقد كان يقتضي لذلك حاكم يجمع بين السلطة والاجتهاد الديني؛ يحرر الاسلام من الأوضار،ولم يكن ذلك، لربما، غير عمر بن بن العزيز الذي اعترف بانحراف الدين عن منابعه والدولة عن تطلعات المجتمع. وإذ وصفه المؤرخون بالخليفة الخامس، فقد كان الأحرى، تعيين الانحراف وتقديم الجهد الفكري لتصحيح مسارات الأشياء. بالمقابل ظهرت جهود فكرية ومجتهدون بعيداً عن موائد السلاطين، لكن آراءهم بقيت في بطون الكتب، شأن الأفكار التي لا تحظى بدعم المؤسسة السياسية الحاكمة أو تهدد كيانها. وكان مصير بعض العلماء والمفكرين القصاص والنفي وما كان من نتائجه استمرار الخلل والانحراف وضياع الأمة.
واليوم إذ يدعي العرب العلوم الحضارية والتقنيات المتقدمة في الاتصالات، انما ترتفع للسطح من جديد القراءات والآراء المحافظة وذات التوجه اليميني، التي تدعم أئمة الجمود والتخلف والخلل في الفكر العربي والاسلامي أمثال الغزالي وابن تيمية وغيرهم، بينما يستمر تغييب الفكر الاصلاحي والاستشرافي الحر الذي سبق للنظام العربي التقليدي القضاء عليه ومحاربته، أمس كما اليوم، في إشارة نيرة، لاستمرار عقلية الجمود والانحراف في العقلية العربية والاسلامية. ويبقى السؤال: ماذا سيقدم أولئك للمستقبل، غير ما قدموه خلال تاريخهم، ومتى تبدأ المراجعة، والاعتراف بالأخطاء والحقائق والدسائس.
3- الاسلام السياسي والمرجعية القومية
وليس العكس..!
من صور أزمة الذات والفكر العربي ذلك الخلط والتداخل وعدم الفرز ما بين القومية والدين وعدم رسم الحدود بين العروبة والاسلام. لم يقدم التراث العربي طروحات جادة في هذا المجال ، ولم تحظ الدراسات الاجتماعية والقومية بنصيب لدى المؤلف العربي الذي تراوح دوره بين عمل فهارس الانساب والقبائل ومعاجم المصنفات والملخصات والسير والتراجم. ولعل ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع العربي أول المساهمين الجادين وآخرهم في هذا المجال. نقول آخرهم، لعدم ظهور من يواصل مسيرته البحثية بنفس المرجعية الحضارية المنفتحة والافق الشمولي والمنطق العقلي. وما زالت مقدمته اليتيمة لا تتعدى منذ اكتشافها، مناسبة للفخر والادعاء دون الجرأة على الخوض فيها أو حواليها. أما الجهود التي تناولت الموضوع في سحابة القرن العشرين فقد كانت ضحية الخطاب الاعلامي السياسي لتلك المرحلة سواء في شقه القومي أو الديني السلفي. ولم تستطع التيارات السياسية التي اتخذت العروبة والقومية منهجاً أن ترسم حدا فاصلاً بين القومية والدين أو العكس، ومن الغريب والمضحك ذلك التبجح الاسلامي الذي ذرفه قومويون عرب بعضهم كان من غير المسلمين، على ضريح الثوابت المقدسة، دون أن يجرؤ على خدش إو إثارة هرم التراث الاجتماعي وهو المنادي بإعادة بعث التاريخ المجيد، فبدا (ميشيل عفلق) أكثر اسلاماً من أي مسلم وأكثر حماساً للاسلام منه للعروبة.
لقد مثل الاسلام لدى ظهوره خطابا حضاريا.. هكذا يرد في بعض الأدبيات.. أو رسالة توحيدية تنقل العالم من الظلمات الى النور لدى السلفيين، وحركة سياسية واقتصادية في نظر بعض المستشرقين.
الفارق بين ذلك هو الفارق بين خطاب العقل وخطاب العواطف؛ بين البلاغة اللغوية الفارغة وبين تشخيص الواقع؛ بين الجرأة والايمان بالحرية والعقل وبين التردد والمجاملة والتضليل؛ بين تحديد الشيء والاتجاه المباشر نحوه وبين تضبيبه والدوران حوله دون القدرة على العثور عليه أو اكتشاف نصه.
لقد حاول المؤرخون الاسلامويون والقومويون ترسيخ حدود فاصلة بين ما بعد-/ وما قبل الاسلام. وتم تصوير وطأ تلك الحدود محرماً أكثر من (الأرض الحرام) في المواثيق السياسية وجبهات الحروب الساخنة. بمعنى آخر.. أن تناول التاريخ العربي في كثير من جوانبه، بما فيها تلك، الإشكالية والمعقدة، ما وصف منها بالدراسات الأكادمية واعتاشت عليه أجيال من الأساتذة والمؤلفين وو .. كان مدفوعاً ومضمخاً بحرارة العواطف والمشاعر والخوف والتقية والتملق أكثر منه أي شيء آخر. وعدم الاستناد والانطلاق من أسس علمية واضحة لا يمكن ولم يقد إلى نتائج علمية يمكن الإفادة منها في معالجة إشكاليات الواقع والفكر العربي وترسم مناهج التطور والحياة الانسانية اللائقة.
* * *
النظام القبلي أو القبائلي كان صفة الحياة في شبه الجزيرة العربية التي كانت تقع يومذاك بين قوتين امبراطوريتين تهدد كل منهما بمدّ نفوذها في أعماق شبه الجزيرة: الفارسية والرومانية. إلى جانب استمرار حكم الفراعنة في مصر والدولة الآشورية في العراق. فكان ظهور الاسلام (620م) بدء التاريخ السياسي لتحول سكان شبه الجزيرة من المرحلة القبلية البدوية إلى مرحلة الدولة القومية. وسيلة هذا التحول وإطاره كان (الاسلام) الذي أريد له أن يكون بمثابة لائحة القانون الأساسي للدولة/ الكيان السياسي الجديد، التي تضم مختلف التشريعات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تنظم جوانب الحياة وشؤون الدولة المختلفة كما تضم مختلف القبائل والأصول الاجتماعية في إطار الدين والدولة. وكما تنبع القوانين والتشريعات من واقع المجتمعات والأعراف السائدة فيها، جاء الاسلام حاضنة قيمية تاريخية لجملة الأعراف والتقاليد والمظاهر الاجتماعية السائدة. ومن المهم أن ندرك هنا مغزى تأكيد المؤرخين القدماء على تعددية مصادر الاسلام والتشريع الاسلامي وعدم الاقتصار فيها على (القرآن)؛ لأن القرآن الذي جاء جامعاً للكثير من التواريخ والقصص والعبر والتشريعات، لم يتضمن كل شيء على اطلاقه، ولم يشأ أن يضع مقاييس ومساطر صارمة تحدد كل جوانب الحياة، وانما ترك فرصة ومجالاً للانسان/ المشرع لاتخاذ ما يناسب المجتمع والعامل الزمني. هذه التعددية تأكيد على وعي روح الاسلام واحترامها لقيمة التطور والانسجام مع العصر ومنطق الزمن. لكن هيمنة التيار المحافظ فيما بعد بدعوى (الخشية على ضياع الدين) أسدل ستاراً من الجمود وعزل الدين عن مضمار الحركة الاجتماعية. ان القصور الفكري الذي يصمه البعض بالجمود، لم ينعكس فقط في عدم مواصلة ما انقطع من جهود بناء الأمة ورفعتها وانما، الاصرار على بقائها جامدة كما هي ومعارضة وقطع كل أسباب وممكنات التطور والحياة. وهكذا أساء المحافظون من حيث أرادوا أن يحسنوا وتسببوا بتشددهم وعدم احترامهم واهتمامهم بآراء الغير في تأخير ركب العرب والحطّ من مكانتها بين أمم الأرض.
ان إشكالية الاسلام اليوم لا تكمن فيه وانما في القائمين عليه والمتحكمين فيه من دون الكفاءة والأهلية. لقد جاء الاسلام ليرفع العرب إلى مصاف العالم، فأصبح ورقة ووسيلة بأيدي المتحكمين به يديرونها ويتلاعبون بها بما يخدم أهواءهم ومصالحهم. ولم يكن من أثر ذلك ما نعيشه وعاشه أجدادنا من ضياع وتخلف؛ وانما الأبرز من ذلك تعدد الاسلامات؛ وعدم رغبة المسؤولين في الاتفاق على رأي موحد وإطار مرجعية تتولى تصريف شؤون الدين وتوجيه جهودها لاستيعاب نصوصه والاجتهاد فيها لما ينسجم مع روح الزمن والحضارة. هذا التلكؤ والتقصير هو الذي جعل الاسلام بكل ما يحمله ويمثله من تراث وثقافة وتاريخ وما يربو على المليار انسان، أن يصير ضحية يمتطيها كائن من كان، دون رادع أو قوام، يوجهها وفق مآربه، ويعيث في الأرض فساداً وقتلاً ودماراً، فيساوي بينه وبين البربرية والوحشية، ويلغي مبررات ظهوره الحضارية فيجعله معادياً للمدنية والانسانية. ومن الغريب أيضاً، بل الدليل على عدم الأهلية والحرص والحمية، أن لا يرعوي أحد قوامي الاسلام لتفنيد المدعين وفضح المتهافتين على الاتجار بالدين. ان من غير الجائز أن يكون الاسلام وسيلة سهلة وفريسة يدعي زعامتها كل يوم نكرة، وينصب كل من هبّ ودبّ نفسه إماماً وأميراً للمؤمنين يفرض على المسلمين أوامره ويطالبهم بالطاعة أو يحكم عليهم بالزندقة والارتداد وما أشبه، وهي ظاهرة أن دلّت، انما تدل، إضافة لما سبق، على مبلغ التخلف والفوضى والجهل المعشش في ديار المسلمين الممتدة على طول جنوب الكرة الأرضية.
في ظل هذه المعطيات والمخرجات، يرد السؤال مرة أخرى، عن المقصود بالسلفية الجديدة التي ترددها غير جهة، وتفسرها كل جهة على هواها، في إطار من الجمود والانغلاق، ومن هي الجهة التي تنصب نفسها ولية للامر، وفي ظل أية ظروف، غير هذه الفوضى والضياع واختلاط الحابل بالنابل.!
4- الاسلام: البديل الثالث
انقسم المتحاورون العرب في شأن تحديد الطريق العربي للمستقبل الى قسمين رئيسين: تيار يؤيد اتباع النموذج الغربي، تيار سلفي للاستمرار على النهج العثماني وما سبقه. وأزاء تطرف كلا التيارين وصعوبة التقائهما وعمق آثار التقاليد العربية المتوراثة، فلقد ظهر تيار ثالث استطاع تثبيت قوائمه على ارضية القرن العشرين. وبالتالي فأن حسم السجال الفكري حول مستقبل العرب لم يتحقق من خلال الحوار وحلقات المناقشة والبحث وانما من خلال العسكر (العنف) مجسّداً في حركة 23 يوليو 1952 والتي وضعت -كالعادة- اللبنات والمقومات الرئيسية الأولى التي اتبعتها حركات البلدان العربية الأخرى بالتوالي في قليل أو كثير.
لكن ذلك لم يكن إلا جانباً أو صورة من صور الخلل أو الإشكالية الوجودية التي يعاني منها العرب؛ الجانب الآخر الذي لم يحظ بالبحث والمناقشة وبقي معلقاً وقد يبقى لأمد طويل، هو البت في مسألة العروبة والاسلام. وهي الثيمة التي بقيت أرضاً محرمة ومنطقة ألغام، لم تتوفر أية أرضية عربية لرفعها لمستوى المناقشة وبالتالي، فأن عدم حسمها سوف يبقي العرب في خانة الانتظار وفي مرحلة ما دون القرار بينما تندفع شعوب المعمورة بقوة صاروخية نحو المستقبل، ولا نتساءل بعدها، أين تكون مكانة العرب، سواء توصلوا الى قرار بشأن الإشكاليات المعلقة – بعد فوات الأوان- أم لا.
عندما بدات عمليات الثورة الصناعية في العالم بقي العرب في مرحلة البداوة والزراعة التقليدية في ظل الحكم العثماني (أجنبي)، وعندما توفرت فرصة بناء الأنظمة الوطنية القومية انتظر العرب القرار من الخارج، ليرسم لهم البريطانيون والفرنسيون أشكال الأدارة والعسكر والسياسة، ومع انقسام العالم الى معسكرين استسهلوا الانضمام الى أحدهما أو التنقل التكتيكي بينهما بينما كان العملاقان يمسكان بالأوراق الرئيسية وينقلانها من يد إلى يد (لعبة الكبار والصغار). ولم تتكشف حيرة النظام العربي إلا بسقوط المعسكر الاشتراكي وظهور أنياب الأمبريالية الأميركية بكل وقاحتها، ولم يكن عندها ثمة من خيار ثانٍ أو ثالث أو فرصة للتكتيك بالمفهوم العربي. ولكن تجرع الخيار الاجباري هذه المرة أصعب من السمّ. والأميركان لا يكتفون بضمان مصالحهم الاستراتيجية والعسكرية وانما أكثر من ذلك، مسخ الكيان والهوية. ولا غرابة أن تبدر أصوات المعارضة والاحتجاج من أنظمة كانت على الدوام في ظل الرعاية الغربية ربيبة مطيعة وديعة. وأنظمة حاولت ان تبدو بمظهر الوسيط المعتدل العقلاني ترفع عقيرتها بين آونة وأخرى منددة بالصلف الأميركي.
الأمر الغائب أو الذي يتعامى عنه البعض أن قواعد العلاقات الدولية المطبقة في العالم لا تنطبق في الاطار العربي، وان الأقطاب الغربية بقيت تعامل مستعمراتها ومحمياتها السابقة من منظور الوصاية أو الأخ الكبير في أفضل الأحوال (Big Brother)، وبالتالي فأن الغرب ليس مستعداً لسماع الصوت العربي ولو سمعه فلن يأخذ به جوهرياً وهو غير ممكن التراجع عن سياساته المعلنة منذ مئات السنين. وإذا كانت السياسة العربية تعتمد المجاملة والابتسامات قواعد لها فبنية العقل الغربي مختلفة تماماً وفيها تتكشف صورة الخلاف بين الشرق العاطفي والغرب العقلي.
ان حالة العجز والتخبط التي تسكن الجسد العربي أمام مفترق طرق المستقبل انعكست في صورة التشاؤم واليأس التي تداهم الشاب والجيل العربي الصاعد الذي لا يجد الكثير من الوقت أو الأمكانيات لاستعادة الجدل القديم قبل مائة عام حول الطريق الشرقي أو الغربي. ان حالة الجمود واليأس والتخبط هيأت أرضية خصبة لتنشيط بذور حركات وتيارات حسب البعض أن تم القضاء عليها منذ زمان، متناسين القوى والمصالح المتخفية والساكنة والمستفيدة من تأجيجها بين الفينة والأخرى وبالشكل المطلق الذي اتيح لها في السنوات الأخيرة. ان مكانزم الدين تقوم على حالة من السكينة الداخلية والقناعة النفسية والفكرية والتسليم المطلق، الذي لا يجد المرء فيها حاجة للتفكر في حياته والأوضاع العامة.
الطريق الغربي الذي نهجته أنظمة –إلى حد ما- مثل تونس ولبنان انتهى للانقضاض أثر إقالة بورقيبة ونتائج الحرب اللبنانية (1974-1991). والطريق المختلط الذي تمثله عبد الناصر وأنظمة عربية عديدة انتهى بشكل أو آخر لصالح الانفتاح والتخبط بعد ذلك. وقد صوّر ذلك للمحافظين والسلفيين فشل تلك النماذج ولصالح تعميم النموذج السلفي كوصفة إجبارية على الجميع؛ قافزين بذلك على عديد الحقائق، منها:
1- ان استمرار نظام معين وبدون هزات سياسية كبيرة لا يعني صلاحية تلك الوصفة وسلامتها من المآخذ. ان معايير الصلاحية أكبر من ذلك بكثير وهي تتعلق بتحقيق مشاريع التنمية الوطنية واستكمال مستلزمات البنية التحتية الاجتماعية والاقتصادية الشاملة،وتلك لم تتحقق في أي البلاد العربية بعد مضي حوالي القرن على ظهور الدول الحديثة.
2- ان التغيرات السياسية التي اعترت البلدان المختلفة حصلت من الخارج ولم تكن أفرازاً محلياً أو تطوراً داخلياً للحركة الاجتماعية، ومهما ادعت وسائل الاعلام غير ذلك؛ وذلك لتشابك المصالح الغربية بوجود تلك الأنظمة.
3- ويمكن الاستدلال على ذلك بأنظمة غير عربية استمرت على ما هي عليه مثل النظام الأتاتوركي المتفرنج في تركيا . ان معيار تغير نظام معين قد يكون تطوراً محليا كما في ايران (!!) أو مرتبطاً بتقاطعات المصالح الغربية كما في بلاد عربية والباكستان وأميركا اللاتينية، وأخيراً أوربا الشرقية.
4- ان ضمانة استمرار أنظمة معينة ومنها سلفية (السعودية) أو مختلطة (الأردن) هي انسجام سياساتها مع خارطة السياسات الدولية، وينسب للأمير حسن ولي العهد الأردني السابق قوله: أن بلاده من البلدان العربية القليلة التي فيه نظام مستقر سياسيا منذ سبعين أو ثمانين عاماً.
5- ان معظم قرارات العرب التاريخية اتخذت في مراحل الضعف والتبعية، وحال العرب اليوم ليس بأفضل منه في ظل المغول أو العثمانيين أو الانجليز والفرنسيين، فما الذي يدفع طائفة اليوم لفرض خطابهم وتعميمه على الجميع وهو الذي لم يحقق نتائج تذكر في بلد المنشأ.
ان عشوائية التدرج التاريخي الذي يحلو للبعض اعتماده في مراجعة برامج التنمية/ النهضة العربية من القومية العلمانية الى الوطنية المختلطة الى السلفية الجاهزة لا يمكن أن تقدم حلاً لإشكالية المستقبل العربي. ومن الأفضل اعتماد مبدأ الحوار الدمقراطي والبحث العلمي العقلاني وعدم حصر الحوار والقرار في حلقات نخبوية مختارة ومحددة، لأن مستقبل الأمة مسؤولية الجميع وسوف تقع تبعاته وفواتيره على حساب الجميع، وكما يجتر العرب اليوم تبعات سياسات أنظمة وحكام تجاهلوا مصالح شعوبهم فكان الضياع والخسائر الشمولية والاحتلال مصير بلادهم، لا يجوز التهاون في حرمة البلاد والعباد بقرارات فردية وعشوائية غير نابعة من مصالح الجماهير ومستجيبة لتطلعاتها الثقافية والسياسية.
وديع العبيدي
المصدر : المرصد الإعلامي
إضافة تعليق جديد