حرب الجولان وتوازن الردع
«توازن الردع» والمواجهة المقبلة
يقترب الصراع بين حلف المقاومة والعدو الإسرائيلي من حدود التفجر الكامل، لا سيما بعد عملية مزارع شبعا وإعلان السيد حسن نصر الله تغيير قواعد الاشتباك التي حكمت الطرفين بتوازنات ومعادلات سياسية واستراتيجية، جعلت سبل المواجهة محصورة في إطار ردود الفعل الانتقامية المضبوطة. لكن التطور الأخير بدا إرهاصاً لحالة جديدة تختلف كلياً عن خطوط اللعب السابقة، لكونها تنطوي على بعدين على الأقل: أولهما، يتعلق بنمط الصراع الذي يتجه لأن يأخذ طابعاً رباعياً من جهة حلف المقاومة، وهذا ما عبّر عنه صراحة القائد العام لكتائب «القسام» محمد ضيف، عندما قال إن «على قوى المقاومة في الأمة، أي سوريا وإيران و «حزب الله» وفصائل المقاومة الفلسطينية، أن تدير معركتها القادمة واحدة، تتقاطع فيها النيران فوق الأرض محتلة». أما البعد الثاني فهو أنّ الحلف بقوته الصاعدة يهدف إلى تقويض أركان النظام الجديد للمنطقة وقواعده كافة، من خلال اشتباك مباشر مع العدو الإسرائيلي.
إسرائيل بدورها تعيش تناقضات داخلية، تفتقر معها إلى مقومات خوض حرب رابحة، وفي الوقت نفسه، لا ترى خياراً لبقائها واستمرارها إلا بالعبور إلى حرب توفّر لها الضمانات الكافية لتأمين أمنها، بعدما ارتفعت درجة المخاطر الإستراتيجية التي بدأت تأكل من هيبتها وقدرتها على الردع. التخبط الذي اجتاح المنطقة أواخر العام 2010 كاد أن يصبّ بالكامل لمصلحتها. حسبت أنّ الفوضى والإرهاب سيأكلان القوى المركزية والهامشية في المنطقة على حدّ سواء، وسيبتلعان القضية الفلسطينية على نحو نهائي، ما يمكنّها من ضبط التفاعلات الصراعية على ضوء صعود قوى متطرفة تتكفل باستنزاف إيران و «حزب الله» حتى لا يكون لهما سبيل إلى مواجهتها. لكن توقع القادة الإسرائيليين لطبيعة التطورات كشف عن خلل في الرؤية وعجز في توليد الخيارات، بل ظهر الإرباك كسِمة ملازمة لطريقة إدارتهم للأزمات الخارجية. فخلال العدوان على غزة، بدا الجيش الإسرائيلي كتجمع فضفاض يفتقد التماسك والروح المعنوية، وما يجهله عن قدرات وإمكانات المقاومة الفلسطينية أكثر مما يعلمه، وما يحفل به من تناقضات أكبر من أن يعبّر عن استراتيجيات محكمة أو يعكس سياسات واضحة. وخلال جلسات التقييم التي أعقبت العدوان، كان واضحاً أنّ مؤسسات صنع القرار الأمني والسياسي في الكيان الإسرائيلي قد مُنيت بفشل لا يتصل بالحسابات والأهداف العسكرية فحسب، بل بطبيعة التوازنات الإقليمية ودور حلف المقاومة ونفوذه وتأثيره. وبسبب إغفال القيادات الإسرائيلية نفسها الكثير من الدروس إبّان الحروب التي شنتها على المقاومة في لبنان، فقد وقعت مرة أخرى في سوء تقدير القدرات التي يمتلكها «حزب الله»، رغم أنّ الكثير من التحقيقات والمعلومات الإستخبارية تضمنت إقراراً يبيّن تنامي إمكانات الحزب كمّاً ونوعاً، وقد لوحظت بصماته واضحة خلال معارك القصير في أيار 2013، حتى جاءت عملية شبعا بحجمها الطموح استراتيجياً لتُحدث تحوّلاً كبيراً في علاقات الصراع، حيث أعطت دفعاً ديناميكياً لتسريع عملية توحيد الجبهات وتشبيك الميادين في إطار تطوير المواجهة القادمة. التحول الكبير في موازين القوى يؤيد هذه الفرضية، وفي هذا يقول الصحافي الإسرائيلي يوسي يهوشع، إنه إذا كان هناك ضباط في الجيش الإسرائيلي «يعتقدون بأن الردع الذي ساد منذ حرب لبنان الثانية لا يزال قائما، فإن ما حصل في شبعا يثبت بأن هذه النظرية انهارت وأن الردع مات»، مشيرا إلى أن «حزب الله» «لا يلعب، بل يقرر على الأرض قواعد قتال جديدة ويدور الحديث فقط عن مسألة وقت إلى أن يشتعل دخان الوقود إلى حرب تقع أغلب الظن على جبهتين».
ولعل أبرز الخلاصات عما سيجري في قادم الأيام، هي في أن نعيد قراءة الوثيقة الكاملة لتقرير فينوغراد الذي أشار في احدى فقراته إلى قدرة « حزب الله على الجلوس على الحدود حقاً، وقدرته على إملاء توقيت التصعيد».
صادق النابلسي- السفير
حرب الجولان.. إشكالية العدو القريب والعدو البعيد
إن كانت إسرائيل بضربتها في القنيطرة قد أخرجت «حزب الله» من حرج وجود في سوريا تشوبه شبهة الدوافع والخلفيات، على ما يفترض خصومه والأعداء، فإن ما قاله السيد حسن نصرالله عن «جيش لحد سوري» عماده «جبهة النصرة» بالآلاف من مقاتليها ودباباتها ومدافعها على الشريط الشائك في القنيطرة، يستدعي قراءة في واقع اشتباك أسبابه فكرية ونهاياته وجودية، تختلط فيه مجريات الميدان وتبدلاته بمقدمات إيديولوجية واعتقادية، شاعت منها مقولة «العدو القريب والعدو البعيد».
وإذا كانت المواجهة العسكرية بين «حزب الله» والجماعات التكفيرية أحد تجليات الاختلافات المنهجية والمفاهيمية وما هو أكثر، فإن الحزب لا يحتاج كثير جهد لرد تهمة انحراف أولوياته وتغير وجهة بندقيته، وهو نظرياً وعملياً يثبت ان المواجهة مع إسرائيل في مقدم ما يعتقد به ويعمل عليه، وما يعترضه من مواجهات ومخاطر على الهامش، في سوريا أو في غيرها من الساحات، لا يعدو كونه جزءاً من المواجهة الأساس التي تستوجب حماية ظهر المقاومة.
حدد «حزب الله» قولاً وفعلاً أولويته القائمة على بناء فكري اعتقادي، والمستندة الى تجربة مقاومة لا غبار على جديتها وجدواها في مواجهة الاحتلال والخطر الإسرائيليين. أما جماعات ما يسمى بالسلفية الجهادية، فلم تبنِ سوى على أولويات مختلفة تبدو إسرائيل في آخر سلّمها. ففي كتاباتهم ونظرياتهم القائمة على جدلية مناقشة إشكاليات الحكم والحاكمية وعقيدة الولاء والبراء وإقامة الخلافة، لا يتناول منظرو الفكر التكفيري الخطر الصهيوني إلا عرضاً وفي سياق التمهيد لفكرة أو اختتام فكرة أخرى. ومن ينقب في اثنتين من أبرز ما تسرب من مقولاتهم المكتوبة أي «إدارة التوحش» لأبي بكر ناجي و «المذكرة الاستراتيجية» لعبدالله بن محمد، يقف في أكثر من مورد على تأجيل للبحث في ما يسمونه الخطر الصهيو - صليبي، والمقصود به على ما يبدو من سياقات بحثهم الخطر الغربي وليس الإسرائيلي، ولا تنتهي إحالة القارئ الى التأجيل حتى مع انتهاء الصفحة الأخيرة من المقولتين المذكورتين، وكأن منظّرَي «إدارة التوحش» و «نظرية الذراعين»، وقعا في سهو أو ارتكبا فعل تناسٍ، أو هما في غير وارد التأسيس لفكرة مواجهة إسرائيل، ولو نظرياً.
وبدا أن صاحب «المذكرة الاستراتيجية» مأخوذ بتجربة الحركة الصهيونية لكثرة ما استشهد في مذكرته باستراتيجيتها لإقامة دولة إسرائيل من مؤتمر بازل الى أسلوب عصابات «شتيرن» و «أرغون» و «هاغانا» في إثارة الفوضى لإدارة التوحش («المذكرة الاستراتيجية» ص 49).
ومن دون حتى ذكر اسرائيل بالاسم، يبرر منظرو «السلفية الجهادية» إسقاطهم مسألة مواجهة إسرائيل من حساباتهم، بأولوية مواجهة العدو القريب أو العدو الداخلي، أي بمعنى آخر المسلم الآخر من «الرافضة والمرتدين الى المخالفين أو المجاورين» (ومن المجاورين المفترض مواجهتهم جماعة «الأخوان المسلمين» التي يسميها أبو بكر ناجي صراحة ويشير تلميحاً الى حركة «حماس» في باب مخالفتها عقيدة الولاء والبراء)، ويبرر زميل آخر له في صوغ استراتيجيات «السلفية الجهادية» بأنه «لا يمكن لنا عسكرياً أن نقاتل العدو الخارجي في ظل عدو داخلي ينتظر تسديد طعنات لنا في الظهر». ويتحدث ثالث عن «مقاتلين عقائديين أخذوا على عاتقهم مقارعة العدو القريب والمتمثل في الحكام المرتدين المبدلين لشرع الله». ويربط رابع منهم أمر العدو البعيد بانتهاء مرحلة مصاولة العدو القريب، بينما يقدم خامس لجلاء مرحلة شوكة النكاية والانهاك، وبالتالي إنجاز إدارة التوحش.
مقتطفات قليلة من أفكار عقيدية وملزمات فقهية تؤكد أن نخبة التكفيريين الجدد، أي منظرّي الجيل الثاني من تنظيم «القاعدة» وقادة «داعش» و «النصرة» من الزرقاوي الى البغدادي الأول والبغدادي الثاني والجولاني، لم يكونوا، وليسوا بوارد فتح جبهة ضد اسرائيل لا آنفاً ولا راهناً ولا في المقبل من سنين وعقود، بانتظار بلورة التمكين لإقامة الخلافة والقضاء على كل المرتدين والخوارج (النصرة مرتدة بنظر داعش، داعش خوارج بالنسبة للنصرة) والمخالفين والمجاورين (الاخوان وحماس وغيرهم) والصحوات (الجماعات والقبائل السنية) والرافضة أو الصفوية (الشيعة) والنصيرية (العلويين) والصليبيين (المسيحيين) والكفار (باقي الأقلـــــيات والطوائف والمذاهب)، أي كل آخـــــر أي آخر، ما عــــدا «الطائفة المنصورة» التي يختزلونها بمعتقدي السلفية الجهــــادية.
وإن اختلف جيل «القاعدة» الثاني عن الجيل المؤسس في الممارسة العملانية لجهة إسقاط أولوية العدو البعيد من برامج عمله في فعل تأسيس لإسقاطها من وعي المناصرين والاتباع، فإن أدبيات الجيل الأول من بن لادن الى الظواهري كانت أيضاً لفظية غير عملية، فالتيار التكفيري لم يخض أي مواجهة ضد العدو الإسرائيلي ما خلا إطلاق بضعة صواريخ عشوائية من خارج الحدود عبر لبنان والأردن لاستخدام ذلك كرسائل لأعداء الداخل من حركات مقاومة ودول عربية، وحتى البنية القوية لـ «القاعدة» عبر «انصار بيت المقدس» في سيناء المصرية المحاذية للكيان الإسرائيلي لم تقم بأي عمل يعتد به ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي فيما هي تعمل بفعالية ضد الجيش المصري.
وإذا ما تم استثناء عمليات قليلة ضد المصالح الإسرائيلية في أفريقيا، وبعض الصواريخ الاستعراضية عبر الحدود ضد إسرائيل، فالسؤال الذي يجب طرحه باستمرار هو كم عدد العمليات التي نفذتها «القاعدة» ومتفرعاتها ضد إسرائيل وإذا كان عدد من نفذوا عمليات «انتحارية» في أفغانستان وباكستان والعراق وسوريا وحتى في لبنان قد بلغوا الآلاف، فكم عملية انتحارية نُفذت ضد إسرائيل؟.
سؤال آخر يصل حد المفارقة الغريبة المريبة، كيف أن غالبية منظري السلفية الجهادية وقادة «القاعدة» ومتفرعاتها هم من الدول العربية المعروفة بدول الطوق المحيطة بفلسطين المحتلة وجميعهم نفر مجاهداً بعيداً عن فلسطين وطلق قضيتها طلاقاً خلعياً لا رجعة فيه، فعبد الله عزام المنظر الأول لـ «القاعدة» فلسطيني، وأيمن الظواهري مصري، وأبو محمد المقدسي أردني فلسطيني، وإليهم تبرز أسماء أبو مصعب السوري وأبو محمد اللبناني وأبو قتادة الفلسطيني وغيرهم. أما أبو محمد الجولاني زعيم «النصرة» النسخة الشرعية لـ «القاعدة» فهو كنّى نفسه بهذا الإسم إما لأنه قد يكون من الجولان وإما تيمناً بمنطقة يعتبرها عـــــزيزة على قلبه وذات أولوية في وعيه الأول قــبل التبدل والتحول.
ورب قائل إن «النصرة» وأخواتها، ربطاً بتموضعها المشبوه في الجولان والقنيطرة، تعمل وفق مصلحة آنية تفرض عليها تحييد الإسرائيلي والإفادة ما أمكن منه لوجستياً واستشفائياً لغاية رد الصائل وقتال الجيش السوري، ورب مفرط في إمكان قبول إنسانية بنيامين نتنياهو برعايته جرحى «النصرة» والجماعات الأخرى في المستشفيات الإسرائيلية، لكن عاقلاً لا يمكنه أن يغفل عن مدى التقاطع الحاصل، مبرمجاً كان أم عفوياً، بين المشروع التكفيري والمشروع الاميركي وبالتالي الاسرائيلي، فالمشتركات كثيرة، وعلى رأسها تقسيم العالم العربي والإسلامي وتفتيته الى دويلات مذهبية واثنية، وليس من باب الصدفة أن مشروع «إدارة التوحش» قيد التنفيذ من قبل «داعش» و «النصرة» يكاد يكون نسخة طبق الأصل عن مشروع «الفوضى البناءة» الذي عملت عليه الإدارة الأميركية وما زالت.
علي الحاج يوسف- السفير
إضافة تعليق جديد