15-12-2017
هنا بغداد... العاصمة التي تنهض من تحت الرماد
هنا بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية الثالثة التي حكمت على مدى خمسة قرون من الزمن، دولة امتدت رقعتها من حدود الصين حتى تخوم المغرب، وتتوزع أرضها في عصرنا الراهن على سبع وثلاثين دولة. هنا بغداد التي بناها أبو جعفر المنصور ثاني الخلفاء العباسيين، وجلس على عرشها حكام ما زالت أسماؤهم تلمع في كتب التاريخ، بينهم هارون الرشيد والأمين والمأمون والمعتصم والمتوكل وغيرهم كثر، وكان آخرهم عبد الله بن المنصور الذي قتله التتار عندما دخل هولاكو بغداد وأحرقها وهدم بنيانها بحيث لم يبق من آثارها اليوم حجر على حجر.
هنا بغداد عاصمة الخلافة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس، بعدما خفت وهج روما وأثينا وبلاد فارس ومصر النيل وممالك ذاع صيتها، وقبل أن تُكتشف أميركا، فكانت محط أنظار الشرق والغرب، علماً وفلسفة وأدباً وشعراً وحضارة أغنت الدنيا بإنجازاتها العظيمة.
هنا بغداد التي احتفلت قبل أيام بدحر أعتى ظاهرة تدميرية وقفت على أبوابها، وهددت بسقوطها مرة أخرى على أيدي تتار العصر الحديث، لولا حمية العراقيين الذين اجتمعوا وأجمعوا على تحرير بلادهم مهما غلا الثمن.
هنا بغداد التي خرجت مساء الأحد الماضي بشيبها وشبابها إلى الشوارع للاحتفال بالنصر العظيم الذي تحقق بعد عناء شديد وكلفة باهظة تمثلت بعشرات الآلاف من الشهداء والجرحى، فضلاً عن الدمار العظيم الذي لحق بالمدن والبلدات العراقية.
لكن بغداد ما زالت كئيبة، لأنها لم تتعاف بعد من كبوتها المزمنة. فمنذ العام 1980 لم تشهد عاصمة العراق ولا أخواتها طعم الراحة، من الموصل حتى البصرة. أغرقها النظام البائد في حربين ضروسين، امتدت الأولى ثماني سنوات مع جارتها إيران، واستمرت الثانية تترنح طوال اثني عشر عاماً، بدأت باجتياح الكويت وانتهت بسقوط هذا النظام قبل 14 عاماً في غزو أميركي سُمي تحريراً. جاء الربيع العربي، فلم تنج بغداد من «أفضاله». فمن أرض العراق أُعلنت «دولة الخلافة الاسلامية في العراق والشام» (داعش)، وقاسى العراقيون شتى أنواع المعاناة، لكنهم صبروا وصابروا بكل طوائفهم وأعراقهم، وتمكنوا من تحرير بلادهم من تلك الآفة التي شغلت العالم خلال السنوات الماضية.
ولا يُسقط العراقيون من حساباتهم في هذا النصر العظيم، دور المرجعية العليا بقيادة السيد علي السيستاني الذي أفتى بالجهاد لتحرير الأرض وقتال الإرهاب «الداعشي»، فاندفع ملايين العراقيين للتصدي لهذه المهمة. وكان الحشد الشعبي الذي بلغ عديده مئة وخمسين ألفاً، وانخرط العراقيون بالآلاف المؤلفة إلى جانب جيشهم وأجهزتهم الأمنية في عملية التحرير، حتى يكاد لا يخلو بيت من شهيد في سبيل هذه العملية التي تكللت بالنصر. كما لا يسقط العراقيون من حساباتهم الدعم الذي قدمته الجمهورية الإسلامية الإيرانية وحزب الله وقوى أخرى سيكشف عنها الزمن.
بغداد تنهض اليوم من تحت الرماد. للمرة الأولى منذ زمن طويل، كان شارع المنصور الشهير في قلب بغداد يوم الأحد الماضي يضج بالحياة حتى ساعات الفجر الأولى. كانت المدينة بكل أحيائها وشوارعها قبل ذلك تنام عند المساء، فلا يبقى في الشوارع غير رجال الأمن المنتشرين بكثافة غير عادية في إطار «حواجز السيطرة» كما يطلق عليها العراقيون.
تحتاج بغداد إلى الكثير الكثير لكي تستعيد عافيتها الكاملة، وتعود تلك المدينة التي يقول العراقيون والزوار إنها كانت في ما مضى حاضرة المدن العربية التي أطنب الشعراء في وصف روعتها وجمالها وحيويتها وحضورها.
زحمة السير في بغداد وعلى مداخلها تكاد لا توصف رغم الشوارع الفسيحة التي تشق المدينة من أبوابها المختلفة. لكن مدينة تحتضن أحد عشر مليون إنسان نهاراً، وسبعة ملايين ليلاً، تحتاج إلى إعادة تنظيم شاملة لشوارعها لكي تستوعب كمية السيارات الهائلة التي تدور فيها. تحتاج بغداد إلى الاطمئنان لرفع مئات الحواجز الأمنية الثابتة والمتنقلة من شوارعها، والتي تسهم إسهاماً كبيراً في عرقلة حركة المرور. من يتجول في بغداد يشعر بأنه في مدينة محبوسة داخل أسوار مغلقة. السواتر الإسمنتية تلف كل مؤسساتها الكبرى، وبعلو شاهق يحجب الأنظار عن كثير مما تريد العين أن تراه. النموذج الأكبر في هذا المجال تمثله «المنطقة الخضراء» المحاطة بسياج أمني لم تشهده مدينة من قبل، فيما الدخول والخروج من هذا المربع الكبير يخضع لإجراءات عصيّة على التحمل، خاصة وأنها تضم المقرات الرسمية الأساسية في البلاد.
نهر دجلة الذي يشق المدينة من شمالها إلى جنوبها، متدللاً بين أحيائها، يبدو بدوره كئيباً، بعدما انخفض منسوبه بشكل واضح، ما أدى إلى شبه انعدام للملاحة النهرية، اللهم إلا من بعض المراكب الصغيرة التي تجوب مياهه بخجل.
لا يُخفي العراقيون انزعاجهم من حالة عاصمتهم، لكنهم في الوقت نفسه تحمّلوا ما فات من هذه الحالة تحت مبرر الحرب والأخطار الأمنية والتفجيرات التي حصدت الآلاف من الشهداء. أما وأن الحرب قد انتهت فهم لن يسامحوا أو يتسامحوا مع أي تقصير يمنع عن مدينتهم عودتها الى الحياة.
يراهن العراقيون على الانتخابات المقبلة في ربيع العام المقبل، على رغم بعض المنادين بتأجيلها بهدف التحضير المتقن لها. يحلمون بإدارة جديدة تقطع دابر الفساد الذي أزكم الأنوف، والفوضى التي انتعشت على هامش الحروب المتعاقبة. فالعراق بلد غني بموارده الطبيعية، ومن حق العراقيين أن يعيشوا بكرامة في دولة مستقلة وسيّدة. فالحاجة عادة تُغرق البلاد في التبعية. لكن العراق قادر بخيراته الغزيرة على أن يحقق قدراً كبيراً من السيادة والاستقلال، رغم صراع الدول الكبرى في العالم والمنطقة على هذا البلد، لاستقطاب ما يمكن استقطابه من خيراته، خاصة أن التركيبة العراقية قابلة للاختراق إلى حد كبير نتيجة التعدد العرقي والطائفي والعشائري والمناطقي.
ينظر العراقيون بكثير من التفاؤل إلى مستقبل بلادهم بعد أن دفعوا أثماناً باهظة لتحريرها، لكنهم لا يخفون هواجسهم من صراع الدول على أرضهم، فضلاً عن هاجس الخروج من زمن الحروب إلى زمن السلم. كل الدول التي شهدت حروباً وأوضاعاً أمنية مماثلة تملكتها هذه الهواجس.
يسأل العراقيون بخفر عن مصير «الحشد الشعبي» الذي قدم تضحيات غالية في عملية التحرير. كيف يمكن لهؤلاء الشبان الذين تفرغوا للقتال أن تؤمّن لهم الدولة حياة كريمة ومستقبلاً واعداً، خصوصاً أن العراق بدأ يواجه ضغوطاً دولية علنية لحل هذه «الميليشيا المقاوِمة»؟ كيف يمكن معالجة موضوع «الاقتصاد الموازي» الذي نشأ على هامش الحروب؟ كيف يمكن رفع الوصايات الخارجية عن الكثير من القوى السياسية، لتصحيح المسار الوطني للبلاد؟ كيف يمكن تحقيق الانصهار الوطني الذي اهتز في المرحلة الماضية نتيجة التحريض الطائفي والعرقي والعشائري والمناطقي، في بلد يعيش حالة بارزة من التعدد والتنوع؟
ثمة أسئلة كثيرة تضج في أذهان العراقيين، لكن السؤال الأبرز: هل يستطيع العراق في المرحلة المقبلة أن يعزل نفسه أو يحيّد ساحته عن صراعات المنطقة؟ بالتأكيد هذا الأمر ليس سهلاً. فالعراق شأنه شأن كل دول المنطقة، ليس جزيرة معزولة عن محيطه ولن يكون كذلك. والواقع أن هواجس العراقيين ليست فريدة من نوعها في منطقة ملتهبة. فمعظم الشعوب العربية اليوم تتملّكها هواجس مشابهة. وقد شهدت بغداد الأسبوع الماضي نقاشاً وافياً في هذا المجال على هامش اجتماعات الأمانة العامة والمكتب الدائم للاتحاد العام للصحافيين العرب والمؤتمر الدولي للإعلام الذي كان مناسبة لإعلان الحكومة العراقية النصر على «دولة الخلافة الإسلامية».
هنا بغداد التي تتأهب لمرحلة جديدة من تاريخها لا يحسبها المراقبون أقل خطورة من مرحلة الاحتلال والإرهاب، لأن متطلبات السلام ليست طريقاً حريرياً مفروشاً بالورود. ففي حروب التحرير الوطني تتوحد الأمم لإنجاز مهمة تعتبرها من المقدسات، لكن الرؤى تتعدد وتتفرق في مراحل السلم، خاصة في بلد كالعراق لا تزال فيه ثقافة الديموقراطية في الخطوات الأولى على طريق الألف ميل. وليس سراً أن العراقيين يراهنون على دور المرجعية الدينية في لعب دور وطني جامع في مرحلة السلم كما لعبته في مرحلة الحرب.
الصحافيون العرب: «لا تشكُ لي... كي لا أبكي لك»
شهدت بغداد الأسبوع الماضي تظاهرة صحافية جامعة، ضمت وفوداً وأفراداً من نحو سبعين دولة في العالم، أرادتها نقابة الصحافيين العراقيين مناسبة تشهد على النصر النهائي الذي تحقق على الإرهاب وتحرير البلاد بالكامل من وطأة «الاحتلال الداعشي» الذي وصل إلى أبواب العاصمة. وتزامنت المناسبة مع الاجتماع الدوري للأمانة العامة والمكتب الدائم للاتحاد العام للصحافيين العرب الذي يرأسه العراق في الدورة الحالية. وقد نظمت نقابة الصحافيين العراقيين احتفالين كبيرين في المناسبة، كان الأول في فندق الرشيد داخل المنطقة الخضراء، وحضره رئيس الوزراء حيدر العبادي وكبار أركان الدولة. أما الاحتفال الثاني، فأقيم في مقر نقابة الصحافيين العراقيين على شاطئ دجلة، وتخللته كلمات ووقفات فنية وغنائية.
وكان من الطبيعي أن يتنادم الصحافيون العرب خارج الاجتماعات الرسمية، في شؤون بلدانهم وأمتهم التي لا تسُر أحداً، في خلاصة تنطبق عليها القاعدة الشائعة التي تقول: «لا تشكُ لي... كي لا أبكي لك». فليس من عربي واحد يحسد عربياً آخر على حالة بلاده، من العراق إلى سوريا ولبنان وفلسطين واليمن ومصر وليبيا، وحتى دول الخليج التي انخرط معظمها في حروب لا ناقة له فيها ولا جمل، وهو يحاول جاهداً النزول عن شجرة التورط من دون جدوى.
دورة القدس
كانت القدس واحدة من حلقات النقاش بين الصحافيين العرب، في ظل إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب المدينةَ المقدسة عاصمةً للكيان الصهيوني ونقل سفارة بلاده إليها. وعلى الرغم من البيان الشديد اللهجة الذي اتفق عليه المجتمعون، فقد بدا واضحاً أن أياً من الصحافيين ليس مؤمناً بأنّ الأنظمة العربية ستتخذ خطوات تنفيذية تلجم القرار الأميركي، لأنها أعجز من أن تتخذ مثل هذه الخطوات. الرهان فقط على انتفاضة فلسطينية في الداخل تدعمها الشعوب العربية من الخارج بكل أنواع المساندة، لأن طريق القدس يفترض أن تبدأ من القدس أولاً.
كان موضوع القدس من خارج جدول الأعمال لأنه أعدّ قبل القرار الأميركي. لكن رئيس الاتحاد نقيب الصحافيين العراقيين مؤيد اللامي، افتتح الاجتماعات بالحديث عن هذا الموضوع، وأعلن إطلاق اسم «دورة القدس» على الدورة الحالية.
المصدر: واصف عواضة - الأخبار
إضافة تعليق جديد