فيروز في دمشق.. محدودية الأماكن تؤرق الجمهور
أسئلة كثيرة تؤرق الجماهير الغفيرة التي تنتظر فيروز في سورية، والشائعات تختلط بالواقع، مما يزيد الأمور بلبلة. فتحديد أسعار البطاقات للحفلات التي ستحييها ابتداء من 28 الحالي, تحير المنظمين أنفسهم، فهي إن ارتفعت أغضبت وإن انخفضت زادت من إمكانية حدوث فوضى. كذلك فإن محدودية عدد المقاعد بحوالي ستة آلاف أمر يزيد الوضع تعقيداً بسبب الإقبال الشديد. هذا عدا أخبار عن غناء «بلاي باك» قد تلجأ اليه فيروز هذه المرة، وهو ما يؤكده بعض المقربين من اللجنة التنظيمية، فيما ينفيه بعض آخر. وباختصار إذا كان اللبنانيون قد سيسوا ذهاب فيروز إلى دمشق فإن ما يشغل الجمهور السوري هي أمور مختلفة تماماً، يحاول أن يلقي هذا التحقيق عليها الضوء.
أثار خبر حضور فيروز إلى دمشق بعد غياب عشرين عاماً الكثير من مشاعر الحب لهذا الصوت الذي امتزج بنور الصباحات السورية، لا سيما أن صوتها لم يغب حتى يحضر، كما أثار أيضاً عاصفة من الجدل السياسي فجرها البعض في لبنان، لدى مطالبتهم فيروز بعدم الغناء في دمشق، بينما انشغلت الصحف والمواقع الالكترونية السورية بمعركة إعلامية حامية. ومالت غالبية آراء الذين خارج دائرة الخصام السياسي إلى تحييد الفن وتجنيبه الخوض في مستنقع السياسة، فكيف إذا كان هذا الفن، فن الرحابنة الذي هو جزء لا يتجزأ من ذاكرة السوريين الحية.
اهتمام محبي فيروز، بحدث حضورها إلى دمشق لم يتأثر بغبار المعركة الإعلامية، حيث انشغلوا بالحديث عن سعر البطاقة، الذي تأخر الإعلان عنه كثيرا، إذ وعدت الأمانة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية بأن بيع البطاقات سيبدأ قبل أسبوع تقريبا من أول عرض والمقرر في 28 يناير (كانون الثاني)، وسبب التأخير دراسة وضع سعر مناسب، فهناك مشكلة الأماكن حيث لا يتجاوز عدد المقاعد في الصالة التي سيقام فيها العرض 1200 كرسي، وإذا كان السعر رمزياً فيعني ذلك أنه سيصعب السيطرة على الازدحام، وإذا كان السعر مرتفعاً فلن تتم السيطرة على الاحتجاجات المستنكرة. فقد بدأت التساؤلات منذ أعلن عن مجيء فيروز، وكانت التوقعات بأن متوسط سعر البطاقة قد يصل لـ 200 دولار، وهو رقم باهظ بالنسبة لمعدل دخل الفرد.
سمر حداد صاحبة «دار أطلس» المثابرة على حضور حفلات الرحابنة في بيروت قالت، إن سعر بطاقات مسرحية «صح النوم» في بيروت العام الماضي كان 30، 100 و150 دولاراً، وهو سعر اعتبر مرتفعاً. وطالبت سمر بأن تكون الحفلات في سورية مجانية لأن الدولة هي التي تستضيفها، وبجميع الحالات فإن السعر لو وصل الى 300 دولار، وهذا مستبعد لا يمكن أن يغطي تكاليف العرض التي أشيع أنها تجاوزت المليون دولار. لذا فمن الأفضل للأمانة العامة ألا ترفع السعر لأن فيروز بالنهاية ليست حكرا على طبقة معينة، الجميع يحبها ومتلهف لرؤيتها بعد غياب. ولفتت سمر إلى أن جمهور فيروز أغلبه من السوريين والعام الماضي رغم تزامن العرض مع بدء الاعتصام واضطراب العلاقات بين البلدين، سافر الكثيرون من سورية إلى لبنان لرؤيتها، فكيف وهي تغني في دمشق؟! رضوان حاتم مهندس مدني يؤيد وجهة النظر القائلة بوضع سعر مرتفع كي لا يتكرر ما سبق وحصل في حفلة فيروز في مهرجان بصرى منذ نحو عقدين، حيث سبب ازدحام الناس الفوضى. يامن حسين طالب في جامعة «البعث» في حمص وصف اهتمام رفاقه بأسعار البطاقات بالـ (هاجس) فالكل لديه الرغبة لحضور العرض وينتظر إعلان الأسعار.
لم يسبق أن انشغل الشارع السوري بحفل فني كما هو الحال الآن، فالسؤال الرائج: هل ستحضر الحفل؟ هناك من يقول إنه لن يذهب حتى لو كانت مجانية، لأنه غير مستعد لرؤية حفل تغني فيه فيروز (بلاي باك)، فيما علمت «الشرق الأوسط» من مصادر خاصة أن الموسيقى فقط ستكون «بلاي باك» وصوت فيروز سيصدح، إلا أن مصادر قريبة من الاحتفالية أكدت العكس، وبجميع الحالات فإن شباباً مثل عمران فائق (19عاماً) الطالب في إدارة الأعمال، مستعد للذهاب ليكسب شرف رؤية فيروز شخصياً حتى لو لم تغني. أما التاجر منير علوان الذي عاصر حفلات فيروز منذ الستينات، فيفضل ألا يحضرها اليوم فهو شاخ، ولا بد أنها شاخت، ويريد بقاءها في ذاكرته كما كانت في حفلات معرض دمشق الدولي فتية نضرة، عندما كان صوتها يصدح بعذوبة وسحر ويذيب الجمهور، إذ تغني لدمشق: شآم أهلوك أحبابي وموعدنا/ اواخر الصيف آن الكرم يعتصر/ نعتق النغمات البيض نرشفها/ يوم الاماسي لا خمر ولا سهر.
قصة فيروز والرحابنة مع دمشق، ليست قصة إعجاب و«حب وحكاية غرام» فقط، إنها كما يقال «عشرة عمر» وإلفة توارثها الأبناء عن الآباء، إذ لم يفلح تسونامي الأغاني الشبابية الرائجة في تهميش فيروز وظلت حاضرة لدى كافة الشرائح دون استثناء. فالطفل كنان (7 سنوات) ينزعج إذا لم توقظه والدته على صوت فيروز صباحاً، وقد يحصل هذا إذا كانت أمه على عجلة من أمرها ونسيت تشغيل إذاعة دمشق أو التلفزيون السوري اللذين يبثان أغانيها كل صباح بعد النشيد الوطني والقرآن الكريم كتقليد مستمر منذ عقود طويلة. وإذا سألنا عمن يتذكر متى بدأ هذا التقليد يقول قبل أن أولد أو ربما «قبل أن تولد فيروز» بحسب أحد العاملين في التلفزيون، مضيفاً: «نادرا وحتى مستحيل أن يمر يوم على الإذاعة والتلفزيون دون بث أغنية أو مقطع لفيروز».
كما درجت على هذا التقليد الإذاعات الخاصة التي افتتحت في السنوات الأخيرة، فإذا «شام أف أم»، تخصص ساعتين صباحا لفيروز وعدة ساعات مساء للرحابنة عموماً ولزياد خصوصاً. كما أن هناك العديد من البرامج التلفزيونية والإذاعية التي أخذت تسمياتها من أغانيها مثل برنامج «خبرني يا طير» والبرنامج الشهير «سوا ربينا» عن العلاقات السورية ـ اللبنانية وكان يبث في فترة الوجود السوري في لبنان، وشاعت حوله نكتة تقول ان اللبنانيين أنتجوا برنامجا للرد عليه باسم أغنية لفيروز «لا أنت حبيبي ولا ربينا سوا».
هذه النكتة لم تبق مجرد نكتة مع اندلاع موجة العداء على خلفية تداعيات اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وتأزم العلاقات بين البلدين على نحو غير مسبوق. إلا أن مكانة فيروز والرحابنة لم تتأثر، بل تجددت مع كل عمل لزياد الرحباني وكل مقال له في جريدة «الأخبار»، والتي يقبل على متابعتها الشباب بشوق كبير. ويبدو من المسلم به في مجتمع الشباب الجامعي أن تكون موسيقى زياد نغمات في موبايلاتهم، وكذلك تبادل مقاطع من مسرحياته عبر البلوتوث، فكلماته تحضر في أحاديثهم اليومية. يامن حسين مثلاً يضع رنة موبايله مقطعاً من مسرحية لزياد «يا نزار لا بقى تحطلي جرايد لا فوق تختي ولا تحت تختي». فيما يشكل مجموعة من زملائه في الجامعة رابطة باسم «محبي زياد رحباني» ويقومون بمتابعة أعماله وتبادلها كما يعيدون طباعة مقالاته، ويوزعونها في الجامعة. يقول يامن، إن ذلك سبب لهم بعض المتاعب إلا أن موقف زياد السياسي مما يحدث في لبنان الآن ساعدهم وأعطى لنشاطهم شرعية ليتم غض الطرف عنهم. كما يشير إلى أنه كان يعد مع رفاقه مجلة اقرب الى النشرة كلما توفر لديهم مال كاف، يعيدون فيها نشر مقالات زياد مع مختارات أخرى تسترعي انتباههم، لافتاً إلى أن جمهور زياد بين الشباب وبالأخص في الجامعة هو جمهور عريض ويزداد يومياً، ويمكن لمس ذلك في مواقع الانترنت والمنتديات. فهناك مواقع متخصصة فيه، كما أن اغلب التعليقات على مقالاته عادة تكون من السوريين.
قبل دخول عمران فائق إلى الجامعة لم يكن يستسيغ مسرحيات وأعمال زياد، لكنه خلال أقل من عام صار من المولعين به واقتنى كل أعماله وحواراته، أما لماذا أحبه فيقول، لأن أفكاره تحتل حيزا كبيرا في نقاشات زملائه، وبعضهم يردد كلماته وكأنها لازمة وقد دفعه الفضول للتعرف اليه. ويتابع عمران «أدهشني وتعلقت به وكأنه يقول ما أريد قوله». وعما إذا كانت الطرافة أو النكتة هي التي تجذبه في مسرحيات زياد، أجاب عمران: «ليس هذا فقط بل تعبيره عن واقعنا بلغتنا وبجرأة وبساطة هو ما يمنحنا إحساساً بأنه واحد منا ويعيش بيننا ويفكر مثلنا». أما فيروز فلا يملك عمران كلمة مناسبة للتعبير عن مشاعره نحوها، فقد اعتاد سماع صوتها منذ صغره، واصبحت حاضرة دائماً، كشيء غير قابل للمساءلة، تماما كعلاقته الوثيقة بأسرته. بينما آرام عبود (19 عاماً) طالب جامعي، متابع مثابر ومعجب جداً بزياد، وتحتل صورة كبيرة له غرفة نومه، إلى جانب عدة صور صغيرة، كما يخزن في كومبيوتره الشخصي جميع أعماله. ويقول إن ولعه به بدأ منذ الصغر، فقد دأب على سماعه مع عمه وأهله حيث عاش ضمن وسط سياسي، ولم يكن يرى بين رفاقه في المدرسة من يشاركه اهتمامه، لكن الأمر اختلف في الجامعة، لأن فهم ما يقوله زياد يتطلب متابعة ما يجري في لبنان وفهم الواقع السياسي اللبناني والعربي أيضاً.
فليس ما يقوله مجرد نكتة أو كوميديا، بل هو فلسفة ومفهوم معين للواقع السياسي والحياتي العادي. يرد آرام تنامي جمهور زياد إلى تنامي اهتمام السوريين بالموضوع اللبناني خلال السنوات الثلاث الأخيرة، إذ أصبح هماً عاما مشتركاً، وموقف زياد مما يجري أراح الشباب «لأنه لبناني يتكلم مثلنا، ونشعر أن موقفه يعزز موقفنا». عدا الجانب السياسي، يرى آرام أن موسيقى زياد الحديثة سبب أساسي في جذب الشباب، بالإضافة إلى كلمات أغانيه البسيطة، فهو ليس فناناً عادياً ولا يمكن النظر إليه من هذه الزاوية بل هو «عبقري». أما فيروز وحفلتها فلا تشغل بال آرام نهائيا ويتمنى لو أن زياد جاء بدلاً عنها، ومن وجهة نظره فيروز فنانة ذات صوت ساحر ويحبها مثلما يحب أي فنانة أخرى تستهويه فهي بالتأكيد ليست مثل زياد.
باسل ديوب صحافي يعيش في مدينة حلب، من خلال رصده للشارع الحلبي يقول ان الحلبيين عموما ليس لديهم مزاج فيروزي ولا زيادي، ومع ذلك فهم مهتمون بحفلة فيروز كحدث بارز. دون أن ينفي اهتمام الشباب الجامعي بأعمال زياد، لكن ليس بالاتساع ذاته في مدن الساحل وحمص ودمشق، المناطق الأقرب جغرافياً إلى لبنان. ويؤكد سامر وهو صيدلاني يعيش في اللاذقية، فكرة القرب الجغرافي، حيث ان مناطق غرب سوريا ذات هوى ثقافي وفني يميل إلى لبنان، أكثر من المناطق الشمالية والشرقية التي تميل باتجاه العراق، أما الإعجاب بالرحابنة فيؤكد سامر بأنه بات جزءاً من الموروث الثقافي المحلي، ويسخر من الأصوات التي تعارض مجيء فيروز إلى دمشق «لأننا لا نعرف فيروز إلا كمواطنة سورية وبمعنى أدق جزء من سورية».
لم يسبق لزياد أن جاء إلى دمشق، لكن الشائعات تقول انه كان وراء قبول فيروز إقامة حفل لها ضمن فعاليات دمشق عاصمة الثقافة، ربما هي شائعات يطلقها محبو زياد من السوريين الذين يقولون أيضاً انه لا يقبل بأي شكل من الأشكال أن تؤدي فيروز أغانيها بطريقة الـ (بلاي باك) فهم يصرون على أنه لن يخذل جمهوره، كما لن تخذل فيروز دمشق التي أطلت منها على الجمهور العربي حين سجلت أغنيتها (عتاب) من كلمات والحان عاصي الرحباني عام 1952 في إذاعة دمشق، والتي بدورها خصصت يوم الأحد من كل أسبوع للرحابنة ليقدموا إبداعاتهم، ليكونوا لاحقاً الضيوف المنتظرين في معرض دمشق الدولي، ومع كل موعد أغنية من روائع الأغاني لدمشق الشآم، ولعل أجملها ما كانت كلماتها لسعيد عقل. ويتساءل أهل الشام اليوم، ترى هل من أغنية جديدة للشام تشدو بها لتعيد وصل ما انقطع بعد كل هذا الغياب؟
سؤال لا يحتاج لإجابة في واقع سياسي ثقيل الظل راح يفرض نفسه على الفن الجميل ويعيث فيه خراباً... ولا عزاء سوى أن تغنينا فيروزنا:
طالت نوى وبكى/ من شوقه الوتر/ خذني بعينيك/ واهرب أيها القمر.
سعاد جروس
المصدر: الشرق الأوسط
إضافة تعليق جديد