بيان بطاركة الشرق الكاثوليك
لم يكن المؤتمر السنوي الذي عقده بطاركة الشرق الكاثوليك في دير سيدة بزمار مؤتمرا مسيحيا فقط. فالقضايا او القضية الاساس، التي شغلت المؤتمر طوال اربعة ايام تعني المسلمين في الشرق وفي العالم كله، بقدر ما تعني المسيحيين وهذه القضية هي الهجرة.
صحيح ان الهجرة تشمل مسيحيين ومسلمين. وصحيح ايضا ان للهجرة اسبابا اقتصادية واجتماعية وسياسية. ولكن الصحيح ايضا ان الهجرة المسيحية وصلت الى درجة الاستنزاف. وان لهذه الهجرة اسبابا اخرى منها ما يتعلق بالقلق من تصاعد موجات التطرف الديني والتي توصف خطأ بـ"الاصولية الاسلامية". ومنها ما يتعلق بتعثر محاولات تنفيذ ما تنص عليه بعض الانظمة والدساتير العربية وتصحيح بعضها الآخر بحيث تحترم حقوق المواطنة من دون تمييز ديني، ايمانا وممارسة للشعائر.
ان الانتقاص من الحق الكامل للمواطنة يولد مشاعر تراوح بين الغربة في الوطن ومن ثم الغربة عنه، وهو وطن الآباء والاجداد... منذ ظهور المسيحية، وبين الطعن في الولاء الوطني والانتقاص من الانتماء وبالتالي الايحاء الخطير بالدونية.
ومن الطبيعي انه عندما تقع اضطرابات سياسية او حوادث امنية تستهدف كهنة ورجال دين مسيحيين، او كنائس واديرة في هذه الدولة العربية او تلك، يربط المسيحيون بين هذه الحوادث الطارئة وبين ما يعانيه المواطن المسيحي العربي من قلق يومي ومن انتقاص لحقوقه... الامر الذي يدفعه الى اليأس والى الهجرة.
فالهجرة المسيحية لم تعد كما كانت منذ القرن التاسع عشر هربا من القلة او المجاعة وتعبيرا عن الطموح بحياة افضل، ولكنها اصبحت – ولو في جزء كبير منها – هروبا من القلق والاحباط، وتعبيرا عن عدم الثقة بالمستقبل وعن عدم الاطمئنان الى النفس والعقيدة والى احترام التعدد الديني الذي تميز به الشرق على مدى اجيال طويلة.
تتراكم هذه المشاعر المقلقة حادثا بعد حادث، من صعيد مصر الى شمال العراق، الا انها بعد سلسلة الاحداث التي عصفت بالعراق تحديدا، وهو البلد المثخن بالجراح (اكثر من 655 الف ضحية منذ الاجتياح الاميركي حتى الآن) وصلت هذه المشاعر الى درجة بات معها المسيحي والعربي مخيرا بين امرين احلاهما مر: - اما الهجرة واما العزلة.
فالهجرة تستنزف الوجود، وتسد آفاق المستقبل، وتقضي على الأسس التي تقوم عليها الحياة المشتركة مع المسلمين، وفي ذلك خسارة للمسلمين وللمسيحيين معا، كما سنبين ذلك في ما بعد. اما العزلة او الانضواء على الذات كما وصفها البطريرك نرسيس بدروس التاسع عشر بطريرك الارمن الكاثوليك الذي استضاف مؤتمر البطاركة، فانها تؤدي الى الاختناق الذاتي، ولعلها تؤدي الى ما هو اخطر من ذلك، وهو الانسحاب من الحياة المشتركة.
وفي ذلك خسارة للمسلمين وللمسيحيين معا ايضا.
ان الهجرة المسيحية من فلسطين هي الاشد استنزافاً، كما اشار الى ذلك بيان مجلس البطاركة، فلم يبق فيها سوى 160 الف مسيحي فقط، اي اقل من اثنين بالمئة من السكان، منهم 50 الفا في غزة والضفة الغربية، و110 آلاف في اسرائيل. اما عدد الذين هاجروا الى مناطق مختلفة من العالم فقد بلغ 260 الفا.
ويوجد في مدينة القدس 39 كنيسة مختلفة و14 مجموعة مسيحية، يشكل كل من الارثوذكس والكاثوليك 40 في المئة منهم، كما يشكل كل من الانجيليين (البروتستانت) والارثوذكس الشرقيين 10 في المئة.
ولم يعد يوجد في المخيمات الفلسطينية في غزة والضفة اي مسيحي ولا حتى في القرى وجود لمسيحيي فلسطين فهم متجمعون في المدن فقط: غزة – بيت لحم – رام الله – القدس – الطيبة.
ويمثلهم في السلطة الفلسطينية وزير واحد – كاثوليكي عن بيت لحم – وسبعة اعضاء في البرلمان، خمسة منهم انتخبوا على لوائح حركة "فتح"، وواحد على لائحة حركة "حماس". اما حنان عشراوي فقد فازت على كل الوطن الفلسطيني.
ولكن رغم تضاؤل عدد المسيحيين، فان مؤسساتهم تقدم 30 في المئة من الخدمات الصحية. وهم يديرون 64 مدرسة وجامعتين وكليتين.
على ان ثمة امرا ثالثا غير الهجرة او العزلة او الانطوائية يحتاج اعتماده الى موقف مسيحي مشرقي يعبر عن التجذر في الارض، وعن التمسك بالحق في الشهادة لله على عقيدة المسيحية التي يشكل الايمان بها رسالة سماوية من عند الله ركنا اساسيا من العقيدة الاسلامية ذاتها. كما يحتاج اعتماده الى مبادرة اسلامية تعكس تفهما للمشاعر المسيحية وتحترم هذه المشاعر وتعمل على معالجتها بما تقتضيه من احترام حقوق المواطنة، والمحافظة على العلاقات الاسلامية – المسيحية في المشرق من التراجع والتدهور، وتقديم هذه العلاقات كشهادة حية للعالم، من دون العمل على تحقيق هذا الامر الثالث.
ان البيان الذي صدر عن مجلس البطاركة يضع الاصبع على الجراح التي تنزف من جسد الحضور المسيحي – المشرقي، وهذه الجراح هي:
-1 القلق من تنامي ظاهرة التطرف الديني في بعض المجتمعات الاسلامية. وهي ظاهرة مرضية تعيد احياء ذكرى الذمية على النحو الذي عرفه المسيحيون في عهود الانحطاط والتأخر، وليس في عهود الازدهار والسماحة والانفتاح الاسلامي. صحيح ان الذمية كنظام قد تجاوزها الزمن واصبحت جزءا من التاريخ، وان المواطنة حلت محلها اساسا للعلاقات بين الناس مسلمين ومسيحيين في الوطن الواحد، الا ان ذكراها لا تزال تشكل كابوسا مرادفا وملازما للتطرف المتنامي، بحيث ينمو الشعور بالخوف من الذمية – بما هي تسامحية فوقية – مع نمو التطرف.
-2 القلق من الانتهاكات التي تتعرض لها حقوق الانسان وفي مقدمتها الحرية الدينية، سواء لجهة بناء الكنائس، أو التعليم، أو إحياء المناسبات الدينية المختلفة. وهناك شعور مسيحي عام، بأن أي ممارسة لهذه الحقوق تبدو لدى المتطرفين الاسلاميين وكأنها تحدٍ للاسلام، رغم انها أبعد ما تكون عن ذلك.
-3 القلق من الانتكاسات المتواصلة التي تعاني منها ثقافة التعدد والتنوع الديني والمذهبي والعنصري في العديد من الدول العربية والمشرقية. ان تفكك – أو تفكيك – المجتمعات العربية على أسس دينية (اسلامي – مسيحي)، أو مذهبية (سني – شيعي – علوي – درزي)، أو عنصرية (عربي – كردي أو عربي – امازيغي)، قطعت اشواطاً بعيدة من خلال ما جرى ويجري في السودان والعراق بصورة اساسية.
-4 القلق من الاتهامات الموجهة الى الجماعات المسيحية بالتعاون مع قوى خارجية معادية والتي يطلقها متطرفون اسلاميون اثناء الازمات السياسية المحلية، على النحو الذي جرى بشكل محدود في مصر، وبشكل واسع في العراق.
-5 القلق من استضعاف الجماعات المسيحية لدى نشوب أي مشكلة بين العالم الاسلامي والغرب (مثل نشر الصور الكاريكاتورية المسيئة للنبي محمد (ص) في احدى الصحف الدانماركية، او الاعتراض على بعض ما ورد في محاضرة البابا بينيديكتوس السادس عشر حول الاسلام... الخ) الى هدف يسهل الوصول اليه والانتقام منه، كالاعتداء الذي حدث على كنائس في فلسطين، واغتيال راهبة ممرضة ايطالية في الصومال... ونشر رسوم كاريكاتورية بذيئة عن البابا نفسه. وهذا أمر يعبّر عن مشاعر عدم الثقة بهذه الجماعات المسيحية وعن ربطها جهلاً وظلماً بالغرب المسيحي، أو بالغرب اللامسيحي.
وقد عبّر بطاركة الشرق عن هذا الامر في البند السابع عشر من البيان الختامي بتوجيه نداء "الى المراجع الاسلامية والهيئات العليا ان تدين وبقوة الاعمال الارهابية التي تمارَس أحياناً بتسميات دينية اسلامية، ونحن نعلم ان الاسلام الحقيقي والقرآن الكريم براء منها، ان هذه الممارسات القمعية لا تسيء الى الاسلام فحسب، بل تزعزع ايضاً العيش المشترك القائم منذ أجيال وأجيال بين فئات المجتمع العراقي على اختلاف اديانهم ومذاهبهم".
ان مظاهر القلق هذه لها اسبابها الواقعية. ولأنها لا تنطلق من وهم أو من سوء فهم، فإن على المسلمين تحمّل مسؤولياتهم بجرأة لمواجهتها ومعالجتها. ذلك ان المحافظة على الحضور المسيحي المشرقي هو في مصلحة مسلمي الشرق ومسلمي العالم أجمع. ولتوضيح ذلك لا بد من الاشارة الى ان مقولات صراع الحضارات تحولت – أو كادت – من خلال شعار الحرب على الارهاب الى صراع بين الاسلام... والعالم.
وبموجب هذه الشعارات والتقولات، فان الاسلام ليس متهماً فقط بأنه يدعو الى العنف والقتل، ولكنه متهم ايضاً بأنه يرفض الآخر ولا يحترم الاختلاف ولا يقبل بالتنوع والتعدد. وغني عن القول ان كل هذه الاتهامات باطلة من الاساس. والعقيدة الاسلامية، والتاريخ الاسلامي يشهدان على ذلك. ولكن على طريقة أكذب أكذب فلا بد ان يعلق شيئاً، فان الكذب المتواصل والذي اصبح ثقافة في حد ذاته أدى الى تكريس صورة مشوهة قبيحة عن الاسلام في العديد من المجتمعات الدولية. من هنا فان من شأن هجرة المسيحيين الشرقيين اذا ما صورت على انها تخلٍ عن الشرق المسلم بأكثريته وانها هروب بالعقيدة المسيحية جراء ممارسات قمعية يتعرضون لها، أو جراء حرمانهم من حقوق المواطنة الكاملة والتي يطالب بمثلها المسلمون في الدول الغربية التي هاجروا اليها، ان من شأن هذه الهجرة ان تستخدم كدليل سلبي على ان الاسلام لا يقبل الآخر ولا يحترمه ولا يتعايش معه خلافاً، مرة اخرى، لما تقول به العقيدة الاسلامية، ولما يشهد به التاريخ الاسلامي. واذا كانت الهجرة المسيحية من الشرق تسيء الى صورة الاسلام في الغرب وفي العالم، فان هذه الهجرة تستنزف من المجتمع الشرقي قيماً روحية واخلاقية وثقافية، وقدرات فكرية وانتاجية هو بأمسّ الحاجة اليها. ثم ان انتزاع أي خيط من النسيج القومي في الشرق يؤدي حتماً الى تشوّه هذا النسيج والى انحلاله وانهياره.
ولقد ادرك بطاركة الشرق أهمية رسالة الوجود المسيحي المشرقي عندما أكدوا (البند السادس) على "ان الرسالة تبدأ في مضمونها بالمحافظة على العيش المشترك في وجه تعاظم صراع الثقافات والاديان. بل هي الشهادة الحية للقدرة على العيش معاً في سلام وتكامل خلاق بين المختلفين. فالاديان في جوهرها يجب ان تكون عوامل جمع لا تفريق، لأن الجوهر في كل دين هو عبادة الله وتكريم جميع خلائقه، فالمسيحيون في الشرق شرقيّو الانتماء والمواطنة وملتزمون قضايا بلدانهم".
يقول الأب خليل علوان، أمين عام مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك:
"ان ما يمّيز كنائس الشرق هو انها رسولية أي اسسها الرسل. مرقس في مصر، وبطرس في لبنان وسوريا. نحن نفخر بأننا شرقيون مسيحيون ولسنا مسيحيين في الشرق. نحن من صميم هذه البلاد وجزء من تكوينها وتاريخها. نحن بناة الحضارة العربية وساهمنا في نهضة اللغة والثقافة... المسيحية في هذا الشرق غنى لها وله".
ان هذا الشعور بالانتماء الاصيل والمتأصل لا يستمر ولا يعيش اذا ما تألّبت عليه قوى التعصب والجهل من حيث انها قوى الغائية لكل من لا يشاركها ايمانها أو نظرتها الى شؤون الدين والدنيا.
فالله سبحانه وتعالى خلق الناس مختلفين. ولو شاء لجعلهم أمة واحدة. هو أراد هذا الاختلاف. ولذلك سيبقون مختلفين. ولذلك دعاهم الى التعارف. والطريق الوحيد الى التعارف والى التعايش هو الحوار. ليس بالحسن فقط، بل بما هو أحسن.
لا بد ان يدرك كل مسلم مشرقي – أو في أي مكان آخر في هذه الدنيا – ان الكنيسة هي بيت من بيوت الله. وان الاعتداء على أي كنيسة هو بمثابة اعتداء على المسجد. وان الله يقول عن كل من الانجيل والتوراة "فيه هدى ونور". وانه يدعو اهل الانجيل كما يدعو اهل التوراة ليحكموا بما أنزل الله فيه.
وان الله يصف المسيحيين بأنهم أقرب مودّة للذين آمنوا، ويفسر ذلك، فان منهم قسّيسين ورهباناً وانهم لا يستكبرون.
ولا بد لكل مسلم ان يدرك ايضاً انه فيما يتعدى هذه الأسس الدينية للعلاقات بين المسلمين والمسيحيين (وهذا غيض من فيض) فان المواطنة والتاريخ الواحد، والمصير المشترك، ترسي اسساً ثابتة ودائمة لعلاقات أخوية في الله وفي الوطن. "فبلداننا – كما ورد في البند السادس عشر من البيان الختامي لمجلس البطاركة – تعيش مرحلة شديدة الخطورة والتوتر، فلا بد من ان نتضامن كلنا في مواجهتها، وهذا عنصر جوهري من حضورنا ورسالتنا".
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد