الإسلام في النهضة: مهاجماً أم مدافعاً ؟
في كتابه الصادر حديثاً «بيروت والحداثة: الثقافة والهوية من جبران إلى فيروز» (دار النهار 2010) يستعيد كمال ديب مقولة هشام شرابي الرتيبة والخشبية والتي لا نزال ندور حولها منذ أربعة عقود كاملة، حول الاتجاهات الثقافية العربية العصرية ويقول إن بيروت - كغيرها من الديار العربية خاصة في مصر وبلاد الشام - شهدت خلال ما اصطلح على تسميته بعصر النهضة العربية الثانية ثلاثة تيارات فكرية (ص 64 – 66). الأول، يمثله المثقفون المسيحيون، ويدعو إلى الانفتاح على الغرب ويقول بالعلمانية ولم يكن همه، بالطبع، نهضة الدين وإصلاحه بل العمل المعارض للسلطنة العثمانية والمناداة بالقوميات المحلية. أما التيار الثاني فهو التيار الإسلامي المحافظ الذي رفض الانفتاح على التيارات الأوروبية والثقافة الغربية وعاد إلى التقليد واستمدّ الوحي من التراث واعتبر أن الماضي وليس الحاضر هو محور العصر الذهبي الذي يجب استعادته. أما التيار الثالث فهو التيار الإصلاحي الإسلامي المتنور المتسلح بإدراك عقلاني على رغم أن إصلاحه بقي في إطار التقليد وكان هدفه حماية الإسلام والمؤسسات التي يقوم عليها. وظل هؤلاء المثقفون المسلمون ذوو القناعات العلمانية المشابهة للقناعات العلمانية للمثقفين المسيحيين في شكل أساسي نافرين من الغرب مهما كان «تغربهم» تاماً.
السؤال الضائع هو لماذا اشترك المثقف المسلم المحافظ والمثقف المسلم الإصلاحي و «العلماني» في هدف محاولة حماية الإسلام والمؤسسات التي يقوم عليها بينما لم يكن لدى المثقف العلماني المسيحي مثل هذا التوجه بالنسبة لمعتقداته ومؤسساته الدينية؟ لم تجر محاولة الإجابة عن هذا السؤال بجدية لا من قبل كمال ديب ولا هشام شرابي من قبله ولا غيرهما ممن أخذ بهذه الفكرة لأن الغالبية العظمى من المثقفين العرب الذين تناولوا موضوع «النهضة» خاصة في المشرق يضمرون اعتقاداً لم يستطيعوا الجهر به (وان كان أدونيس الاستثناء الذي اقترب من الإفصاح عنه) وهو أن هنالك مشكلة عضوية في الإسلام تقاوم التقدم. الا أن بعض المستشرقين وقادة الاستعمار الغربي كانوا قد جهروا بهذا الاعتقاد مثل اللورد كرومر الذي كان يردد مقولته الشهيرة: «الإسلام الإصلاحي لا يعود إسلاماً!» «Islam Reformed Is Islam no more».
ينسى كثيرون ان للأفكار النظرية أطراً تاريخية وهي تتوالد من الاحتكاك مع الواقع كما من الأفكار التي تسبقها. أما الإطار التاريخي لأفكار الحداثة العربية التي انتشرت في القرن التاسع عشر فكان إطار توسع الاستعمار الغربي «المسيحي» و «المسيحي التبشيري» و «العلماني» على حد سواء مع ما رافق ذلك من تراجع سلطة الدولة العثمانية «الإسلامية». وبالطبع، لم تكن هوية «المسيحي» العربي الدينية مهددة وان كانت هويته الوطنية تجابه نفس ما تجابهه هوية المسلم العربي الوطنية. لذلك، قد يكون المثقف المسيحي قد تحمس للحداثة سعياً للتقدم وحفاظاً على الوطن، ولكنه لم ير تهديداً لمعتقداته الدينية ومؤسساتها التي كانت تحميها فرنسا وبريطانيا وروسيا وغيرها من الدول الأوروبية وكذلك المبشرون الأميركيون البروتستانت والآباء اليسيوعيون الكاثوليك وغيرهم من الأجانب الذين أنشأوا المدارس والكليات الدينية والعلمانية الغربية.
أما المثقفون المسلمون ومثلهم جمهور المسلمين فكانوا يخافون من أن يسعى الغرب لا الى احتلال بلادهم فحسب، بل إلى محاولة الإجهاز على معتقداتهم ومؤسساتها. ولم لا يخافون فلقد كانت الحروب الصليبية لا تزال حاضرة في مخيلتهم التاريخية الجماعية؟ كما لا تزال التجربة نفسها حاضرة في المخيلة الجماعية الغربية. واذا كانت قد مرت ستة قرون على تلك التجربة الدموية القروسطية، فإن ما عبر عنه في العصر الحديث أكثر من كاتب أوروبي ترجمت كتاباته وآراؤه الى العربية ونشرت في صحف المشرق ومصر كان يتلخص في أنه لا بد من التخلص من الإسلام ولا بد من تنصير المسلمين كي يدخلوا المدنية الحديثة! وقد ذكر السياسي والكاتب الفرنسي غبريال هاناتو (1853 – 1944) أحد هؤلاء وهو د. كيمون في مناظرته الشهيرة مع محمد عبده في نهاية القرن التاسع عشر. وكان كيمون قد وصل الى حد الدعوة بتدمير الأماكن الإسلامية المقدسة للتخلص من الإسلام. وقد نشر كتاباً في 1897 بعنوان «مرض الإسلام وأساليب القضاء عليه!» هذا إضافة إلى كاتب آخر، هو جول سيكار، الذي لم يصل الى هذه الدرجة من العدائية وان كان يعتبر أن الإسلام لا يتوافق مع حضارة الغرب الحديثة لأنه مختلف عن المسيحية. وقد ظل هذا الأمر يتفاعل لأن المسلمين كانوا ينظرون في شكل خاص إلى سياسة فرنسا الدينية واللغوية في الجزائر وكيف أنها كانت تسعى بكل قواها إلى فرنسة الجزائريين وتنصير المسلمين. لذلك، كان شعار المقاومة الجزائرية كما أعلنها عبدالحميد بن باديس دالاً وملخصاً لثلاثة هواجس مطروحة تتعلق بالدين واللغة والأرض: «الإسلام ديننا. العربية لغتنا. الجزائر وطننا».
بالتالي، لم يكن خوف المثقف العربي المسلم من الغرب مقتصراً على الخوف على الاستقلال الوطني، بل تجاوز ذلك إلى الخوف على المعتقد الديني الإسلامي ذاته.
وقد التقط المثقف العروبي المسيحي، ندرة مطران، في 1913 هذا المعنى الذي نشير إليه حيث قال في خطاب له قبل نحو قرن من الزمان:
«رأينا الحجاز ونجداً وقلب البلاد العربية لم يخضع لحكم حاكم ولا لغزو غاز حتى ولا جنكيزخان وتيمورلانك على أن تلك البلاد مستودع دين الإسلام والمسلمين. فهل يا ترى تجد أوروبا غرضاً في اكتساح بلاد هي قبلة كل مسلم ولو كان في الصين ومرجع كل مؤمن من المسلمين؟ أليس من الحكمة أن تبقى الأماكن المقدسة من فلسطين إلى جزيرة العرب وديعة بيد العرب... أليس من الفطنة أن يبقى لمسلمي العالم متنفس حرّ في بلادهم المقدسة؟»
وربما نستطيع أن نربط هذه المسألة بمسألة أخرى أكثر راهنية تتعلق بظاهرة تحول بعض الشباب المسلم الذي ولد ونشأ في الغرب، إلى العنف ضد المجتمع الغربي واعتبره معادياً له. وتنشر الغالبية الغالبة من الصحافة الأجنبية أن سبب الظاهرة هي أنه على رغم أن هؤلاء الشباب عاشوا في بيئة غربية منذ نعومة أظفارهم إلا أنهم فشلوا في الاندماج في المجتمع الأوروبي أو الأميركي. غير أن الكاتب الهولندي/ البريطاني إيان بوروما Ian Buruma يقدم تفسيراً مختلفاً في كتابه «ترويض الآلهة: الدين والديمقراطية في قارات ثلاث «Taming the Gods : Religion and Democracy on Three Continents (Princeton, 2010).
ومع أن الكتاب يرجع بنا إلى أفكار الخوف الغربي من الإسلام الذي لا يقتصر على «الإسلام الثوري» أو «الإسلام الراديكالي»، بل يمتد إلى ما ذكره المفكر الاجتماعي الفرنسي ألكسس دوتوكفيل في منتصف القرن التاسع عشر من ان الإسلام لا يتوافق مع «الأفكار المتنورة» و «القيم الغربية» (وكأن تلك الأفكار والقيم كانت متطابقة منذ ما قبل العصر الحديث) في أوروبا، فإن المؤلف يعتقد أن الغرب بسلوكه ومواقفه الخائفة من دون مبرر تلك هي التي تقف وراء رفض الغرب لاندماج المسلمين الذين يعيشون في أوروبا وأميركا في تلك المجتمعات وليس رفض الشباب المسلم للاندماج. ان هذا الرفض الغربي المصاب بالرعب من الإسلام والمسلمين (مع انه الأقوى بمراحل) هو الذي يصيب الشباب المسلم «المتغرب» بالإحباط لأن الغرب لا يقبلهم، بل يحاربهم ويرفضهم، إلا إذا قاموا بتغيير هويتهم الدينية والخروج عليها ومهاجمتها كما فعل عدد من الكتاب العرب والمسلمين فنالوا شهرة واسعة وترحيباً ونجومية في البلاد الأوروبية والولايات المتحدة.
ويذكرني كل هذا بعبارة لأحد الإصلاحيين الإسلاميين في بداية القرن العشرين حيث كتب يقول ما معناه: «ليس الإسلام هو من يرفض الغرب كما هو شائع، بل إن الغرب هو الذي لا يود إقامة علاقة تسامح ومودة مع الإسلام!».
محمود حداد
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد