«لا سلام بين الأمم من دون سلام بين الأديان»
أضحى أمراً مثيراً أن يجد المرء في زمان الاسلاموفوبيا البغيضة مفكراً غربياً يحاول أن يزيح الغبار عما لصق بالإسلام والمسلمين، وتشتد الإثارة وتزداد الدهشة إذا كان الرجل لاهوتياً أو رجل دين مسيحياً له قامته العلمية والفكرية في الكنيسة الكاثوليكية مثل اللاهوتي السويسري الأصل هانس كينغ، ولعل صيحته الأخيرة «الإسلام رمز الأمل... القيم الأخلاقية المشتركة للأديان» كان منطلقاً للبحث في أوراق الرجل الذي عمل منذ العام 1960 وحتى تقاعده عام 1996 أستاذاً للاهوت المسكوني ومديراً لمعهد البحوث المسكونية في «جامعة توبنجين» الكاثوليكية، ثم عمل من عام 1962 وحتى عام 1965 مستشاراً لاهوتياً رسمياً للمجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني الذي فتح الطريق إلى الحوار مع الشعوب والأديان. ولهذا فإن أشهر ما يعرف عن كينغ قوله انه لن يكون هناك سلام بين الأمم من دون سلام بين الأديان ولن يكون هناك سلام بين الأديان من دون حوار بين أتباع الأديان.
وفي كل الأحوال تبقى شهادة كينغ شهادة غير مجروحة في حق الإسلام والمسلمين وشهادة يصعب إيجازها في سطور لكنها محاولة لإلقاء الضوء في كل الأحوال.
من زورزيه إلى روما... الطريق والبدايات
ولد هانس كينغ في منطقة زورزيه في سويسرا عام 1928 ميلادية لعائلة كاثوليكية، ولذا كان طريقه إلى العلم لا بد ان يمر عبر جامعات روما الكاثوليكية الشهيرة. فقد درس علوم الفلسفة واللاهوت في جامعة «الجريجوريانا» التي يشرف عليها الآباء اليسوعيون في روما، ثم في جامعة السوربون في باريس، ولاحقاً في المعهد الكاثوليكي في باريس ثم كان أن عمل أستاذاً في تدريس القواعد الأساسية لعلوم اللاهوت والعقيدة في الجامعة الكاثوليكية «توبنجين» كما تسلم هناك إدارة معهد الأبحاث الدينية ودعي للتدريس بصفة أستاذ ضيف في جامعات أميركية وسويسرية مختلفة.
ولأن شهرته وسعة علمه ملآ الآفاق، اختاره البابا الروماني يوحنا الثالث والعشرين كواحد من أهم مستشاريه وهنا نتساءل لماذا؟ الإجابة لأن ذلك البابا هو الذي دعا إلى انعقاد ما عرف لاحقاً بالمجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني في الفاتيكان في الفترة الممتدة من العام 1962 وحتى العام 1965 وقد كان هذا المجمع بمثابة نقلة فكرية غير مسبوقة في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية وبداية انطلاقه لها في العالم نحو الحوار مع الآخر وهو التيار الذي دعمه كينغ ولا يزال بكل قوة، لا سيما فيما يختص بالحوار بين الأديان.
غير أن خلافاً فكرياً نشب لاحقاً بينه وبين القيادة الدينية الكاثوليكية بسبب بعض الآراء اللاهوتية الخاصة به والتي لا تتفق والتوجهات الرسمية لمجمع العقيدة والإيمان في داخل الكنيسة، ولهذا فقد نزع عنه في العام 1980 حقه في التدريس في الجامعات الكاثوليكية وقد بقى هانس ممنوعاً من زيارة الفاتيكان بالصفة الرسمية طوال حبرية البابا يوحنا بولس الثاني، غير أن العام 2005 قد شهد نهاية لتلك القطيعة عندما التقى البابا بنديكتوس السادس عشر البروفسور كينغ ولم يتطرق الحوار إلى القضايا العقائدية الخلافية بل إلى موضوعات الأخلاق العالمية التي يوليها كينغ أهمية فائقة وقد عبر في نهاية اللقاء عن تقديره للمجهود الكبير الذي يبذله البابا لدفع الحوار بين الأديان والتلاقي بين جميع الفرق الاجتماعية المختلفة في عالمنا المعاصر.
كينغ والدعوة لحوار الثقافات والأديان
يعد كينغ واحداً من اكبر العقليات الفلسفية المسيحية حول العالم الذين ينحازون ولا يزالون بقوة للحوار بين الحضارات والثقافات وبين الشعوب والمجتمعات ومن أصحاب القراءات النقدية المهمة في مواجهة دعوات صراع الحضارات لصموئيل هنتغتون.
كانت بدايات هذه المسيرة في شكل رسمي في بداية عقد التسعينات عندما صاغ مشروعاً فكرياً متميزاً سماه «الأخلاق العالمية» وهو محاولة عميقة واستثنائية لشرح ما يمكن أن تجتمع عليه الأديان بدلاً من الأفكار المعلبة والمعروفة باسم STRYO TYPE أي المعدة مسبقاً والتي يعمد مطلقوها على إشاعة التناقض في ما بينها عوضاً عن التلاقي. وينطوي هذا المشروع على صوغ الحد الأدنى من القوانين السلوكية المقبولة من الجميع، وضمن رؤيته هذه في الوثيقة التي كتب مسودتها في إعلان مبدئي ووقع عليها قادة وزعماء دينيون وروحيون وفلاسفة وعلماء من جميع أنحاء العالم في ما سمي وقتئذ «برلمان الأديان العالمي» الذي عقد في ولاية شيكاغو الأميركية في العام 1993.
والمؤكد أن مواقف كينغ النقدية الصريحة والعلنية وميوله الإصلاحية وان وجدت رفضاً كاثوليكياً واضح المعالم، لقيت على الجانب الآخر وبخاصة لدى الجهات والبلدان الانغلوساكسونية والجرمانية صدى وترحيباً كبيرين الأمر الذي مكنه من أن يغدو أحد مستشاري الأمم المتحدة في الشؤون الدينية وبخاصة ما يتصل منها بالحوار بين الأديان السماوية.
والقارئ الجيد لفكر هانس كينغ يدرك تمام الإدراك انه ينظر للأديان على أنها سلسلة من التواصل الإيماني والأخلاقي على اختلافها وتعبيراً عن شرعية التدين عند الإنسان وأنها ينبغي أن تكون في خدمة الإنسان وان إيمان الإنسانية برب واحد يفرض على الناس احترام كل البشر باعتبارهم مخلوقات الله.
ويشكل كتاب «كينغ» الإسلام تاريخاً وحاضراً ومستقبلاً «الصادر عام 2005 ترجمة لرؤية الرجل بخاصة في ما يتعلق برؤيته للإسلام، إذ مكنته المقاربة المتعددة الأبعاد التي انتهجها في هذا الكتاب من النظر إلى الدين الإسلامي كمنظومة قيم تاريخية متجذرة في الحاضر، وتتطلع إلى القيام بدور كوني سواء على الصعيد الأخلاقي أو الاجتماعي أو السياسي وأن هذا الدور المتنامي يطرح على الغرب مسؤولية الحسم في مسألة الحوار الديني لدرء خطر التطرف الذي يحصد الأبرياء هنا وهناك ولمعالجة الأوضاع في العالم الإسلامي بروح التفهم لمكانة الدين من مجتمعاته. ولعل أوضح عبارات يحتاج الكثيرون في الغرب اليوم الى إعادة قراءتها تلك التي قال بها هانس كينغ في الفصل الأخير من ذلك الكتاب القيم. ما الذي قاله كينغ؟
الإسلام من صورة عدائية إلى رمز للأمل
في هذا الفصل يتحدث هانس كينغ عن الإسلام بصفته رمزاً للأمل وعنده انه عاجلاً أم آجلاً مساحة ضرورية لاندماج جوهر الإسلام مع تحديات القرن الحادي والعشرين، وإن الرسالة الأصلية للإسلام تجعل من الممكن وجود مجتمع ديموقراطي وثقافة مبدعة مع علوم مبتكرة، واقتصاد قابل للتطبيق ولو نجح ذلك فمن الممكن أن يقدم الإسلام إسهامه للمجتمع الدولي، أسهاماً تكون فيه حقوق الإنسان والمسؤوليات الإنسانية أساساً مشتركاً على رغم كل الاختلافات الثقافية.
ويشير كينغ كذلك إلى أن المسلمين من المغرب حتى إيران ومن أفغانستان حتى أندونيسيا، يأملون في أن يجتمع كل من الإسلام والديموقراطية الحديثة معاً، وألا يستمر تطبيق الإسلام في شكل متسلط في الممارسة السياسية، ولا ينبغي أن يكون هناك شكل من أشكال الاكليروس على الأرض.
في هذا السياق يرى كينغ أن الإسلام منقذ في الحياة، والتساؤل كيف ذلك؟ من منظور الفردية المتزايدة يقول عالم اللاهوت الكاثوليكي الشهير، «يمكن لقناعة إسلامية تتوافر لديها حساسية لمتطلبات هذا الزمن أن تساعد الناس باتجاه خبرة شخصية صحيحة، اكتشاف الذات، تقرير المصير والإشباع الذاتي. وفي ضوء التعددية المتزايدة إن القناعة الإسلامية التي تتوافر لها حساسية تجاه الزمن الذي نعيش فيه يمكن أن تمنع الناس من أن يتعاملوا مع بعضهم بعضاً بصفاقة بدءاً من نظام السوق الحر وانتهاء بكل الاحتمالات الدينية».
وإذا كانت الأصوات ترتفع دوماً ضد الإسلام على أنه مضاد للحداثة فإن الإسلام المعاصر كما يتراءى لكينغ لن يدين في شكل متسرع الحداثة ولكنه يؤكد وجهها الإنساني ولهذا نراه يقول: «لا ينبغي أن تكون هناك ثقافة فرعية إسلامية في الغيتو»، أي أن الإسلام لا ينبغي أن ينزوي بنفسه صانعاً ثقافة إسلامية منعزلة عن بقية المجتمع العلماني.
وفي الوقت ذاته سيتجنب الإسلام المعاصر العوائق اللانسانية والمؤثرات المدمرة للحداثة. لن تكون هناك تساهلات حداثية ولا خيانة لجوهر الإسلام ويمكن للعلاقة العقلانية بالعالم الحديث والثقة في الله «الذاتي» أن تدعم كل منهما الأخرى. ويؤكد كذلك أن الإسلام قادر على التعاطي مع متطلبات العصر بتوليفه مصطنعة جديدة ومقدسة في الوقت نفسه بنموذج يمكن أن نطلق عليه بشيء من رجاحة العقل ما بعد الحداثي.
ما الذي يستطيع الإسلام أيضاً أن يقدمه؟ بحسب كينغ يستطيع في شكل مؤكد ان يقدم أسهاماً في ما يخص المشاكل الفردية وأن يمدنا بالمساعدة من أجل الحياة وتتعدد المجالات وتتنوع الاتجاهات من حقوق الإنسان إلى التلوث البيئي مروراً بمشاكل الفقر والفقراء والتلاعب بالجينات والتهديد النووي. وعلى رغم أن هذه مطالب يرى البعض انه قد يكون من المبالغة فيها بالنسبة الى الدين أن يقدم أسهاماً أساسياً في حال تلك الإشكاليات، ألا أن الدين عند كينغ ينبغي أن يقول كلمته في شكل ما في واحد أو أكثر من تلك المجالات، وهنا يستطيع الإسلام أن يقوم بذلك.
وعند هانس كينغ «قناعة بأن المشاكل التي يواجهها الإسلام في القرن الحادي والعشرين ليست مختلفة كثيراً عن تلك التي تواجهها المسيحية على رغم أن هناك فترة زمنية فاصلة في شكل ما وبحسب أفكار الرجل فان هناك أربعة مناطق إشكالية بالنسبة لكل من الإسلام والمسيحية متعلقة بأبعاد مختلفة للواقع أي بالحياة اليومية الفردية والمشكلات العالمية - وهي في حاجة إلى تفكير مكثف وتنفيذ عملي حكيم وهي:
1-البعد الكوني: الإنسان والطبيعة وكل ما يقلق في شأن الحركة البيئية.
2- البعد الانثربولوجي: الرجال والنساء والشأن الخاص بحركة المرآة.
3-البعد الاجتماعي - السياسي: الأغنياء والفقراء وكل ما يتعلق بالمؤسسات الاجتماعية.
4- البعد الديني: الله والناس وما يتعلق بمسائل الحوار الديني والمسكونية على نحو خاص.
والشاهد أن كينغ قد غاص في أعماق القضايا التي تتماشى مع الحياة اليومية للمسلم بل أكثر من هذا، إنه يرى إن هناك قضايا فرضتها الأبواق الإعلامية الغربية فرضاً على ذهنية الرأي العام، وحاولت قصرها على المسلمين فقط ومنها قضية التطرف الديني الذي أضحى ينسحب على المسلمين فقط... ماذا عن ذلك؟
إشكالية التطرف الديني
في معالجته الفكرية هنا لا يربط هانس كينغ فكرة التطرف بالإسلام بل يعالج باختصار ظاهرة التطرف لدى أتباع الديانات السماوية الثلاث ولعل أهم ما يشير إليه كينغ في مقال له في هذا الشأن هو ضرورة السعي لفهم دوافع التطرف وأسبابه «لأننا لن ننجو من نار التطرف إلا عندما نعالج الأسباب التي أدت إلى ظهوره». غير أننا سنقصر تعرضنا لرؤية «كينغ» تجاه ما يراه البعض تطرفاً إسلامياً فيقول اسمع أحياناً الاعتراض القائل كيف يمكننا التعامل مع المتطرفين المسلمين الذين يمكنهم التعامل مع وسائل الحضارة الحديثة لكن في داخلهم رجعية وتخلف عن المدنية الحديثة؟
الجواب عند مفكرنا في ما يخص مسألة المسلمين المتطرفين - أو الإسلاميين كما يسميهم المسلمون - تدور في سياق نقاط عدة منها:
* إن الإسلام ليس ديناً متطرفاً كلية، ففي الإسلام أيضاً كانت وما زالت هناك حركات إصلاحية كثيرة.
* المسيحية بدورها تعاني من لمحات من التطرف كما في الأصل البروتستانتي والتطرف كذلك موجود في اليهودية من خلال حركات عنصرية شتى.
* لا تنحصر جذور التطرف على الناحية الدينية فحسب بل تمتد لتشمل أيضاً النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فالمتطرفون المسلمون يشيرون إلى أوجه قصور الحضارة الحديثة وهي ملاحظات ينبغي أن تؤخذ مأخذ الجد حتى إذا رفضنا الحلول التي يقدمها المتطرفون.
ما هي أبعاد الرؤية الصحيحة إذاً في معالجة ظاهرة التطرف؟ لا يمكن التغلب على التطرف كظاهرة دينية من طريق الهجوم المباشر ولكن من خلال الفهم الصحيح له، وتخيل أنفسنا في مكان هؤلاء المتطرفون والأهم من ذلك من طريق معالجة الأسباب التي أدت إلى ظهور هذا التطرف.
في هذا السياق يقدم المفكر الكاثوليكي خمس نقاط للتعامل مع التطرف الموجود في كل الأديان وهي:
أولاً: لفت نظر المتطرفين إلى الأصول الخاصة بالحرية ومبدأ التعددية والانفتاح أمام الآخرين وذلك في تراث كل فريق منهم في التوراة والتلمود عند اليهود وفي الأناجيل والكتابات المسيحية عند المسيحيين وفي القرآن الكريم والسنّة النبوية عند المسلمين.
ثانياً: تنبيه التقدميين إلى ضرورة ممارسة النقد الذاتي في ما يخص كل المحاولات الواهية للتكيف مع روح العصر والعجز عن رفض ما يجب رفضه.
ثالثاً: انتهاج طريق روحاني جديد وممارسته بصدق وأمانة وبخاصة من قبل هؤلاء الذين لا يقبلون سلطة الكنيسة الكاثوليكية ولا حرفية الكنيسة البروتستانتية ولا تقاليد الكنيسة الأرثوذكسية أو أولئك الذين لا يرضون بالتيارات الرجعية ذات الأصل اليهودي أو الإسلامي.
رابعاً: على رغم كل الصعوبات والتناقضات فلا بد أيضاً من السعي الى فتح حوار مع المتطرفين، بل لا بد من التعاون معهم ليس فقط في المجالات السياسية والاجتماعية بل أيضاً في مجال العلوم الدينية.
خامساً: حتمية مقاومة التطرف بصورة حازمة وذلك على الصعيدين الداخلي والخارج إذا قام تحالف بين التطرف من ناحية والقوة السياسية والعسكرية أو السلطة الدينية من جانب آخر.
إميل أمين
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد