غسان الرفاعي: خواطر ساخنة
-1-لم يكن الشاعر رامبو متجنياً على شهر آب حينما وصفه بأنه شهر العطالة الذهنية ولم يكن مجدفاً حينما طلب من رب السموات والأرض أن يلغي هذا الشهر من تقويمه,. ولا كان الكاتب ديستوفيسكي يهذي حينما خصص فصلاً من روايته «بيت الموتى» لشهر آب الموصوف بأنه شهر الفجور البرجوازي وكان الرئيس الفرنسي السابق ميتران يقول: ينبغي أن يتقن رئيس الجمهورية فن الشعور بالضجر وكتب ألبير كامو في الطاعون: هؤلاء الذين يقتنصون الهواء الطازج في أعالي الجبال, أو يتمخطرون شبه عراة على الشواطئ في شهر آب خارجون عن الشرعية الثقافية ما لم يحملوا معهم كتبهم المنتقاة لا عجب إذا أصدرت الأدبيات الأوروبية في مطلع هذا الشهر «قوائم» بالكتب الضرورية التي يجب قراءتها هذا الشهر وفي مقدمة هذه القوائم كتاب «الإسلام وجهة نظر».
-2-
«ناتالي» سيدة بورجوازية استثنائية يسكن قلبها حب كبير للناس جميعاً وتختزن في رأسها مكتبة بكاملها, وفي قناعاتها أن القدر قد اختارها لتكون «مرشدة للمثقفين», أدمنت على مكتبتها المنمنمة المختبئة في شارع ريشليو, منذ عشرين عاماً, لاقتناء الكتب التي كانت تختارها, بعناية وذوق وتعرضها على زبائنها المخلصين وهي تقول لهم مداعبة: إياكم أن تفوتوا عليكم هذا الكتاب ولم أكن أشك لا في دسامة ثقافتها ولا في رجاحة اختيارها, وإن كنت أداعبها بود زائد لإغراقها في الصراعات الثقافية, كانت ناشطة ذات يوم في «الحزب الثوري التروتسكي» وقد قبض عليها أكثر من مرة, بسبب مبالغتها في الهتاف والسباب ولكنها اعتزلت العمل الحزبي بعد أن طعنها عاشق رومانسي فضل عليها ايطالية «طائشة ومفسودة» وقررت أن تفتح مكتبة تصلح لأن تكون ندوة ثقافية في الأيام الممطرة.
-3-
انزلت «ناتالي» كتاباً من أحد الرفوف, ووضعته أمامي وقالت: أقرأ ما كتب على غلاف الصفحة الأخيرة, وكنت دوماً متلهفاً لسماع آرائها السياسية والاجتماعية والثقافية إذ كانت من أشرس المناهضات لحرب العراق وللعدوان على غزة ومن أكثر المعاديات للرئيس بوش ومن المتعاطفات مع القضية الفلسطينية.
وقرأت: يكتب «كارول كراوس» المسرحي الهزلي في مطلع مسرحيته (في امتداح صباح كسول في الفراش): إن معظم الأحداث المهمة في العالم تحدث قبل تناول الفطور صباحاً وقد يكون من الأفضل للإنسان العاقل أن يبقى في فراشه حتى الظهر, وواقع الحال أنه لا يوجد إلا الطغاة الفاشست الذين يستيقظون في ساعة مبكرة ثم إن ما نحتاج إليه هو التملص لا الالتزام وعلى هذا الأساس فإن الكسل هو موقف ثوري, الكسالى هم أنقى الثوريين وهوأكثرهم نزاهة واستقامة..
ومدت يدها، مرة ثانية إلى رف آخر وسحبت العدد الأخير من المجلة الثقافية الرصينة جداً /الماغازين ليترير/ وقالت: هذا العدد مخصص لامتداح الكسل، وقد شارك فيه كبار كتاب فرنسا. تأمل بسرعة المقدمة التي كتبها رئيس التحرير: وتركتني أقرأ المقدمة ريثما تلبي طلبات زبونين عصبيين. (لا تتوفر للكسل سمعة حسنة، ويعتبره الناس خطيئة لا تغتفر، بل جريمة ضد مجتمع العمل والإنتاج، ومازال الكسل مدانا سياسياً واجتماعياً وثقافياً لأنه مرادف لعدم الاكتراث والخمول والخبل بل والخوف ولكن هذا لا ينطبق على الواقع إذ إن الكسل لذيذ، ويشجع على التأمل ، ويدعو إلى المقاومة. انه ينسف المنطق الاقتصادي، ويلغي مؤسسات الراحة والاستجمام التجارية، ولأنه يقوم على عدم الحركة والفراغ، فهو يرغمنا على إعادة النظر في ذواتنا، إنه عمل من أعمال المقاومة، والطريق الذي يوصل إلى الحكمة، من ابيقور إلى بيكيت).
-4-
وعادت (ناتالي)، منبسطة الأسارير ، وروت لي على طريقتها المسرحية، أن الجنرال الأميركي الذي كان يطارد الألمان باتجاه شمالي ايطاليا، خلال الحرب العالمية الثانية، تمكن من احتلال مدينة البندقية، فأقام له رئيس البلدية الايطالي احتفالاً مهيباً لتسليمه مفتاح المدينة، وبعد تبادل كلمات الترحيب والمجاملة تقدم رئيس البلدية من الجنرال الأميركي، وأعلمه بأن لديه هدية ثمينة يريد أن يضعها تحت تصرفه، لأنها ستساعده على إدارة المدينة بالعدل، وفتح صندوقاً صغيراً وأخرج منه حصاة كبيرة وقال للجنرال:
(هذه الحصاة ثمينة جداً، سأشرح لك كيف تستخدمها: كلما وصلتك رسالة مختومة، مكتوب عليها ((عاجل جداً)) ضع عليها هذه الحصاة ولا تقرأها، وستسير الأمور على أحسن وجه...
-5-
غادرت مكتبة (ناتالي) وأنا أتأبط كتاب ( حق الكسل) لـ (بول لا فارغ) الذي ينظم ندوات لمناقشة آرائه, هذه الأيام, الكتاب ليس جديدا, وقد صدر في بدايات القرن العشرين, وأثار زوبعة من الانتقادات الحادة في ذلك الوقت, والمستغرب الآن هو إعادة طبعه, وتهافت القراء على اقتنائه, لا على أنه كتاب تسلية, وإنما على أنه سلاح في مواجهة العولمة, والاتساخ الايديولوجي السائد في العالم بعد هيمنة الولايات المتحدة عليه. مؤلف الكتاب تلميذ لـ (كارل ماركس) تزوج ابنته على الرغم من معارضة أبيها, أراد أن يدرس الطب, ولكنه طرد من الجامعة بسبب تطرفه وشغبه وجنوحه, وبقي مشردا طريداً, ويثير الاضطرابات والنزاعات في كل مكان, وحينما بلغ السبعين من عمره, انتحر بصمت من دون أن يترك وصية, وقد حاولت زوجته أن تنتحر, هي الأخرى ولكن المصادفة أنقذتها في آخر لحظة.
-6-
ويصر (لا فارغ) على أن العمل كان دوما رمزاً (للسقوط) ويسهب في وصف (السعادة البريئة) التي كان يتمتع بها (آدم) في الجنة, قبل أن يغضب عليه الله ويطرده . يكتب: (فكرة السقوط من السماء, والاكتواء بجحيم العمل على الأرض موجود في كل الأساطير والديانات القديمة والحديثة, ولا يمكننا أن نسترد إنسانيتنا إلا باستعادة براءتنا قبل السقوط».
-7-
يبدو طرح (الكسل الثوري) في الأدبيات المعاصرة ترفاً مريباً لايخلو من سوء نية, وليس له من هدف إلا تعطيل المقاومة ضد مشاريع الهيمنة والتسلط, والاستفراد الاستثماري, ولكن الكسالى الجدد يعتصمون وراء متاريسهم, ويؤكدون أن كسلهم هو واحة من النظافة الثورية في اوقيانوس من التلوث.
يتساءل (شانتال لاير) في كتابه (النفي والنجاة): (ماذا لو تثاءبنا حين الاستماع إلى خطب زعماء الاستفراد والعدوان؟ ماذا لو أدار الجمهور ظهره حينما يبدأ أحد الساسة باستعراض أكاذيبه وأفخاخه؟ ماذا لو امتنع العمال عن بناء جدار الفصل العنصري الذي يدعو إليه (شارون) والعنصريون الاسرائيليون وفضلوا العزف على القيثارة والرقص؟ ماذا لو أعلن البحارة الأميركيون العصيان, وظلوا في أسرتهم عوضاً عن مجابهة الشعب في العراق وأفغانستان وباكستان, وتصفية القوى الوطنية في هذه البلاد؟ ولم تكن (كلارا كاساكراد) في كتابها تاريخ الخطايا الأساسية اقل تذمرا من (النشاط المجدي ) حينما أعلنت أن نجاح الطغاة والمستغلين الكبار يتوقف على نشاط المسحوقين والمستغلين (بفتح الغين) وإذا ما قرر هؤلاء المسحوقون أن يتوقفوا عن العمل, وأن يخلدوا إلى الكسل الصحي, فقد يكون التقاعس عن خدمة الأسياد ـ ولو وصفه المنافقون بالفرار والتخاذل ـ هو الرد الفعال على الطغيان..؟ ولماذا نخجل من الاعتراف بأن الكسل هو سلاح ضد الاستبداد والظلم والقهر؟
-8-
كانت لدينا, في مطلع حياتنا, خريطة تحدد لنا معالم (الانتماء الايديولوجي) والسياسي, وترسم لنا بوضوح وشفافية تضاريس الانزلاق إلى اليمين أو النضال في خندق اليسار, وكنا نسترشد بهذه الخريطة للتمييز بين الوطنية المستنيرة والضلال السياسي. وقد تطرقنا, بعض الأحيان, وحولنا هذه الخريطة إلى (بوصلة) حذرتنا من رفاق السوء, ورصفنا في خندق الصواب.
ولكن الخريطة التي صاغتنا سياسيا وثقافياً قد تمزقت, والبوصلة التي رسمت معالم الطريق قد تحطمت أمام طغيان العولمة, وتعهر العدالة الاجتماعية, وعودة الامبريالية الحاقدة, وسيادة البطش العسكري, واختلطت قيم اليمين واليسار, وتم استبعاد المثقف ـ القضية أمام المثقف ـ البوق, وانتصرت الغثاثة الإعلامية على الدسم الحضاري, وسقطت قيم الحرية والمساواة والتضامن والتسامح.
ألم يكن (روجيه غارودي) على حق حينما كتب في كتابه الأخير إرهاب الغرب الذي طبع في الجزائر بعد أن رفضت دور النشر الفرنسية طباعته: (لست فخورا بانتمائي إلى هذا العصر, وأخجل من توصيفي بالمثقف الفرنسي اليساري, ويؤسفني أن أغادر هذا العالم قريباً, وأنا متخم بخيبة الأمل..)
د. غسان الرفاعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد