السنة .. زحمة تاريخية
الجمل ـ بشار بشير: ما هو حال الكتلة الأكبر من المسلمين أين تضع نفسها وإلى أين تسير وأين ستصل ؟
أما سنة الله فالكل تابعها مؤمناً أم كافراً فهي القوانين الطبيعية والكونية التي تسيّر كل شيء لذلك لا خيار لأحد في الخضوع لها . أما السنة النبوية فهي سيرة وطريقة رسول الله ونبيه محمد (ص) وقد زاد عليها ماورد في الحديث النبوي : سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ ( لن أناقش هنا مدى صحة هذا الحديث ). وهكذا أصبح كل المسلمين أهل السنة بلا إستثناء , فالكل يتبع سنة الرسول وكل مسلم يتبع بشكل أو آخر سنة واحد أو أكثر من خلف الرسول (ص) المهديين . ولوقت طويل امتد من بدء الدعوة إلى ما بعد وفاة الرسول وكثير من خلفائه, لم يكن هناك ذكر لأهل السنة و لم يكن هناك مذهب سني و لا غيره من المذاهب فالكل كانوا مسلمين ويتبعون السنة.
بدأت مشاكل الحكم في الإسلام فور وفاة الرسول ووصلت إلى الإقتتال وانقسم المسلمون, لكن أحداً منهم لم يقل أنه هو أهل السنة وأن الباقين خارجين عن السنة , حتى عندما تشكلت فئة معارضة دينياً وسياسياً أُطلق عليها اسم الخوارج, لم يُطلق على الفئة التي تقابلها أو على الأكثرية أسم أهل السنة.
لم يبدأ مفهوم أهل السنة بالظهور إلا في العصر العباسي عندما أطلقت السلطة أسماءً على معارضيها ومناوئيها مثل القرامطة و الرافضة (الشيعة) والزنج ، وأصبح لا بد من اسم جامع لكل ما عدا هؤلاء المعارضين سواء كانوا من الموالين للحكم أم من الأكثرية الصامته او حتى من المعارضة الصامتة, وهكذا ظهر اسم أهل السنة وهم عموم المسلمين وقد قصد منه أن يوحي بأن عموم المسلمين موالين للسلطة في مقابل معارضيها وأضيف له كلمة الجماعة ليصبح أهل السنة والجماعة بما يوحي بتآلف وإتفاق هذا السواد الأعظم من المسلمين ( الذي يعوزه الإئتلاف والإتفاق ) .. والحقيقة ان مفهوم أهل السنة والجماعة منذ البداية كان سياسياً أكثرمنه دينياً وهو كان يضم كل اللذين لم يسعوأ للثورة على الحاكم أو إدعاء الأحقية في الحكم أكثر مما كان ضاماً لأصحاب طريقة ومنهج معينين في فهم وتفسير وممارسة الإسلام والدليل أن المعتزلة الذين كان الخلاف الديني والفلسفي معهم على أشده لم يعتبروا خارج أهل السنة لأن الخلاف معهم لم يكن على الحكم .
وهكذا تبلور مفهوم أهل السنة بإعتبارهم الأكثرية المقابلة لكل المعارضات والتي يأتي الشيعة على رأسها وسرعان ما أستقر رأي "أهل السنة" على إعتبار الشيعة هم المعارضة الوحيدة والدائمة لهم.
هوس أهل السنة بالبقاء كأكثرية مطلقة صاغ فلسفتهم التي أصبحت تقبل أي اختلاف أو خلاف في الفهم والشرح والممارسة للشرع والفقه وتُبقي المختلفين معها تحت عباءتها بإعتبارهم مذاهب ضمن الطائقة.. المحذور الذي يُخرج من الطائفة كان المس بشرعية الحكم أو تأييد المعارضة الشيعية. نستطيع أن نفهم تحمل أهل السنة لأي شيء في سبيل البقاء أكثرية، لأن السنة في العصر العباسي كانوا بمنزلة الحزب الحاكم الذي يستمد شرعيته من كونه الأكثرية أكثر مما يستمدها من حجج فقهية وشرعية يستطيع خصومه الشيعة سوق حجج ربما أقوى منها .
تَحدد شكل الطائفة السنية في صدر العهد العباسي وتحَدد في ذلك الزمن خصومها وشكل خطابها وفلسفة وجودها اللذين ظلت أمينة عليهم ولم تغيرهم تقريباً حتى وقتنا هذا. فالطائفة السنية تعتمد ( بشكل غريب لا يتوافق مع حجمها ) خطاب تعبوي مناسب لأقلية أكثر مما هو خطاب لأكثرية , وهي لا زالت تعتمد خصماً معارضاً واحداً هو الشيعة أما أي خلاف أو اختلاف آخر معها فتبقيه ضمن عباءتها مهما بلغت درجة غربته عن مفاهيمها ومفاهيم الدين (مثلاً تحليل الزنا على اساس أنه نكاح جهاد لا يُخرج صاحب هذه الفتوى من طائفة أهل السنة والجماعة بينما يَخرج من الطائفة من يعتمد الإمام جعفر الصادق "مثلاً" كمرجع ديني ) . ولعل أهم ملمح لأهل السنة هي عدم وجود مرجعية جامعة لهم. للسنة الكثير من الفقهاء المرموقين والمؤثرين على مر التاريخ لكن الغريب أنه لا توجد شخصية واحدة استطاعت أن تكون مرجعية جامعة بلا خلاف لكل أهل السنة، يعود هذا لعدة أسباب بعضها متعلق بسياسة الحكم في العصر العباسي وبعضها الآخر نتيجة الإمتداد الجغرافي والإجتماعي الكبير للطائفة من غرب إفريقيا إلى شرق آسيا ( كيف يمكن لمرجعية واحدة المواءمة بين أمازيغ شمال غرب إفريقيا مع إيغور شرق آسيا ) و سبب آخر لعدم وجود مرجعية موحدة هو سعي الكثيرين ليكونوا مرجعية للطائفة مما تسبب بتشتيت الطائفة بين المرجعيات و أدى على المدى الطويل لتعايش الطائفة مع فكرة عدم وجود مرجعية جامعة وقائدة .المحاولات المعاصرة لإيجاد مرجعية تفهمت الموجبات التاريخية والسياسية والإجتماعية التي منعت وجود "شخصية" مرجعية لذلك قامت تلك المحاولات على أساس خلق "هيئة" مرجعية مثل الأزهر في مصر و هيئة كبار العلماء في السعودية وعلماء بلاد الشام في سورية . لكن حتى هذه المحاولة لم تنجح (الخوض في أسباب عدم النجاح يحتاج لمقالة خاصة ) وأهم نتائج عدم وجود مرجعية موحدة لأهل السنة والجماعة كان ظهور عشرات المرجعيات التي لا يُخفي أغلبها إرتباطاته وأهدافه الضيقة جداً والتي تتناقض في كثير من الأحيان مع صالح ومصالح الطائفة, ولعل أكبر أسباب هذه الفوضى المرجعية هي كون الباب مفتوحاً لكل من هب ودب ليتعشم في أن يكون قائداً أو موجهاً للطائفة الإسلامية الأكبر وفي أسوأ الحالات لقسم منها كبر أوصغر . هذا الباب المفتوح هوفي الحقيقة جزء بنيوي من الطائفة سمح بإدخال التطرف والعنصرية دون قيد أو شرط ليصبحوا جُزءا من مكونات الطائفة.
في الماضي كان الإغراق في التأكيد على الهوامش والجزئيات وغير المطروق من الأسئلة والتفاسير والحلول هو الطريق للبروز في الطائفة وهو السبيل لإبقاء الطائفة متراصة من جهة وملتهية عن الخوض في السياسة والحكم من جهة أخرى, في زمننا المعاصر اصبح التطرف والأخذ بأكثرالأحكام تشدداً (وربما غرابة) والتساهل مع الغرائز الجمعية هو الطريق المفضل للطامحين بقيادة الطائفة. وأصبح من الطبيعي اليوم أن نجد من يقول أن الإسلام دين سلفي أي أننا قبلنا ربط الإسلام بأشخاص مضوا هم وتجربتهم منذ أكثر من ألف سنة , رغم أن الإسلام (ككل الأديان) هو دين حنيف أي يميل ويجنح نحو السير مع حركة المجتمع ولايقف عند تجربة تاريخية ولا يغادرها, وهذا ما يفرق بين الدين السماوي الإلهي القادرعلى التطور والتحرك ومواكبة حركة المجتمع لأنه نتاج رؤية إلهية شاملة وبين القوانين الإنسانية الوضعية الصالحة لزمن ومجتمع محدودين نتيجة لمحدودية النظرة البشرية التي لا يمكن أن تقارن مع الرؤية الإلهية .
اهل السنة والجماعة لم يستطيعوا أن يكوّنوا كتلة متجانسة ولم ينتجوا قيادة دينية موَّحدة وهذا في الحقيقة أمر غير مطلوب منهم نظراً لسعة أمتداد الطائفة ولكن ما كان مطلوباً هو إيجاد صيغة جامعة للقيادات الدينية السنية بحيث تشكل طبقة متآلفة متفقة كما هو اسمها ولكن ما حصل هو أن الأطماع والحكام والسياسيين هم من قادوا الطائفة على مر تاريخها وهكذا حولت المصالح الشخصية وضيق الرؤية وقلة الفهم والوعي أهل السنة والجماعة على مر تاريخهم من أمة إلى طائفة ثم إلى مذهب والآن هي في طور تحويلهم إلى عشائر و شراذم وعصابات .
الجمل
التعليقات
تصحيح تاريخي جزئي
الواقع الحقيقي للإسلام و المسلمين في مواجهة التهم الموجهة لهم
ردود للسادة القراء
الحمل بما جمل
تصحيح
إضافة تعليق جديد