سبعون عاماً على رحيل لوركا
النائم نوم التفاح بعيداً عن جلبة المقابر، المُطالب بفتح نافذته عندما يموت، المحتفظ كما الشربين بسرّ الربيع، الباحث عن رحمٍ في حيّ الأرواح الحزينة والنساء الحبالى والراهبات العذراوات الساذجات، هو نفسه نجمة غرناطة وقتيل إسبانيا الشريد.
فيديريكو غارثيا لوركا: في ليلة من دون قمر رُمي جسدك في قبر من دون اسم، فبكت الأديرة دموعاً من حديد ومن عفّة. "عفو زهر الدم يا لوركا"، قال محمود درويش. عفو زهر الدم، فلا أرحام فارغة لتحتويك. عفو زهر الدم، لأننا لا نملك جواباً عن سؤالك: أين هو قبري؟
"ليس ضرورياً أن يكون العالم كبيراً إلى هذا الحد، ولا البحر بهذا العمق"، ألم تخبرك مدينتك بسرّها الصغير المذعور كعصفور، لمَ فتحت للريح نافذتك أيها الطفل الشقيّ؟
لا نعرف تحديداً لمكانك الآن، لكنك قلت لنا: "روحي ليست في السماء، لأن هذه هي جنّتي"، وصدّقنا أن غرناطة مدينة حيث يكتب العاشق، أفضل من أي مكان آخر، اسم حبيبته على الأرض.
في غرناطة إذاً، المدينة الأندلسية الوحيدة والصافية، المنطوية على نفسها لتحدَّ روحها العجيبة، لأنه لا منفذ لها غير مركزها العالي والطبيعي للنجوم، وُلد فيديريكو غارثيا لوركا طفلاً مدللاً بين أشقاء أربعة. وتحديداً، في قرية فونتي فاكيروس الغرناطية، في الخامس من حزيران 1898، لدى أسرة متوسطة ذات ميول جمهورية، والده كان مزارعاً ثرياً ووالدته معلّمة، أخذت على عاتقها مهمة تحسين نطقه بعد معاناته من بعض المشكلات في طفولته بسبب حساسيته الجسدية المفرطة. التحق بمدرسة الميريا الريفية، حيث لاحظ مدرّس التربية الموسيقية موهبته في العزف على البيانو والقيثارة، واستطاع في سن الحادية عشرة عزف مقطوعات لبيتهوفن، قبل أن يتعرّض لمرض خطير في حنجرته كاد يودي بحياته. لم يكن لوركا شاعراً فقط بل متعدد المواهب والأنشطة الثقافية. أصبح في سن الثامنة عشرة أشهر عازفي البيانو في غرناطة. ويقول المؤرخ الإيرلندي المتخصص في شخصيته إيان جبسون إن أهله لعبوا دوراً سلبياً في تفتّح موهبته، لأنهم، رفضوا السماح له بالسفر إلى باريس لمتابعة تخصصه في الموسيقى، بعد وفاة أستاذه، فانصاع وبقي في غرناطة يعزف ويؤلّف. اتجه نحو الرسم والشعر والتأليف المسرحي أيضاً، وقبيل وفاته كان لديه مشروع أوبرا ضخمة مع سلفادور دالي، لكنه لم يتبلور. وعلى الرغم من وراثة لوركا الثقافية لعائلته، التي كان جميع أفرادها يتعاطون الموسيقى والغناء، فإن هذه العائلة سرعان ما رأت في قصائد الفتى "رداءة شعرية" وثغرا فادحة بعدما راحت الحوارات والعناصر السردية تظهر في أشعاره. هذا الدور السيئ للأهل سيستمر حتى العام 1933، عندما نشر مسرحيته الأولى "عرس الدم" التي عادت عليه بثروة كبيرة لا سيما في الأرجنتين، مكّنته من الاستقلال مادياً عنهم. لكن غرناطة لم تكن سيئة إلى هذا الحد بالنسبة اليه، فهي الحبيبة والجنّة التي لم يستطع يوماً الانسلاخ عنها، ودارت معظم أشعاره على مسرحها: "غرناطة، جنة مغلقة أمام كثيرين"، "غرناطة صبح صيف" و"البيازين" (حي يقع عند أقدام قصر الحمراء) وغيرها، وهي جعلته شاعراً بعدما أجبرته على إنشاد جمالها. غرناطة هذه التي تحب ما هو صغير جداً، فتصغّر الغرف في البيوت وبرك الحدائق، والأسماء والأفعال في لغة الغرناطيين، سمحت للشاعر بالعيش في "جوّها البيتي بلا ناس"، ليكتشف أسراره الشخصية ويتّخذ موقفاً غنائياً ، لأنها كانت غنائية أكثر منها مأسوية كما قال. كانت له "حلماً من أصوات ومن ألوان" لا مثيل له في العالم أجمع لأن هدوءها لم يكن هدوء الفلسفة بل هدوء المنام، وكانت قاتلته أيضاً بعدما أصرّ في نهاية حياته على العودة إليها على الرغم من معرفته بأخطار هذه العودة. ذكّر لوركا بما كتبه الشاعر المتصوّف سوتو دي روخاس في القرن السابع عشر عن المدينة التي لا تعمل على الرغم من كونها مليئة بالمبادرات: "غرناطة جنة مغلقة أمام كثيرين، حدائق مفتوحة أمام قلّة".
اليوم، بعد مرور سبعين عاماً على وفاته، ما زالت غرناطة تحفظ خطواته، إذ حوّلت بلدية المدينة بيته الأبوي في فونتي فاكيروس متحفاً يضمّ أعماله الأولى بخطّه، وطبعات أولى لكتبه، إضافة إلى ديكور بعض المسرحيات التي كان في صدد تقديمها. قبالة قصر الحمراء، وفي قلب حديقة هي الأكبر في غرناطة تحمل اسم لوركا، يفتح متحف آخر أبوابه، هو المنزل الصيفي للعائلة المعروف بسان فنسنتي، محافظاً على أثاثه القديم والغرفة حيث كتب لوركا أولى مسرحياته وأشهرها: "عرس الدم". وكذلك، حافظت المدينة على منزل صغير، ترددت إليه العائلة في فالديروبيو، حيث كان الأب يعمل في الأرض، وهناك استوحى لوركا عمله "منزل برناردا ألبا" من خلال مراقبته القرويين.
- أنهى لوركا دراسته الثانوية في غرناطة، ودرس الفلسفة والآداب والحقوق، مظهراً اهتماماً بمسرح الدمى، ومتردداً على المنتديات الأدبية. وفي العام 1919 انتقل إلى مدريد، حيث ارتبط اسمه باسم الرسّام سلفادور دالي، الذي أقام معه في غرفة واحدة في المدينة الجامعية، التي شكّلت في حينه قلب الثقافة في اسبانيا، بفضل مؤسسها ومديرها دون ألبرتو فرود، الذي أرادها ساحة تماس ثقافي للتيارات العلمية والأدبية والفنية والفلسفية في إطار السعي لبناء اسبانيا جديدة. هناك أصدر لوركا مجموعته الشعرية "كاستيون" في العام 1927 وتعرّف إلى ألكسندر رافاييل ألبرت ولويس جونيل والشاعر التشيلياني بابلو نيرودا، وأسس مع أصدقائه صحيفة لم يصدر منها سوى عددين. لكن حياته لم تكن على ما يرام، حتى في تلك المرحلة الزاهرة، إذ أصيب في أواخر العام 1920 باكتئاب نتيجة عدم تقدير أعماله ونمط حياته الصاخب، قاده في النهاية إلى ترك اسبانيا والتوجّه إلى أميركا في العام 1929.
هل كان لوركا سوريالياً؟ وما كان تأثير دالي فيه؟ يعتبر جبسون في هذا الإطار ان من الابتذال القول بسوريالية لوركا، فقد كان أكبر من السوريالية، بمعنى أنه لم يتأثّر بدالي بل أثّر فيه وزرع بذور سورياليته، بينما بقي هو متمتّعاً بنوعٍ من الواقعية الرومنسية الغرائبية والميتافيزيقية في آن واحد، تمزج الرمزية بأسلوب الحكايات الشعبية الأندلسية. ويجزم جبسون أن لوركا لم يعر أهمية للخيال، بل كتب كما يفكّر من دون أن يتخيّل، لأنه كان "مزيجاً من كل شيء ومن لا شيء". هذا الامّحاء عبّر عنه الشاعر في "قصيدة الحمامتين العتمتين" التي ختمها كالآتي: "أين هو قبري؟/ قالت الشمس: في ذنبي/ قال القمر: في حنجرتي/ عبر أغصان الغار رأيت حمامتين عاريتين/ كانت واحدتهما صورة للأخرى/ وكانت الاثنتان لا شيء".
إلى عالم جديد انتقل الشاعر في العام 1929: نيويورك. ربما هرباً من نفسه وربما بحثاً عن طابع عالمي لكتاباته. لكنه لم يفاجأ بالمدينة الضخمة: كان كل شيء بالغ الرداءة كما توقّع. المفاجأتان الوحيدتان كانتا شهرته الواسعة التي سبقته إلى الأميركيتين بفضل كتابه "الغجري الحالم"، وزنوج حي هارلم النيويوركي كما سينعكس في كتابه "شاعر في نيويورك". هناك، اكتشف العفن الذي يتآكل أميركا البرّاقة من الخارج، وتميّز شعره بثورة عارمة ضد هذا العالم المتوحش، منتصراً لقضايا الزنوج ومتعاطفاً مع صراعهم في سبيل نيل حريّتهم، كما في قصيدة "الغجر"، التي يصف فيها فجر نيويورك الإمبريالية: "لفجر نيويورك/ أربعة أعمدة من طين/ وزوبعة حمائم سود/ تتمرّغ في مياه آسنة". هرباً من الدود المعشش في التفاحة الأميركية الشهيّة، غادر لوركا إلى كوبا، التي وصفها في إحدى رسائله بـ"غرناطة ما وراء البحار"، حيث كتب أهم أعماله الأدبية: مسرحية "إيل بوبليكو" (الجمهور)، التي أظهرت تمزّقه الداخلي المرعب وعقده النفسية وشعوره بالنقص. في العام 1930 مع سقوط الديكتاتور بريمو دي ريفيرا وقيام الجمهورية، عاد لوركا إلى وطنه الأم، حيث تسلّم جوقة مسرح باراكا، التي تُعنى بتعريف القرويين بالمسرح وأسس فرقته الخاصة التي سمّاها "الكوخ". في وجه عام، أراد لوركا ثورة مسرحية شاملة، لأنه كان يرى المسرح الإسباني في العشرينات والثلاثينات عفناً وميّتاً، إلى درجة أنه قال يوماً لدالي: "إما أن نصنع مسرحاً حقيقياً وإما نحرق خشبات المسارح ونحوّلها إلى متاجر لبيع الأحذية".
- و عند اندلاع الحرب الأهلية الاسبانية في العام 1936، ترك لوركا مدريد وتوجّه نحو غرناطة، مع علمه بالخطر الذي يحدق به في مدينته، التي تعجّ بالمحافظين الإنقلابيين المعادين للجمهورية. هناك قُتل على يد الميليشيات الشعبية الفاشية، ورُميت جثته في خندق قرب فيزنار، في ملابسات غامضة، وظل مقتله وصمة عار على جبين نظام الجنرال فرنكو، رفعه خصومه السياسيون ومناصرو الحرية، سلاحاً فعّالاً لإدانته. لكن هذا النظام، لم يكتفِ بقتل لوركا، بل فرض حظراً على أعماله، استمر حتى العام 1953، حين طُبع بعضها بعدما خضع للرقابة المشددة، ولم تعرف هذه الأعمال شهرتها وانتشارها الواسعين إلا في العام 1975 بعد موت الجنرال فرنكو. موضوع مقتل لوركا، شغل الأوساط الثقافية في العالم أجمع، ولا يزال حتى اليوم مثار جدل، فقد ظهر أخيراً في مدريد فيلم "لوركا البحر الذي خمد" للمخرج السينمائي إميليو رويث باراجينو، اعتبر فيه أن أبناء عم الشاعر من عائلة رولدان هم من قتلوه، على خلفية سياسية أولاً كونهم من المحافظين وعائلة لوركا من الجمهوريين، وبسبب نزاعات حول الأراضي والنفوذ ثانياً. لا يمكن التأكّد من صحة هذه المعلومات، وفي حال كانت صحيحة فهي لا تغيّر من بشاعة ما ارتكبه معادو الحرية ونظام الجنرال فرنكو من جرم في حق الأدب العالمي، إذ إن كفاح لوركا ضد الفاشية كان مرتبطاً بكفاحه ضد إمبريالية اليانكي الأميركية، ولم يكن له عنوان آخر غير حرية الإنسان. وهو وصف ما جرى قبيل مقتله في مدينته غرناطة التي كان الحرس القومي يفترسها في عمليات تأديب وحشية، في قصائد عديدة أبرزها: "مصرع أنطونيو آل كامبوريو" و"صرخة إلى روما" و"أغنية الفارس" والقديس ماغويل" وغيرها.
هل انتهى كل شيء بالموت؟ لوركا الشاب الذي غادر في عمر الثامنة والثلاثين لا يزال غجريّ الشعر الفذّ الذي تحجّ إليه القصائد في الشرق والغرب. تأثيره في الأدب العربي تحديداً، يظهر لدى شعراء معروفين، لا سيما محمود درويش الذي خصّه بقصيدة "لوركا" التي كتبها قبل الحرب اللبنانية وأفرغ فيها نبوءته القاتمة، وكذلك في شعر البياتي والسيّاب، حيث يصف البياتي في احدى قصائده مشهد مصارعة للثيران في غرناطة المسحورة، تنتهي بمقتل المصارع والثور. وفي روسيا وبلدان الإتحاد السوفياتي السابق والبلدان الإشتراكية (الصين، كوبا، فنزويلا)، يعتبر لوركا واحداً من أهم روّاد أدب المقاومة، إلى جانب نيرودا وأراغون وإيلوار. وفي الولايات المتحدة نفسها التي انتقد نظامها الرأسمالي بعنف، لا تزال مجلة أدبية واسعة الانتشار تحمل اسمه. أما اسبانيا فخلّدته كواحد من أكبر شعرائها وكتّابها المسرحيين، وكرّمته مدريد بتمثال في ساحة سانتا آنا.
"أغلقت شرفتي/ لأني لا أريد أن أسمع البكاء/ إلا أنه وراء الجدران الرمادية/ لا يُسمع شيء غير البكاء". خطّ لوركا هذه الكلمات تحت مياه حديقة الخلفاء، واضعاً إصبعه على شفاه سيرته الغامضة كي لا تنبس بحرف. ولم يبقَ إلا "وردة ياسمين وثور منحور وصيف لانهائي"، لكن أيضاً غرناطة الحبيبة التي خاطبها بالقول: "عبر باب الفيرا/ أريد أن أراك تمرين/ لأعرف اسمك/ وأشرع في البكاء".
أبـــــــرز أعــــــــمــالـــه:
في الشعر: "مشاهد وانطباعات" 1918 (تاريخ الصدور)، "كتاب الأشعار" 1921، "كاستيون" 1927، "رومانسيرو جيتان" 1928، "الأغاني الأولى" 1936، "شاعر في نيويورك" 1940.
في المسرح:"رقيّة الفراشة" 1920، "ماريانا بينيدا" 1927، "الآنسة، البحّار والطالب" 1928، "الإسكافية العجيبة" 1930، "عرس الدم" 1933، "يرما" 1934، "دونا روزيتا العزباء" 1935، "لعبة دون كريستوبال" 1935، "بعد مضيّ خمسة أعوام" 1945، "الجمهور" 1970، "كوميديا بلاعنوان" 1986، إضافة إلى نصوص نثرية مختلفة مثل "في اسبانيا الموتى هم أكثر حياة من أي مكان آخر" وغيرها.
زينب عساف
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد