الإسلام في مواجهة "الإسلاموفوبيا"
ماذا يستطيع العالم الاسلامي ان يفعل، او ماذا يتوجب عليه ان يفعل لوضع حد لتفشي ظاهرة كراهية الاسلام في الغرب، تلك الظاهرة التي تُعرف بـ"الاسلاموفوبيا"؟
للاجابة على هذا السؤال، دعا الامين العام لمنظمة المؤتمر الاسلامي البروفسور اكمال الدين احسان اوغلو الى لقاء مصغر حضره عدد من الخبراء والمختصين لا يزيد عددهم على عشرة اشخاص من العالم الاسلامي. عقد اللقاء في قصر يلدز الشهير في اسطنبول، وكان القصر قد تحول الى مركز للابحاث والدراسات الاسلامية الذي ترأسه البروفسور اكمال الدين حتى انتخابه امينا عاما لمنظمة الوحدة الاسلامية.
وقد صودف اثناء اللقاء ان الاعلام العالمي، وخاصة الاعلام الغربي، كان منشغلا بتغطية قضية تعقب تسعة من الاسلاميين في مدينة برمنغهام في المملكة المتحدة، بتهمة اعداد خطة لاختطاف جندي بريطاني مسلم لقطع رأسه عقابا له على المشاركة في القوات البريطانية في العراق.
وقبل الحديث عن اعمال اللقاء والنتائج التي توصل اليها، لا بد من الاشارة الى انه سبق للمرجعيات الاسلامية الرسمية ان اصدرت فتوى بناء لطلب المسلمين في الولايات المتحدة تجيز للجندي الاميركي المسلم ان يقاتل باخلاص وتفان مع قوات بلاده، سواء كان مسرح القتال في دولة اسلامية او غير اسلامية. واستندت الفتوى – كما هي القاعدة دائما – الى قواعد فقهية وعقيدية.
لقد استغل الاعلام الغربي التهمة الموجهة الى الاسلاميين البريطانيين – واصولهم جميعا هندية وباكستانية – ليكيل الاتهامات الظالمة الى الاسلام وليغرس اكثر واكثر قواعد الاسلاموفوبيا في عقول الناس وضمائرهم.
وكانت محطة "سي. أن. أن" الاميركية تنقل في الوقت نفسه تحقيقا من عدة حلقات حول اوضاع المسلمين في بريطانيا تحت عنوان "الحرب الداخلية". وتتضمن حلقات التحقيق مقابلات مع متطرفين اسلاميين ينددون بالديموقراطية ويدعون الى تطبيق الشريعة على البريطانيين، وحتى الى اعلان الخلافة الاسلامية في بريطانيا!!
كذلك كانت محطة تلفزيون "فوكس" للاخبار، وهي محطة اميركية يمينية متطرفة، تجري مقابلة مع كاتبة انكليزية وضعت كتابا جديدا عنوانه "لندنستان"، وفي هذه المقابلة التي اعيد بثها مرات عدة تدعي الكاتبة انه يستحيل التعايش مع المسلمين، وانهم يغلقون المناطق التي يعيشون فيها على انفسهم ويحولونها الى بؤر للارهاب ضد الآخرين.
امران لا يمكن تبريرهما. الامر الاول هو سلوك بعض المتطرفين الاسلاميين في المجتمعات الغربية. اما الامر الثاني فهو احكام الادانة الجماعية التي يطلقها الاعلام الغربي على الاسلام والمسلمين عامة، والتي لا تفرق بين الاسلام والسلوك الشاذ لهؤلاء المتطرفين.
لم يكن لقاء اسطنبول معنيا باجراء دراسات وابحاث ومناقشات فكرية واكاديمية حول ظاهرة الاسلاموفوبيا. فقد جرى ذلك في سلسلة من المؤتمرات التي عقدت في العديد من دول العالم الاسلامي وفي الغرب على حد سواء. وهناك كم هائل من الاوراق التي تعالج هذه الظاهرة تاريخيا وحديثا، والتي تشرح اسبابها ونتائجها. كان اللقاء معنيا بالاجابة على سؤال محدد، وهو: "ماذا نفعل وكيف"؟ بمعنى: اي استراتيجية نعتمد، وما هي آلية تنفيذها؟ وكان الامين العام البروفسور اكمال الدين في حاجة الى ان يحمل جوابا وافيا ومقنعا الى المؤتمر المقبل لوزراء خارجية الدول الاسلامية للحصول منه على ضوء اخضر للتحرك.
لم يكن التصور الاستراتيجي غامضا. فالاوراق الجاهزة والتي سبق اعدادها واقرار ما فيها من مقترحات توضح هذا التصور. لكن الامر الذي كان يحتاج الى توضيح هو آلية العمل.
طرح الامين العام فكرة تكوين شبكة من المؤسسات ومن الفعاليات الاسلامية للاتصال والتواصل مع المؤسسات والفعاليات الغربية في مختلف ميادين الثقافة والاعلام والدين والسياسة والاجتماع. ولكن كيف؟
جرى التداول في عدة اقتراحات لمشاركة المؤسسات الرسمية ومؤسسات المجتمع المدني والهيئات الشبابية الاسلامية في هذه الشبكة. وكان لنا اقتراح ينبثق من التجربة اللبنانية. ويقوم الاقتراح الذي تبناه اللقاء على الأسس الآتية:
اولا: وضع صيغة تمكن المسيحيين في الدول الاسلامية وخاصة في الدول العربية من المشاركة في الشبكة. ذلك ان تجربة التعايش الاسلامي – المسيحي تسفّه في حد ذاتها ومن خلال المسيحيين العرب انفسهم، الاعتقاد الخاطىء بأنه يستحيل التعايش بسلام وحرية مع المسلمين. الا ان هذه الصيغة تتطلب في الوقت نفسه التأكيد على المساواة في المواطنة بين المسلمين والمسيحيين في اوطانهم. فالمسيحيون الذين اشتركوا في صناعة الحضارة الاسلامية وحافظوا على لغة القرآن الكريم – اللغة العربية – يشكلون جزءا اصيلا ومكونا اساسيا ليس فقط من الشخصية العربية، انما من صدقية العيش مع المسلمين بحرية ومحبة واحترام.
ثانيا: تمكين المؤسسات والمجالس الكنسية الدولية من ان تكون جزءا مكملا للشبكة الاسلامية لما لهذه المؤسسات والمجالس من مواقف مبدئية تؤكد على احترام الاسلام كعقيدة، وعلى احترام حقوق المسلمين عامة والفلسطينيين خاصة. وفي مقدمة هذه المؤسسات: الفاتيكان، ومجلس الكنائس العالمي – جنيف، ومجلس كنائس الشرق الاوسط – بيروت، ومجلس الكنائس الوطني الاميركي – نيويورك، واسقفية كانتربري – لندن... وسواها من المراجع الدينية.
طبعاً لا يمكن للمسيحيين العرب ولا للمؤسسات الكنسية الغربية المتفهمة للقضايا الاسلامية العادلة من أن تغيّر وحدها من ظاهرة الاسلاموفوبيا. لا بد للعالم الاسلامي من أن يتحرك بسرعة وبجرأة لتصحيح المفاهيم الخاطئة عن الاسلام التي يمارسها المتطرفون الاسلاميون المهاجرون الى الدول الغربية.
صحيح ان التضحية بالخراف مثلاً في عيد الاضحى المبارك سنّة نبوية شريفة. ولكن ذبح الخراف على قارعة شوارع باريس ولندن وفرانكفورت عادة قبيحة ومرذولة. ثم ان الدعوة الى الله تكون بالحكمة والموعظة الحسنة، وليس بزرع العبوات الناسفة في محطات قطار الانفاق... أو في الطائرات!
ثم أليس سخرية أن تكون دول العالم الاسلامي ممالك وجمهوريات وأن يعلن اسلاميون وجوب تحويل بريطانيا الى خلافة رشيدة؟
ان هذا النوع من السلوك هو الذي يلقي الزيت على نار الاسلاموفوبيا فيزيدها اشتعالاً. وما لم يتحمل علماء العالم الاسلامي وفقهاؤه وقادته مسؤولية اجتثاث هذا السلوك، عبثاً القضاء على الاسلاموفوبيا.
وهنا تجدر الاشارة الى ان عدداً كبيراً من أهم المراجع الكنسية الدولية اتخذ مواقف داعمة للحقوق الفلسطينية ورافضة للحرب على العراق، ومتعاطفة مع الحقوق الانسانية للمسلمين في الغرب. ولكن هذه المراجع لم تلقَ من المراجع الاسلامية ما تستحقه من تقدير لمواقفها. ان العمل بهذا الاقتراح بوجهيه يساعد على اعادة طرح ظاهرة الاسلاموفوبيا على أسس من شأنها ان تفك ارتباط الاسلام كدين وكرسالة سماوية بالجوهر الحقيقي للمشكلة، وهي انها مشكلة اجتماعية - تقاليد وأعراف وعادات - وليست مشكلة تتعلق بجوهر الدين عقيدة ومنهجاً. الا ان الدين يُستغل ويوظّف بشكل يسيء الى الاسلام كما يسيء الى صورة المسلمين في الغرب، وتالياً الى العلاقات الاسلامية - المسيحية في الغرب.
قبل لقاء اسطنبول، عقد الامين العام لمنظمة المؤتمر الاسلامي سلسلة لقاءات تنظيمية مع عدد من المنظمات الغربية الدولية في المجموعة الاوروبية وفي كل من المملكة المتحدة وفرنسا والنمسا والولايات المتحدة، وقرّر انشاء مرصد لمراقبة الاعمال والمواقف التي تقع في اطار الاسلاموفوبيا (أي العداء للاسلام عن عدم المعرفة به).
وهنا تجدر ملاحظة الامر الهام الآتي: وهو ان الدول الغربية بدأت تسنّ تشريعات جديدة تعتبر أي شكل من اشكال إنكار الهولوكوست بمثابة جريمة يعاقب عليها القانون. حتى التشكيك بالهولوكوست او الطعن بصحة رقم الستة ملايين الذي يصرّ اليهود على انه عدد الذين سقطوا في المعسكرات النازية سوف يعتبر جريمة. وفي الواقع فان عدداً من الدول الاوروبية سبق لها ان سنّت تشريعات من هذا النوع من بينها فرنسا والنمسا. كذلك كانت الأمم المتحدة قد ألغت توصية اتخذتها سابقاً بما يشبه الاجماع تعتبر الصهيونية شكلاً من اشكال العنصرية. وقد سحبت الامم المتحدة هذه التوصية بعد مرور أكثر من عقدين على اقرارها وذلك تحت ضغط اللوبي الصهيوني وبالتعاون مع الولايات المتحدة وعدد آخر من الدول الغربية. وعندما صدر الكتاب الاخير للرئيس الاميركي الاسبق جيمي كارتر والذي وصف فيه في عنوان الكتاب الاجراءات الاسرائيلية في الاراضي الفلسطينية بالتمييز العنصري، ثارت ضده عاصفة هوجاء من التجريح والطعن رغم انه كان عراب اتفاق كمب دافيد في عام 1979 بين مصر (أنور السادات) واسرائيل (مناحيم بيغن).
ان كل هذه المتغيرات تبدو مجرد وجه واحد للواقع السياسي الجديد. اما الوجه الآخر لهذا الواقع فهو الاسلاموفوبيا بكل ما تحمله من معاني القدح والذم والتجريح بالاسلام، ومن إخضاع لعامة المسلمين الى أسوأ أنواع التمييز العنصري - الديني الذي يعرّضهم للمساءلة الجماعية ولانتهاك حقوقهم الفردية في المجتمعات الغربية.
من هنا السؤال: لماذا لا يوظف العالم الاسلامي امكاناته وقدراته وعلاقاته الدولية لإقناع الدول الغربية بسنّ تشريعات جديدة تعتبر التجريح بالاسلام والاساءة للمسلمين، لمجرد انهم مسلمون، جريمة يعاقب عليها القانون؟
لماذا يكون انتقاد اسرائيل (باعتبارها ثمرة ضحايا النازية) جريمة، ولماذا يكون التهجم على الاسلام (الذي لم يكن شريكاً ولا طرفاً ولا معنياً بجرائم النازية) بطولة؟ هل يعقل أن يعجز العالم الاسلامي بدوله التي يبلغ عددها نحو الستين دولة، وبسكانه الذين يزيد عددهم على المليار وربع المليار انسان عن مجاراة اسرائيل بملايينها الستة؟
لا بد من خطة عمل، ولا بد من قرار بالعمل. ولا بد من بداية للعمل. فهل تكون الاستراتيجية وآلية التنفيذ التي تضعها منظمة المؤتمر الاسلامي هي البداية؟... نرجو ذلك.
والواقع انه اذا استطعنا أن ننأى بالدين (الاسلام والمسيحية) عن أن يكون اداة توظيف واستغلال ومصادرة، نحفظ للدين حرمته ونصون رسالته، ونبدّد التوهمات التي تقوم عليها الاسلاموفوبيا والتي تتحوّل مع الوقت من توهمات غيبية الى قواعد فكرية ثابتة!
محمد السماك
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد