الماركسيون والموقف من الدين بوجه عامّ، ومن الأصوليّة الإسلاميّة بوجهٍ خاصّ
1. يَجمع موقفُ الماركسيّة الكلاسيكيّة النظريّ ("الفلسفيّ") بشأن الدين ثلاثةَ أبعادٍ متكاملة، وردتْ بشكلٍ أوّليّ في مقدمة** كتاب ماركس الشابّ، نقد فلسفة الحقّ عند هيغل (1843-1844):
- أول الأبعاد الثلاثة نقدٌ للدين بما هو عاملُ استلاب، حيث يعزو الإنسانُ إلى الذات الإلهيّة مسؤوليّةَ مصيرٍ لا دورَ لها فيه (إذ إنّ "الإنسان هو الذي يصنع الدينَ، وليس الدينُ هو الذي يصنع الإنسانَ"). وفضلاً عن ذلك، يُلزم الإنسانُ نفسَه باحترام فرائضَ ومحرَّماتٍ دينيّةٍ غالبًا ما تعوّق ازدهارَه؛ كما يَقبل بالخضوع لسلطاتٍ دينيّة تقوم شرعيّتُها على التوهّم بأنّ لها علاقةً مميّزةً بالشأن الإلهيّ أو على تخصّصها في دراسة التراث الدينيّ.
- وثاني تلك الأبعاد، نقدٌ للعقائد الاجتماعيّة والسياسيّة التي تحتويها الأديانُ، وهي مخلّفاتٌ إيديولوجيّةٌ لحقباتٍ تاريخيّةٍ بائدةٍ منذ قرون عديدة. إنّ الدين "وعيٌ زائفٌ للعالم،" ويزداد زيفُه بقدر ما يتغيّر العالم. وبعد نشوء الأديان في مجتمعات سبقت الرأسماليّةَ، شهدتْ عمليّات تحديثٍ مع بزوغ الرأسماليّة، على غرار الإصلاح البروتستانتيّ في تاريخ المسيحيّة. لكنّه تحديث يبقى جزئيّاً ومحدودًا بالضرورة ما دام الدين يستند إلى "كتب مقدّسة" لا يجوز الحيدُ عن نصّها.
- لكنْ ثمّة بعدٌ ثالثٌ في الموقف الماركسيّ، ينضاف إلى البعدين الآنفين، هو "تفهّمٌ" (بالمعنى العميق للتفهّم، أي القدرة على الشعور بالمثل) لما قد يكون للإيمان الدينيّ من دورٍ نفسيّ لدى معذَّبي الأرض ومعذَّباتها: "إنّ التعاسة الدينيّة هي، في شطرٍ منها، تعبيرٌ عن التعاسة الواقعيّة؛ وهي، من جهةٍ أخرى، احتجاجٌ على التعاسة الواقعيّة. الدين زفرةُ الإنسان المسحوق، روحُ عالمٍ لا قلبَ له؛ كما أنّه روحُ الظروف الاجتماعيّة التي طُرد منها الروح. إنّه أفيونُ الشعب."
تُفضي تلك الاعتباراتُ الثلاثة في نظر الماركسيّة الكلاسيكيّة إلى خلاصةٍ واحدةٍ ووحيدةٍ أعلنها ماركس الشابّ: "إنّ تخطّي [Aufhebung] الدين، من حيث هو سعادةٌ وهميّةٌ للشعب، هو المطالبة بسعادة الشعب الفعليّة. إنّ المطالبة بالتخلّي عن الأوهام حول وضعٍ ما، إنما هي المطالبة بالتخلّي عن وضعٍ يحتاج إلى أوهام. فنقدُ الدين هو بدايةُ نقد وادي الدموع الذي يؤلِّف الدينُ هالتَه العليا."
2. ومع ذلك، لم تَطرح الماركسيّةُ الكلاسيكيّةُ إلغاءَ الدين شرطًا مسبّقًا لا بدّ منه للتحرّر الاجتماعيّ (بل يمكن أن يُقرأ قولُ ماركس الشابّ على النحو الآتي: من أجل التمكّن من تجاوز الأوهام، لا بدّ أولاً من إنهاء "الوضع المحتاج إلى أوهام"). وفي جميع الأحوال، ليس المطلوبُ إزالةَ الدين، بل خلق شروط اضمحلاله (وقد نقول: على غرار ما ينبغي أن يكون مصيرُ الدولة بعد الثورة في النظريّة الماركسيّة). الأمر لا يتعلّق بتحريم "أفيون الشعب،" ولا يتعلّق البتّة بقمع مستهلكيه ومدمنيه. بل المطلوب هو إنهاء العلاقات المتميّزة التي يقيمها المتاجرون بأفيون الشعب مع السلطة السياسيّة، وذلك بقصد الحدّ من سطوته على العقول.
وللموقف الماركسيّ في هذا الصدد ثلاثة مستويات:
لم تدعُ الماركسيّة الكلاسيكيّة، أيْ ماركسيّة المؤسِّسين، إلى إدراج الإلحاد في برنامج الحركات الاجتماعيّة. لا بل سخر إنجلز، في نقده (عام 1873) لبرنامج أتباع بلانكي في صفوف المنفيّين إثر كومونة باريس، من ادّعائهم إلغاءَ الدين بمرسوم. وقد أكّدتْ تجاربُ القرن العشرين نفاذَ بصيرة إنجلز، وهو الذي حذّر من "أنّ ممارسة الاضطهاد هي أفضلُ وسيلةٍ لترسيخ معتقداتٍ غير مرغوبٍ فيها،" مضيفًا "أنّ الخدمة الوحيدة التي لا يزال بإمكاننا اليوم أن نسديها اللهَ هي ان نجعل من الإلحاد موضوعَ إيمانٍ قسريّ."
في المقابل، فإنّ العَلمانيّة (أيْ فصل الدين عن الدولة)، المرافقة تاريخيّاً للدعوة الجمهوريّة، هدفٌ لا غنى عنه ولا يتقادم، وقد سبق أنْ كان جزءًا من برنامج الديمقراطيّة البرجوازيّة الجذريّة. هذا ولا بدّ هنا أيضًا من تفادي الخلط بين الفصل والحظْر، وإنْ في مجال التعليم نفسه. فقد اقترح أنجلز، في تعليقه على برنامج الاشتراكيّة الديمقراطيّة الألمانيّة ـ نقد برنامج ايرفورت (1891) ـ الصيغةَ الآتية: "فصل كامل للكنيسة عن الدولة. ومعاملة الدولة لكلّ الطوائف الدينيّة بلا استثناء كما لو أنّها جمعيّاتٌ خاصّة. فتتوقّف الطوائفُ عن الحصول على أيّة إعانةٍ من المال العامّ، ويَبْطل لها أيُّ تأثيرٍ في المدارس العموميّة." ثم أضاف إنجلز التعليق الآتي بين قوسين: "بالطبع لا يمكن منعُها من أن تُنشئ بأموالها الخاصة مدارسَ تكون ملْكَها الخاصّ، وأن تلقِّن فيها سخافاتِها!"
وفي الوقت ذاته، يتعيّن على الحزب العمّاليّ أن يحارب تأثيرَ الدين في المجال الايديولوجيّ. وقد ابتهج أنجلز، في نصّ 1873، لكون غالبيّة المناضلين العمّال الاشتراكيين في ألمانيا قد اقتنعوا بالإلحاد. كما اقترح نشرَ الأدبيّات المادّيّة الفرنسيّة للقرن الثامن عشر بقصد إقناع أكبر عددٍ من الناس بالإلحاد ذاته.
أما ماركس فقد بيّن، في نقده لبرنامج غوتا لحزب العمّال الألمانيّ (1875)، أنّ الحريّة الخاصة في مجال الإيمان والعبادة يجب تحديدُها حصرًا في رفض تدخّل الدولة. وأوضح مبدأها على النحو الآتي: "يجب أن يتمكّن كلُّ فرد من إرضاء حاجاته الدينيّة والجسديّة من دون أن تتدخّل الشرطة في الأمر بأيّ صورة." وفي الآن ذاته، تأسّف على تفويت الحزب "فرصةَ التعبير عن اقتناعه بأنّ ’حريّة المعتقد‘ البرجوازيّة ليست أكثرَ من التسامح إزاء كافّة ضروب حريّة الاعتقاد الدينيّ الممكنة، فيما يسعى هو [أي حزب العمّال] إلى تحرير العقول من التوهّم الدينيّ."
3. لم تكن الماركسيّة الكلاسيكيّة تنظر إلى الدين سوى من زاوية علاقة المجتمعات الأوروبيّة بدياناتها التقليديّة السائدة. ونادرًا ما اهتمّت باضطهاد الأقليّات الدينيّة. وقد تجاهلتْ على الأخصّ تعرّض ديانات الشعوب المقهورة للاضطهاد من قِبل دول منتمية إلى ديانةٍ أخرى. وفي عصرنا المطبوع بمخلّفات الإرث الاستعماريّ وبنقل هذا الإرث إلى داخل الحواضر الإمبرياليّة ذاتها (على شكل "استعمار داخليّ،" طرافتُه أنّ المستعمَرين هم أنفسُهم "المهاجرون" هذه المرة)، يكتسي ذاك الوجه الأخير أهميّة كبرى.
في سياق تسود فيه العنصريّة، وهي لازمةٌ طبيعيّةٌ للإرث الاستعماريّ، فإنه ينبغي رفضُ كافّة ضروب قهر ديانات المضطهَدين والمضطهَدات، المستعمَرين سابقا، لا لكونها "أفضل وسيلة لترسيخ معتقدات غير مرغوب فيها" فحسب، بل أيضًا، وفي المقام الأول، لأنها تشكّل بعدًا من أبعاد الاضطهاد الإثنيّ أو العرقيّ، ولا يمكن السكوتُ عنها، تمامًا مثلما لا يمكن السكوتُ عن ضروب القهر والتمييز الأخرى، السياسيّة والقانونيّة والاقتصاديّة.
طبعًا، قد تبدو الطقوسُ الدينيّة لدى ضحايا الاستعمار غايةً في الرجعيّة في نظر سكان الحواضر الإمبرياليّة، الذين لولا تفوّقُهم المادّيّ والعلميّ لما قام الاستعمارُ بعينه. غير أنّ فرض نمط حياة هؤلاء على الشعوب المستعمَرة، ضدّ رغبتها، لن يَخدم قضيّة تحرّر تلك الشعوب على الإطلاق؛ ذلك أنّ جهنّمَ الاضطهادِ العنصريّ معبَّدٌ بالنوايا الحسنة "الحضاريّة"؛ ونعْلم كيف أصيبت الحركةُ العمّاليّة ذاتُها بعدوى الادّعاء الخيريّ والوهم الإحسانيّ في عصر الاستعمار.
تمّ ذلك بالرغم من أنّ أنجلز كان قد حذّر من ذلك المرض الاستعماريّ. ففي رسالة إلى كاوتسكي، بتاريخ 12 سبتمبر 1882، وصف سياسةَ التحرير التي رأى أنّ على البروليتاريا أن تنتهجها في السلطة وصفًا مفعمًا بالاحتراس الذي لا غنى عنه كي لا يتحوّل التحريرُ المزعومُ إلى اضطهادٍ مقنَّع:
"يجب أن تتكفّل البروليتاريا مؤقتا بالبلدان المخضعة، التي تقطنها شعوب أهلية، كالهند والجزائر، والمستعمرات الهولندية والبرتغالية والاسبانية، وتقود هذه البلدان إلى الاستقلال بأسرع ما يمكن. أما كيف ستتطور هذه العملية، فأمر يصعب تحديده. وقد تقوم الهند بثورة، لا بل إن ذلك محتمل جدا. و بما أن البروليتاريا وهي تتحرر لا يمكن أن تشن حربا استعمارية، سنضطر لترك ذلك يأخذ مجراه، ولن يخلو الأمر بالطبع من شتى أصناف التدمير، لكن أمورا من هذا القبيل إنما هي ملازمة لكل الثورات. وقد تجري السيرورة نفسها في أماكن أخرى ايضاً: مثلاً في الجزائر وفي مصر، وسيكون ذلك، بلا شك، الحل الأمثل بالنسبة لنا. وسيكون لدينا ما يكفي لنفعله في بلداننا. هذا وحالما يعاد تنظيم أوروبا و أمريكا، ستشكلان قوة من الضخامة و القدوة لدرجة أن الشعوب نصف المتحضرة ستحذو حذوهما من تلقاء نفسها، فالحاجات الاقتصادية وحدها كفيلة بدفعها إلى ذلك. أما مراحل التطور الاجتماعي و السياسي التي يجب أن تجتازها هذه البلدان حتى تحقق بدورها بنية اشتراكية، فلا يمكن اليوم بنظري أن نضع بشأن ذلك غير فرضيات لا طائل تحتها. أما الأمر الأكيد الوحيد فهو أن البروليتاريا الظافرة لا يمكن أن ترغم شعباً أجنبياً أياً كان على السعادة، بدون ان تنسف الظفر الذي حققته."
إنها لحقيقة بديهيّة، ومع ذلك فغالبًا ما جرى تجاهلُها: كلّ "سعادة" يتمّ فرضُها بالقوة تساوي اضطهادًا، ولن يرى فيها مَنْ يتعرّض لها غيرَ ذلك.
4. تُكثّف مسألةُ الحجاب الإسلاميّ كافّة المشاكل المطروحة أعلاه، وتتيح بسطَ الموقف الماركسيّ بكلّ جوانبه. ففي معظم البلدان حيث الإسلامُ دينُ الأغلبيّة، لا يزال الدينُ هو الشكل الرئيس للإيديولوجيا السائدة. وتُستعمل تأويلاتٌ رجعيّة للإسلام، نصّيّةٌ إلى هذا الحدّ أو ذاك، لإبقاء السكّان في حالةٍ من الخضوع والتخلّف الثقافيّ. كما يتعرّض النساءُ على أوسع نطاق، وبأعلى كثافةٍ، لاضطهادٍ تواصَلَ عبر القرون، وقد تمّ تغليفُه بشرعنةٍ دينيّة.
في سياقٍ كهذا، فإنّ النضال الإيديولوجيّ ضدّ استخدام الدين حجّةً للاستعباد إنّما هو أحدُ الأوجه ذات الأولويّة بين وجوه معركة التحرّر. وينبغي من ثمّ أن يشكّل فصلُ الدين عن الدولة أحدَ المطالب ذات الأولويّة بين مطالب حركة النضال من أجل التقدّم الاجتماعيّ. وينبغي على الديمقراطيين والتقدّميين أن يناضلوا من أجل حريّة الأفراد، رجالاً كانوا أو نساء، في الإيمان أو عدمه وفي ممارسة الدين أو عدم ممارسته. وفي الوقت ذاته، تظلّ المعركة من أجل تحرّر النساء معيارَ كلّ هويّة تحرّريّة، ومحكَّ كلّ ادّعاء تقدّميّ.
هذا ويتمثّل أحدُ الأوجه البديهيّة لحريّة النساء في حريّتهنّ الفرديّة في ارتداءِ ما يبتغين من زيّ. والحال أنّ الحجاب الإسلاميّ، عندما يكون مفروضًا على المرأة، يمثّل شكلاً من أشكال الاضطهاد الجنسيّ اليوميّ العديدة. وهو اضطهاد تتزايد حدّتُه بقدر ما تتزايد مساحةُ ما يتمّ حجبُه، إذ يزداد اضطهادُ النساء بروزًا كلّما ازداد إخفاؤهنّ. فالنضال ضدّ فرض التحجّب، مهما كانت أشكالُ الحجاب، لا ينفصل عن النضال ضدّ أوجه استعباد النساء الأخرى.
بيد أنّ النضال التحرّريّ، لو سعى إلى "تحرير" النساء قسرًا، ليس إزاء من يضطهدهنّ، بل إزاءهنّ أنفسهنّ، لفسَدَ بصورةٍ خطيرة. ذلك أنّ انتزاع اللباس الدينيّ ممّن ارتداه بمحض إرادته، أو ارتدته بمحض إرادتها ـ وإنِ اعتبرنا ارتداءه ضربًا من ضروب القمع الذاتي ـ إنّما هو فعلٌ اضطهاديّ، لا تحرير حقيقيّ. وعلاوةً على ذلك، فإنّ مآله الفشل كما توقّع إنجلز، عندما قال إنّ جعل الإلحاد إلزاميّاً إنما يخدم الإيمانَ بالله. والحال أنّ تطوّر تركيا الحاليّ، على غرار مصير الإسلام في الاتحاد السوفييتيّ سابقًا، يؤكّد على نحو بليغ عدمَ جدوى السعي إلى استئصال الدين أو الممارسات الدينيّة بواسطة الإكراه. "يجب أن يتمكن كلّ فرد،" رجل كان أو امرأة، "من إرضاء حاجاته الدينيّة و الجسديّة" ـ بما في ذلك احتجابُ النساء والتحاءُ الرجال ـ "من دون أن تتدخّل الشرطة في الأمر بأيّ صورة."
إنّ الدفاع عن هذه الحريّة الفرديّة الأوّليّة شرطٌ لا غنى عنه لخوض معركةٍ فعّالةٍ ضد الإملاءات الدينيّة. والحال أنّ حظر الحجاب يضفي المزيد من الشرعيّة على فرضه في نظر مَن يعتبرونه ركنًا من أركان الإيمان. فلا تُمْكن مواجهةُ الإكراه الدينيّ بصورةٍ مشروعةٍ وفعّالةٍ سوى بالتسلّح بمبدإ حريّة الاعتقاد والممارسة الدينيّة، الفرديّة حصرًا، سواء تجلّت الممارسةُ باللباس أو بغيره، ومع احترام الحكومات العلمانيّة لهذا المبدإ. وقد نصّ القرآنُ ذاته على أنْ "لا إكراه في الدين."
5. على غرار سائر الأصوليّات، سواء كانت مسيحيّة أو يهوديّة أو هندوسيّة أو غيرها، التي تسعى إلى فرض تأويلها المتشدّد للدين شرعةً للحياة، إنْ لم يكن نمطًا للحكم، تمثّل الأصوليّة الإسلاميّة خطرًا على التقدّم الاجتماعيّ وعلى النضال التحرّريّ. ومع الحرص على إقامة تمييز واضح وجليّ بين الدين بحدّ ذاته وتأويله الأصوليّ، وهو أشدّ التأويلات رجعيّةً على الإطلاق، لا بدّ من محاربة الأصوليّة الإسلاميّة إيديولوجيّاً وسياسيّاً في البلدان الإسلاميّة، كما في وسط الأقليّات الإسلاميّة في الغرب أو في أيّ مكانٍ آخر.
لكنّ ذلك ليس حجّةً من أجل حظر حكوميّ للحجاب الإسلاميّ. ذلك أنّ رهاب الإسلام أفضلُ حليف موضوعيّ للسلفيّة الإسلاميّة، والحال أنهما ينموان معًا. وكلّما بدا اليسار متّفقًا مع رهاب الإسلام السائد، نفّر عنه المسلمين المتديّنين ويسّر مهمّة الأصوليين الإسلاميين، الذين يظهرون بالتالي وكأنّهم وحدهم القادرون على التعبير عن احتجاج الناس المعنيّين على "التعاسة الواقعيّة."
بيد أنّ الأصوليّة الإسلاميّة ظاهرة شديدة التنوّع، ينبغي تكييفُ الموقف التكتيكيّ منها حسب الأوضاع العينيّة. فعندما يجري استغلالُ هذا النمط من البرنامج الاجتماعيّ من قبل سلطة اضطهاديّة وحلفائها بقصد إضفاء شرعيّةٍ على الاضطهاد الذي يمارسونه، كما هي حالُ أنظمة الاستبداد العديدة ذات الوجه الإسلاميّ، أو عندما يصبح هذا النوعُ من البرنامج سلاحًا سياسيّاً في يد قوًى رجعيّة تحارب سلطة تقدميّة، كما جرى في العالم العربيّ في الخمسينيّات والستينيّات لمّا كانت الأصوليّة الإسلاميّة رأسَ حربة المعارضة الرجعيّة للناصريّة ولمقلّديها ـ فإنّ الموقف اللائق الوحيد هو معاداة الأصوليين بلا هوادة.
ويتغيّر الموقف عندما تنتشر الأصوليّة الإسلاميّة أداةً سياسيّة ـ إيديولوجيّة للنضال في سبيل قضيّة تقدّميّة موضوعيّاً، وهي أداة تشوّه القضية بالطبع، لكنّها تملأ فراغًا ناتجًا من هزيمة الحركات اليساريّة أو قصورها. تلك هي الحالُ في الأوضاع التي يحارب فيها الأصوليون الإسلاميون احتلالاً أجنبيّاً (أفغانستان، لبنان، فلسطين، العراق، الخ) أو اضطهادًا إثنيّاً أو عرقيّاً، كما هي الحال في الأوضاع التي يجسّدون فيها كرهًا شعبيّاً لنظام يمارس اضطهادًا سياسيّاً رجعيّاً. وتلك أيضًا حالُ الأصوليّة الإسلاميّة في الغرب، حيث غالبَا ما يكون ازدهارُها تعبيرًا عن تمرّد ضد المصير المفروض على السكّان المهاجرين.
إذن، على غرار الدين بوجه عامّ، يمكن أن تكون الأصوليّة الإسلاميّة "في شطر منها تعبيرًا عن التعاسة الواقعيّة، ومن جهة أخرى احتجاجًا على التعاسة الواقعيّة." الفارق أنه احتجاج نشِط: فليست الأصوليّة الإسلاميّة "أفيونًا" للشعب، بل هي بالأحرى "هيروين" لقسمٍ منه: "هيروين" مشتقّ من "الأفيون" الأصليّ، ومفعولُه انتشائيّ، في حين أن الأفيون مخدِّر.
في كافّة الحالات المذكورة، لا بدّ من تكييف الموقف التكتيكيّ مع ظروف النضال ضدّ المضطهِد، العدوِّ المشترك. ومن دون التخلّي قطّ عن الكفاح الإيديولوجيّ ضدّ تأثير الأصوليّة الإسلاميّة الرجعيّ، فقد يكون من الضروري، أو ممّا لا مناص منه، الالتقاءُ مع الأصوليين الإسلاميين في معارك مشتركة ـ من التظاهر في الشارع حتى الكفاح المسلح، حسب الحالات.
6. بمقدور الأصوليين الإسلاميين أن يكونوا حلفاء موضوعيين وظرفيين في معركة محدّدة يخوضها ماركسيون، بيد أنه تحالفٌ غيرُ طبيعيّ تفرضه الظروف. والحقّ أنّ القواعد المطبّقة في تحالفاتٍ طبيعيّةٍ أكثر بكثير، كتلك التي جرت ممارستُها في النضال ضدّ القيصريّة في روسيا، تجب مراعاتُها هنا بصرامةٍ أشدّ.
وقد حدّد الماركسيون الروس تلك القواعد في مطلع القرن العشرين، ولخّصها بارفوس في تقديمه المصوغ في يناير 1905 لكرّاسة تروتسكي التي تحمل عنوان قبل 9 يناير، على النحو الآتي:
"تبسيطًا للموضوع، يمكن إتباعُ القواعد الآتية في حالة نضال مشترك مع حلفاء مؤقّتين: 1 ـ عدم خلط المنظمات، السير على حدة والضرب معًا. 2 ـ عدم التخلّي عن مطالبنا السياسيّة الخاصة بنا. 3 ـ عدم إخفاء اختلاف المصالح. 4 ـ مراقبة الحليف كما يُراقَب العدو. 5 ـ الاهتمام بالاستفادة من الوضع الناتج من النضال أكثر من الاهتمام بالحفاظ على الحليف."
"إنّ بارفوس على ألف حقّ": هذا ما كتبه لينين في مقال نشرته جريدة فبيريود في ابريل 1905، مشدّدًا على "الشرط المطلق (الذي تمّ التذكيرُ به في الظرف المناسب) في عدم خلط المنظمات، وبالسير على حدة والضرب معا، وبعدم إخفاء تباين المصالح، وبمراقبة الحليف كأنه عدوّ، الخ."
وقد دافع تروتسكي عن المبادئ عينها بلا كلل. ففي مؤلَّفه، الأمميّة الثالثة بعد لينين (1928)، عند دخوله في السجال بصدد تحالفات الشيوعيين الصينيين مع حزب الكيومنتانغ البرجوازيّ ضدّ الإمبرياليّة، كتب ما يأتي، وهو ينطبق بامتياز على موضوعنا الراهن:
"من نافل القول إننا لا نستطيع أن نرفض مسبّقًا اتفاقاتٍ محدّدةً بصرامةٍ وعمليّةٍ صرفًا تخدم في كلّ حين هدفًا محصورًا تمامًا. على سبيل المثال، في حالاتٍ تقتضي اتفاقاتٍ مع شباب الكيومنتانغ الطلابيّ لتنظيم مسيرة مضادّة للإمبرياليّة، أو تقتضي الحصولَ على مساعدة من تجّار صينيين دعمًا لعمّالٍ مضربين في مقاطعة أجنبيّة، الخ. لا يمكن إطلاقًا استبعادُ مثل تلك الحالات في المستقبل، حتى في الصين. […] إنّ "الشرط" الوحيد لأيّ اتفاقٍ مع البرجوازيّة، لأي اتفاق منفصل وعمليّ ومناسب لكلّ حالة معيّنة، إنما يقوم على عدم خلط المنظّمات أو الرايات، مباشرةً أو بصورةٍ غير مباشرة، ولو ليوم واحد أو لساعة واحدة؛ إنه يقوم على التمييز بين الأحمر والأزرق، وعدمِ الإيمان ولو للحظة واحدة بقدرة البرجوازيّة أو استعدادها لقيادة نضال حقيقيّ ضدّ الإمبرياليّة أو عدم عرقلة نضال العمال والفلاحين. […] قلنا، منذ وقت طويل، إنّ اتفاقات محض عمليّة، اتفاقات لا تقيّدنا بأيّ شكل، ولا تخلق لنا أيّ التزام سياسيّ، يمكن إبرامُها حتى مع الشيطان، إنْ كانت مفيدةً في اللحظة المعيّنة. لكنّه يكون من العبث أن نطالب في الآن ذاته بأن يعتنق الشيطانُ المسيحيّة، وأن يستعمل قرونه […] من أجل أعمال خير. فلو وضعنا مثل هذه الشروط لأصبحنا نتصرّف بالأساس كمحامين للشيطان…"
* هذا المقال يستند إلى مقالة كتبتُها سنة 2004 لمجلة ماركسيّة فرنسيّة، وتضمّنتْ نقدًا مستفيضًا للمواقف المتعارضة التي وقفها اليسارُ الجذريّ في كلّ من فرنسا وبريطانيا إزاء موضوع الحجاب والحركات الإسلاميّة، ولقي رواجًا واسعًا في اللغتين الفرنسيّة والإنكليزيّة. وقد رأيتُ أن أصوغ منه مقالاً باللغة العربيّة نظرًا إلى الأهميّة التي يكتسيها موضوعُه في ضوء الموجة الثوريّة العارمة التي تجتاح منطقتنا.
** جرى تنقيحُ الترجمة العربيّة لنصّ ماركس المتوفّرة على الإنترنت (على موقع الاشتراكيين الثوريين في مصر) كلّما ابتعدتْ عن معنى النصّ الأصليّ باللغة الألمانيّة.
المقالة منشورة في مجلة الآداب, عدد ٧-٩ /٢٠١١
إضافة تعليق جديد