محمود درويش: مراوغة الموت بالتمرن على الرثاء
يعتمد كتاب "في حضرة الغياب" لمحمود درويش، الصادر حديثاً عن "دار رياض الريس"، صفة "نص" على غلافه، كتصنيف حيادي لمحتوى مكتوب في لغة تحاول التوفيق، شكلاً وروحاً، بين صيغتين للجملة، سردية وشعرية، تأخذ الواحدة من الأخرى وتعطيها، في عملية تبادل تفسح في المجال للكاتب للتحرك في حرية خارج قيودٍ ما، كان ليفرضها حسمٌ تام في الخيار بين الشعر والرواية. فإذا بنا إزاء نص كان في وسعه ان يكون مذكرات رجل عاش ما عاش وخَبِر ما خَبِر من اكتشاف واعادة اكتشاف لقيم ومفاهيم وافكار، كالوطن والارض والحرية والمنفى واللغة. كما كان يمكن ان يكون قصيدة تقول بالكثافة والتوهج اياهما الأمور نفسها. الا ان شاعرنا اختار هذه المرة من الرواية صراحة السرد ومن الشعر الغموض الايحائي، ليخرج بنص يأخذ شكل "أنا" درويشية تلقي على الأنا الأخرى، "المسجّاة في كلامها"، مرثية العمر والوطن والذاكرة.
في هذا الفصام الذي ستتضح معالمه شيئاً فشيئاً، حيث الأنا الراهنة المختمرة بالتجارب تتبادل الرثاء مع الأنا المتحرّكة في الزمن والمتحوّلة في الوعي، ما يشبه مراوغة الموت بالتمرّن على الرثاء، والتحايل عليه عله ينسى ذاك الوعد القديم بكأس من النبيذ الأحمر. مناورة، تأخذ شكل ذات تودّع ذاتها، تودعها مثواها وتهيل فوقها الذكريات، قبل ان تتلو عليها فاتحةً تناجي براءة من زمن آخر، زمن الكلمات التي تسبق المعاني. واذا شئنا تأويلاً أكثر بساطة، لقلنا انه وداع لمرحلةٍ وشبابٍ ونضالٍ وقصة. او ربما ليس الامر برمته سوى نزوة شاعر في استدراج ذاته الى اللغة، او استدراجها اليه. وللغة في كتاب درويش الاخير، الحضور القوي والتمرّس الواثق والنَفَس الطويل الذي يمدّ الكاتب بالطاقة للاسترسال والاستفاضة.
في تأبين هذه الذات المخاطَبة في غيابها، يستحيل النص لعبة فصام، بطلاها، كما سبق وذكرنا، الأنا وذاتها: "انا المرثيّ والراثي"، يقول في شكل صريح. وذلك في مقابل اللغة والموت: الاولى كونها الوعد بحياة أخرى "في قارئ قد ينجو من سقوط نيزك على الارض"، والثاني كموعد "أرجأتُه اكثر من مرة". وبينهما لحظة صفاء تنظر فيها الأنا في مرآة ذاتها بكثير من الهدوء الذي تمرّست عليه بالأوجاع، لتتلو "خطبة وداع متقطعة الزمن، خالية من الشجن، مُحكمة الفوضى، ولا دمعة فيها خوفاً على الكلام من البلل". هكذا نراها تستقبل شريط الذكريات الذي يعبر كما لو لمرة أخيرة من دون مشاعر الغضب والحسرة، وتُرفقه بدعوة لا تخلو من بعض السينيكية: "لا تندم على حرب أنضجتك كما يُنضج آب أكواز الرمان على منحدرات الجبال المنهوبة، فلا جهنم أخرى في انتظارك". وحده شعور عميق بالذات في لحظة انفصالها عن ذاتها، وصمتٌ يطرده الكلام، هذا الذي "لن يخذله غدٌ شخصي كفَّ عن الخداع، لا لأنه تأدّب وتهذّب، بل لأنه يحتضر الآن ويصير الى خبر، لا عدوّ له ولا صديق".
"سطراً سطراً أنثركَ امامي بكفاءةٍ لم أوتها الا في المطالع"، يقول درويش في جملة تفتتح الكتاب وتعود في النهاية لتقفل عليه بعد ان تكون اتمّت دورتها. كأننا هنا ازاء وقت مستقطع بين بدايتين ("كم مرة نبدأ من البداية؟") واجترارٌ للوقت في انتظار مجهولٍ تعب الشاعر من توقّعه، يستعيد خلاله تلك الأنا الدرويشية بكل تجربتها الادبية والحياتية والنضالية: "ان المستقبل منذئذٍ،/ هو ماضيكَ القادم!"، يقول مخاطباً نفسه ويغرق في ما يشبه جردة الحساب التي تنضّد الذكريات من اولى مراحل الطفولة وصولاً الى اليوم، مسائلةً اسباب العيش وشروط الغياب، فيعيد رواية سيرته من اللحظة التي أُخرج فيها الفتى من حقله وبقي ظله هناك، ثم العودة تسللاً على "طريق صخري، وسمسار حنينٍ يقود خمسة عائدين الى خطاهم المعاكسة"، وما سبقها من شقاوة الطفولة وتعلُّم صنع الحياة من الكلمات، وما تخللها وتلاها من ليالي الهرب والمنافي والمطارات والفصول والسجون والثورات وقصص الحب والشعر وكل الوقت المرهون للحكاية. لكن ايضاً بكل المدن المعترضة: القاهرة وبيروت ودمشق وباريس وفيينا وتونس، وكل الزمن الضائع "بين الخروج والدخول": الخروج من "فضاء الاسطورة الى وعاء الواقع الضيق". حينذاك، ستكون تلك الـ"أتيت ولم اصل، وجئت ولم أعد"، وستكون غزة واريحا والرفاق والعائلة والدولة التي لن يصدّقها لأنها نص أدبي صاغه بنفسه، بينما البلاد بديهة لا تحتاج الى وثائق او براهين، فـ"فيها ما يكفيها من محاريث خشبية، وجرارٍ من فخّار، وفيها زيت يضيء وان لم تمسّه نار، وقرآن، وجدائل من فلفل وبامية، وحصان لا يحارب".
لكن هذه الجردة لا تطاول الوقائع وحدها بل المفاهيم في الدرجة الاولى كما خبِرها واختبرها: الزمن، الهاوية، السعادة، الوطن، المستحيل، الالم، النسيان، الكسل، الغد، الوداع، الصدى، الشعر، الموت، الوحي، والصمت، يروي درويش عبرها كلها تعلُّم الكلمات قبل معانيها ومدلولاتها، وكيف باكتشاف هذه الكلمات يبدأ العقل بإقامة الروابط والصلات بين اللفظة والمعنى، بين الكلمة والفكرة، بين الصورة وأبعادها. حينئذٍ، نقع في غواية اللغة ولعبة المجاز، فمن "يكتب شيئاً يملكه": "الحروف امامك، فخذها من حيادها والعب بها كالفاتح في هذيان الكون. (...) ما عليك الا ان تسمّي بيدك كائنات تعرفها من قبل، وكائنات تعرِّفك على نفسها فيما بعد". ومذّاك لن ينفك قاموس حياتنا يتضخّم بالمعاني في انتظار عبث ذاكرة مختالة كطاووس ينفخ ريشه في لحظة غواية مارقة لتخرّب "الشرط الذي يتحكم بالكلمات، كما يحدث حين تنفصل الرموز عن الواقع، والتسميات عن المسميات، والالفاظ عن معانيها: عودة، استقلال، دولة، سلام، سيادة، سجاد احمر، وزارة، رئاسة، - كلمات تشير الى الشيء عن بعد ولا تعبّر عنه ولا تشبهه. كأن الهوية العطشى الى امتلاء ما تمتلئ بأمنية ظنتها محققة".
يكاد نص محمود درويش هذا يقترب من الكتابة الهذيانية، حيث تتزاحم الصور والافكار والكلمات بما يشبه طلْبةً طقسية ذات لازمة ايقاعية متكررة، يبقى صداها في القارئ حتى بعد مغادرة الكتاب. تقطع هذه اللازمة لحظات فوران اشبه بنداء استغاثة كما يحصل عندما يستحيل الكلام اصواتاً نتهجاها عندما نفقد القدرة على احتواء الصمت. او كما في ساعات الاحتضار التي تسبق الموت بما يتخللها من لحظات صحو متقطعة بين غياب وغياب. لذا تبدو الكتابة كأنها تدور دائرتها ويظل قلبها واحداً، وإن لملمت في تدحرجها في حقل المعاني تفاصيل تُكسبها كل مرة شكلاً جديداً بفعل تراكمها. فإذا بنا امام افكار تستدرج اخرى وعبارات تولد من سابقاتها، الا انها كلها تكاد تكون تنويعات متعددة لحال واحدة تعكس ربما جموداً في الواقع وشعوراً بالمراوحة او ما يسمّيه الكاتب "غياب كثيف الحضور".
يبدو الكاتب في استعادته الماضي البعيد والقريب، احداثاً ومفاهيم، كأنه يريد ان يكتبه من جديد، لنفسه هذه المرة وعن بُعد. بُعد عن ذاته واقتراب منها في الوقت نفسه، بحيث يبدو انه لا يكتب الا لها وليس لجمهور محتمل او قارئ متوقّع، ليعيد لكل ما عاشه وكتبه منحاه العاطفي الحميم الذي سرقته الثورة الفلسطينية ذات يوم واضعةً الشاعر ضمن اطار عنوانه "شاعر الثورة". فإذا به هنا يحاول عودة (اخيرة؟) الى براءة ما، الى نقاء جدير بالأزمنة الاولى لتفتّح الوعي على المعاني. ها هو يخاطب اناه المسجّاه امامه: "فانهض من هذا الأبيض. عد طفلاً ثانية/ علِّمني الشعر/ وعلِّمني ايقاع البحر/ وأرجع للكلمات براءتها الأولى/ لدني من حبة قمح، لا من جرح، لدني/ وأعدني، لأضمّك فوق العشب، الى ما قبل المعنى/ هل تسمعني: قبل المعنى/ كان الشجر العالي يمشي معنا شجراً لا معنى/ والقمر العاري يحبو معنا/ قمراً/ لا طبقاً فضياً للمعنى/ عد طفلاً ثانيةً/ علِّمني الشعر/ وعلِّمني ايقاع البحر/ وخذ بيدي/ نتعلّم اولى الكلمات/ ونبني عشاً سرياً للدوري:/ أخينا الثالث/ عد طفلاً لأرى وجهي في مرآتك/ هل انت انا/ وانا انت؟/ فعلّمني الشعر لكي ارثيك الآن الآن الآن/ كما ترثيني".
من هنا، ورغم ما يبدر من حيث الشكل من نهاية تأبينية مقفلة على ذاتها، يبدو "نص" درويش كما لو كان فاقداً كل رغبة في الوصول الى مكان ما، وكأن بقية الكتاب هي بقية الحياة التي يحتفظ منها بـ"المقطع الاخير"، وربما يواصل كتابتها الآن في هذه اللحظة بالذات من على الضفة المقابلة للطفولة المستعادة، على طاولة ما، في غرفة او في مكتب او في مقهى (مع انه لا يحب المقاهي)، فيما تستعيد الكلمات فوق أوراقه معانيها الاولى.
سيلفانا الخوري
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد