الأب زحلاوي: كتاباتي جعلتني للأسف استثناء في الوسط الكنسي

27-10-2006

الأب زحلاوي: كتاباتي جعلتني للأسف استثناء في الوسط الكنسي

في كتابه الجديد الصادر حديثا عن مركز الغد العربي للدراسات بعنوان «أمن أجل فلسطين وحدها» يوضح الأب الياس زحلاوي وجهة نظره من اهم الاحداث السياسية التي شهدتها المنطقة العربية في السنوات الست الأولى من القرن الواحد والعشرين كاحتلال العراق والانتفاضة الفلسطينية والموقف من مفهومي الإرهاب والمقاومة, وهو لا يكتفي يتناول الاحداث وبإثارة الأسئلة حولها, بل إنه يقترح العديد من المشاريع والخطوات العملية, وحول بعض القضايا والمقترحات الواردة في كتابه كان لنا معه الحوار الآتي:

€ بتقديم الدكتور جورج حبش لكتابك الجديد يجتمع رمزان من رموز الفكر الديني والعلماني على الثوابت الوطنية وحق البشر في الحياة الكريمة. ألا تعتقد أن في هذا الاجتماع حلاً مستقبلياً للأزمات السياسية والفكرية إذا ما تعمّم على مستوى العالم العربي؟
­ أن يكون الدكتور جورج حبش أحد أهم رموز الفكر العلماني في العالم العربي, فهذا أمر لا يختلف فيه اثنان. أما أنا, فما اعتبرت نفسي يوماً, رمزاً, لا للفكر الديني, ولا لأي شيء آخر. إلا أنه لا بد لي من الإقرار بأن كتاباتي حول الصراع العربي ­ الإسرائيلي, وربما بعض مواقفي, قد تكون جعلت مني ­ للأسف ­! استثناء في الوسط الكنسي العربي. أقول ذلك ليقيني التام بأن ما ينطوي عليه الإنجيل من حب مطلق للإنسان من جهة, ومن تماهٍ صارخ ومحدد بين السيد المسيح وكل إنسان معذب, مقهور, مظلوم, منقوص الإنسانية, من جهة ثانية, كفيل بأن يجعل من كل رجل دين مسيحي ­ لو شاء ­! مناضلاً من أجل حق كل إنسان في حياة كريمة. فلا ننسيّن أن الحرية والكرامة توأمان لا ينفصلان. فلا قيمة البتة لحياة من دونهما. والحرية أساس لا غنى عنه في أي حياة, وأياً كانت أبعاد هذه الحياة, شخصية أم عائلية أم اجتماعية أم دينية, أم سياسية أم وطنية أم عالمية.
ولذا كان يوم محتوم التقيت فيه, في فرح واعتزاز, الدكتور جورج حبش. وقد تم ذلك بدعوة كريمة منه. فكان اللقاء بداية لتعاون جاء في منطق إيماننا المشترك بضرورة العمل على توفير ما يعود للإنسان عموما, وللإنسان العربي خصوصا, من حقوق لا يقوم له, من دونها, وجود.
وإني لأرى معك أن اجتماع الفكر الديني والفكر العلماني, يشكل شرطاً أساسياً في مواجهة مشاكل المجتمع العربي. إلا أن مثل هذا الاجتماع, ولئن تحقق ويتحقق على مستوى بعض الأفراد القلائل, هنا وهناك في أنحاء مختلفة من الوطن العربي, فإن تعميمه في نطاق الوطن العربي وتبنيه بوصفه منهاج فكر وتحليل وعمل, يفترضان, هما أيضاً, شرطاً آخر لا يقوم في غيابه مجتمع سليم, أعني به الحرية السياسية. وما لم تتوافر هذه الحرية السياسية, فإن ثقل الضغوط الحالية, من داخلية وخارجية, على اختلاف أنواعها ومستوياتها, سيظل يدفع بغالبية «المواطنين» ­ أقول «مواطنين», فيما هم في حقيقة الأمر, رعايا ­... شطر مزيد من التأزم والتطرف, فيما ثقل الماضي, الماضي القريب والسحيق معاً, سيوقظ, عاجلاً أم آجلاً, شياطين الأمس التي أسكنتها في أعماق جميع «الرعايا» العرب, قرون طويلة من القمع والرعب والذل! إننا حقاً لفي مأزق مرعب!
€ في كتابك تطرح فكرة «الحوار بين الشعوب» كبديل عن الحوار بين القادة الذي لم يعد مجدياً. وترى أن تظاهرات الاحتجاج التي تعم العالم هي إحدى إرهاصات هذا الحوار, فهل يمكننا التوسع أكثر في وجهة النظر هذه؟
­ قد تبدو الدعوة إلى إقامة حوار بين الشعوب, أمراً في غاية الغرابة, بل الاستحالة. إذ كيف يتسنى حوار بين مليارات البشر, فيما تواجه الإنسان, كل يوم, في واقع حياته الشخصية والعامة, ضغوط وتعقيدات, تجعل الحوار بين أفراد عاديين, أمراً عسيراً؟
ثم ان ما يعني مختلف شعوب الأرض, يتفاوت أشد التفاوت موضوعاً وأهمية وحدّة... ولا ننسيّن أن الإعلام الحديث يستطيع أن يقلب الحقائق والمفاهيم والقيم, بل الوقائع بالذات, هنا وهناك, وعلى نطاق العالم, رأساً على عقب.
ثمة حقيقة تاريخية قاطعة, تستوقفنا على هذا الصعيد, وهي أن من يملك القوة, ولا سيما إذا كانت «مطلقة» و«شاملة», يصبح عبداً لها, فلا يعود يستطيع أن يفلت من آليتها الحتمية, فتجره إلى ما تمليه عليه من تضخم سرطاني, ومن تغلغل تأثيرها في العمق وفي كل اتجاه, بحيث ينتهي به الأمر إلى إحكام سيطرته على المؤسسات الفاعلة, من عالمية وإقليمية ووطنية.
وهذا واقع العالم اليوم إزاء هيمنة القطب الأميركي الواحد.
ومع ذلك, فقد رأينا بأم العين حواراً حقيقياً قام هنا وهناك, وشمل الأرض كلها من أقصاها إلى أقصاها, وقد ضم عشرات الملايين في مختلف بلدان العالم, من أكثرها غنى إلى أكثرها فقراً... والجميع ينطقون بلسان واحد, رافضين الحرب على العراق.
ذلك بأن الإنسان هو الإنسان, ومهما تراكمت عليه أو معه, عوامل التباين والتفاوت, من حيث اللغة والدين والتاريخ والثقافة, فإن ما لديه من حس إنساني سليم, يستيقظ ويندفع ليشكل رابطاً إنسانياً عميقاً ومتيناً, يحطّم كل الحواجز التاريخية والسياسية والاجتماعية, بل والدينية, الطبيعية أو المصطنعة, ليطالب بما يراه حقاً, ويقاوم ما يراه خطأ!
بالطبع, مثل هذا التحرك يتخذ له أحياناً كثيرة شكل موجات تلقائية واسعة, تتحرك ثم تتوقف لتعود فتغيب ثم تنطلق!
إلا أن هذه الحركات العالمية, أياً كانت تلقائيتها, تخضع بالضرورة لقوة أخرى, نبتت هنا وهناك, وخطّطت لعمل يتسع نطاقه, وينشر عدواه في توقيت ما... وأسلوب ما... وأما ما يمكن أن تحدثه هذه العدوى من اتساع في حركة «الحوار العالمي», فأمر لا يحتاج إلى برهان.
وأما الحوار الذي أدعو إليه, فإنما هو الحوار مع هذه «القوى» الفاعلة, المنتشرة هنا وهناك, كي لا يكون تعاطينا معها بمستوى رد الفعل الآني فقط, كما هي عادتنا. وهذا يعني ضرورة رصدها, والتعرف إلى قادتها, وبناء الجسور معهم وتمتينها, من خلال لقاءات ميدانية, وتبادل الزيارات والخبرات, وعقد مؤتمرات لا تشكل فسحة للترفيه والتباهي, بل مجالاً لبناء قاعدة نضالية مشتركة, ضمن خطة مدروسة... توضع في خدمتها جميع وسائل الاتصالات الحديثة المدهشة!
إلا أن مثل هذا الحوار يفترض هو أيضاً حداً أدنى من الحرية السياسية, وإلا اعتبرته السلطة القائمة تآمراً عليها...! وما لم تقم حرية سياسية حقيقية تشمل جميع طبقات الشعب, فإن كل حوار مزعوم لا يمثل سوى مسرحية فارغة.
€ لم تنسَ في كتابك أن تذكر الشخصيات الغربية واليهودية التي تعاطفت مع قضايانا العربية. وهي خطوة أساسية من خطوات مد جسور الحوار الغربي­ العربي. كيف يمكن توسيع دائرة هذه الخطوة وتفعيلها بما يخدم مصلحة الطرفين؟
­ في كتابي الأخير «أمن أجل فلسطين وحدها؟», لم أذكر سوى قلة من المثقفين الغربيين أو اليهود, المتعاطفين مع القضايا العربية. وفي كتابي السابق, «من أجل فلسطين», ذكرت آخرين. ولكن هناك, بالطبع كثيرون يعرفهم بعض كتابنا ومثقفينا, ومسؤولينا, معرفة شخصية. والمعروف أن من هؤلاء الغربيين المؤيدين للحق العربي, من دفع ثمناً باهظاً لموقفه... ومنهم من دَفعنا, نحن العرب, ثمناً أغلى بسبب تجاهلنا لهم أو لكتاباتهم, وبسبب إعراضنا أحياناً عن مقترحات مهمة تقدموا بها إلى السفارات العربية, في هذه أو تلك من العواصم الأوروبية مثلاً, ولم تجد من يكلف نفسه عناء دراستها... والرد عليها!
الحقيقة أن المشكلة ليست في وجود أو عدم وجود مثقفين غربيين أو يهود يؤيدون الحق العربي. إنهم موجودون, وإن بدرجة متفاوتة. ولكنهم موجودون, وبقوة, لأن الغربي عموماً إنسان عرف معنى الحرية ودفع ثمنها باهظاً, وكذلك ثمن الحقيقة التي يؤمن بها ويدافع عنها. فإذا ما اتخذ موقفاً ما, فهو يتخذه لا من أجل سواد عيون العرب, بل لأنه مؤمن به, وهو لا يرمي من ورائه إلى غنيمة ما يريد أن يساوم عليها!
أين المشكلة إذاً؟ إنها فينا نحن العرب. ذلك بأن قناعاتنا الشخصية والجماعية, كثيراً ما تفتقر إلى أسس علمية وفكرية تقوم عليها, وكثيراً ما تتعرض لتقلبات متناقضة, تدفع إليها الأنظمة القائمة في غفلة من الجميع, أو الظروف الطارئة أو الأحداث المفاجئة أو المصالح الآنية أو الخفية!
ولنقلها بصراحة كلية ومن دون مواربة: مشكلتنا الكبرى والدائمة هي في غياب المؤسسات الثقافية والعلمية لدينا نحن العرب, مؤسسات تكون مستقلة عن أي تدخل سياسي رسمي, وتتمتع بحرية تامة في مجالات البحث العلمي, وتتواصل في تراكم سنوات متصلة الحلقات على صعيدي الإدارة والعمل, وتستطيع مالياً تحقيق الارتباط والترابط, وفق ما تراه مناسباً أو ضرورياً, مع المؤسسات والشخصيات العلمية والثقافية في العالم, ولا سيما تلك المتعاطفة مع القضايا العربية!
وما دامت هذه المؤسسات غائبة أو مغيبة, فسيظل التعامل مع المؤسسات والشخصيات الغربية المؤيدة للحق العربي, محدود الفعالية والتأثير. وأنا مع الكثيرين الذين يرجون أن يتم كل ذلك, قبل ضياع, لا الحق العربي وحسب, بل الوجود العربي كله!
€ تقول في كتابك إن ما مُورس باسم الديانات جميعاً كان إما تثبيتاً لواقع اجتماعي ظالم سابق أو اجتهادات مجحفة في الغالب بحق الله قبل الإنسان, ألا ترى بأنه آن الأوان لإعادة تفسير النصوص المقدسة بما يستجيب مع تطور البشر, وإذا كنت توافقني الرأي فما هي حدود الاجتهاد والإضافة بهذا المجال؟
­ سؤالك هذا يثير قضية شائكة, تطرح بدورها سؤالاً محرجاً على جميع الباحثين في أمور الدين. فلئن كان الدين, في جوهره, دعوة إلى الإيمان بالله, واستلهاماً لهذا الإيمان في جميع مسائل الحياة الزمنية, فما الذي يبرر ما ارتكب ويرتكب باسم الدين من أخطاء, صغيرة أو كبيرة, أساءت وتسيء إلى الله, بقدر ما أساءت وتسيء إلى الإنسان؟ ولئلا أبدو متطاولاً في غير حق على أحد, أو على أي دين, لا اسمح لنفسي بالتحدث في مجال هذه النقطة, إلا بما يتعلق بالمسيحية, بوصفي كاهناً مسيحياً.
هنا, أود أن أختزل القضية المطروحة, بسؤال واحد, يستند إلى حقيقة ثابتة, وهي أنه يستحيل العثور, في جميع أسفار الإنجيل المقدس, على كلمة أو جملة واحدة, يمكن أن يشتم منها ما قد يكون تحريضاً على جفاء أو حقد أو ظلم أو قتل. فكيف السبيل, في مثل هذه الحالة, إلى تفسير, ومن ثم إلى تبرير نشوء محاكم التفتيش, وما ارتكب فيها وبسببها من أخطاء, بل ومن فظائع؟
إن هذا التناقض المروّع الذي وقع فيه المسيحيون طوال قرون, يذكّرني بتناقض آخر وقع فيه جميع «الثوريين» عبر التاريخ, من دون استثناء, وقد لخصه الشاعر الفرنسي «أندريه شينييه», وهو على درج مقصلة الثورة الفرنسية في العام 1794 بكلمته الشهيرة: «أيتها الحرية, لكم من جريمة ترتكب باسمك»!
وإن ما حدث في المسيحية, في الفترات التي سبقت محاكم التفتيش, ورافقتها وأعقبتها, كان تمرداً على المؤسسة الكنسية بالذات, بسبب ما مارسته من تسلط, وكان من ثم تمرداً على المسيحية. وقد كلف هذا التمرد القائمين به والمحرضين عليه ثمناً باهظا,ً بل باهظاً جداً. إلا أنه تواصل وتأسس فكرياً ولاهوتياً واجتماعياً, ثم انتقلت عدواه من الأوساط الثقافية والعلمية والفنية إلى الأوساط الشعبية, حتى بات اليوم واقعاً ثقافياً واجتماعياً وعلمياً وإعلامياً, يشمل المجتمع الأوروبي برمته, بحيث أصبح الحضور المسيحي فيه وقفاً على قلة هي الاستثناء النادر, بل المستغرب!
أفلا يشكل ذلك التطور دعوة صريحة وواضحة لجميع من يعتبرون أنفسهم مسؤولين عن الدين, أياً كان هذا الدين, كي يتّضعوا ويكفّوا عن اعتبار أنفسهم مدافعين عن مصير الله في الأرض, ويكفّوا من ثم عن تقييد كلماته الخلاقة أبداً, بقيود عقولهم وعاداتهم ومصالحهم وسلطاتهم, لئلا يصيبهم ما أصاب سواهم؟
€ هناك حملة إعلامية غربية شرسة ومفتعلة لتشويه الإسلام وربطه بالإرهاب والتخلف, فكيف تنظر إلى هذه الحملة؟
­ هذه الحملة ليست بجديدة, وهي تأتي في منطق صراع بين الشرق والغرب, يعود إلى قرون طويلة. وهو لا ينسجم مع ما يدّعيه الغرب من أن الإسلام والإرهاب واحد. فالغرب «يفصّل» القادة والمسار التاريخي للشعوب, وفق مصالحه ليس إلا! ومصلحته اليوم هي مواصلة تقدمه العلمي والاقتصادي والعسكري, ليتسنى له أن يواصل بسط هيمنته على العالم, واستغلاله من دون رحمة ولا حدود, ممتصاً كل ما في الطبيعة والبلدان من ثروات, بما فيها خصوصاً الثروات البشرية. وهو يلفّق من دون توقف في سبيل ذلك نمطاً من الأكاذيب, يرفع بموجبها عدو الأمس إلى مَصفّ الأبطال, وصديق الأمس إلى مَصفّّ الشياطين, وينشئ جيوشاً يحارب بها صديق الأمس, ثم يلقي بها في أتّون حروب يفتعلها, كما حدث في أفغانستان والعراق, وكما كاد يحدث في لبنان, كل ذلك في تجاوز فاضح لجميع الأعراف والقوانين... أما ما حدث ويحدث في فلسطين, فقد تجاوز كل ابتكارات الخيال, كذباً وقسوة ووحشية!
فالصراع ليس بين الأديان, ولا بين الحضارات, كما ادعى بعض منظّري اليمين الأميركي. إنه بكل بساطة صراع بين من يملك القوة والعلم والمال, ومن لا يملك شيئاً, أو لا يملك سوى القدرة على الاستهلاك, بدءاً باستهلاكه ذاته في سبيل من يملك كل شيء! ومن يظنّ أن في الغرب مسؤولاً واحداً يهتم بالدين, ويشنها حرباً «صليبية» على المسلمين, يتخبط في وهم ينسيه الحقيقة المرة, حقيقة الصراع بين قوتين: قوة تملك كل شيء, وتريد أن تحتفظ بكل ما تملك وبالمزيد منه بأي ثمن, وقوة لا تملك شيئاً يذكر, وتحاول مع ذلك أن يكون لها ما يضمن لها مكاناً ومكانة في عالم اليوم والغد.
ولقد اتخذ منطق هذا الصراع منحى مفاجئاً ووحشياً, منذ أن امتطت الصهيونية الإدارة الأميركية والمرافق الحساسة في الولايات المتحدة, ومنذ أن تسللت إلى كل المؤسسات والأحزاب الفاعلة والشخصيات الحاكمة في طول الغرب الأوروبي وعرضه, حتى باتت تملي نمطاً من التعامل بين الشعوب, يقوم على منطق القوة التي تصرّ, لا لشيء إلا لأنها قوة, على اختراق جميع المؤسسات الدولية والتشريعات السائدة, بل على ابتكار قوانين جديدة «تجيز» لها استباحة كل ما تملي عليها سياستها هذه ضرورة استباحته, من حدود وعهود وحريات, بل وشعوب ومصائر! وكان من أهم ما استنبطت, ترجمة لهذه السياسة, مصطلحين جديدين هما «الحرب الاستباقية» و«مكافحة الإرهاب»... وبذلك تحول الغرب كله إلى كابوس إرهابي يُصنّع الإرهاب وينتجه ويصدّره في جميع الاتجاهات والبلدان... وقد لن يوضع له حد, إلا باستفحال ردود أفعال يائسة وإرهابية حقاً, هنا وهناك, أياً كان مصدرها, ولكن بحجم مفاجئ ومروّع... وهذا أمر متوقع في أي لحظة وفي أي مكان, لأن الضعيف, إذا ما تيقن من فقدانه كل شيء, وظل طريد ظلم غبي, سيجد نفسه, ذات يوم, مدفوعاً دفعاً إلى استخدام أشد الأسلحة هولاً وقد لا ينتظر الغرب طويلاً مثل هذه المفاجأة الكارثة!
إلا أنني لا أريد أن أحمّل الغرب وحده مسؤولية هذا الذي يحدث اليوم في لبنان وفلسطين والعراق وأفغانستان, وما قد يحدث غداً هنا وهناك. لأن شعوب الغرب غير حكامها, مثلما أن الشعوب الأخرى غير حكامها. وما نشاهده بين حين وآخر, من تظاهرات عارمة, غاضبة, وما نقرأه أو نسمعه على شاشة التلفاز من هذا أو ذاك من بعض الكتّاب أو السياسيين الغربيين, يدلل على أن الشعوب الغربية تميّز جيداً بين ما يقول حكامها, وما يفعلونه في حقيقة الأمر. إنها تميّز وتحتّج, مع أن الإعلام الغربي يخضع في معظمه لهيمنة صهيونية مدروسة ومتحفزة!
لذا وجب القول بأن قسماً كبيراً من مسؤولية ما يمارس من سياسة غربية متوحشة في طول الوطن العربي وعرضه, وفي نطاق البلدان الإسلامية, يعود إلى الأنظمة القائمة فيها. فالقمع المتواصل منذ عشرات السنين, يخنق الحريات ويخلق التربة الصالحة لأصوليات ما كانت لتكون لو أتيح لها أن تنفس عن ذاتها بحرية.
ثم إن غياب الإعلام الموضوعي, الحر والمدروس, في مجمل هذه الأنظمة, هو الذي يغيّب ملامح جميلة من حياة هذه الشعوب, عن عيون الغربيين وعقولهم. كما ان المؤسسات الثقافية, العربية والإسلامية, القادرة على بناء جسور الحوار والتعارف والتقارب والتعاون, بل والتحاب بين شعوب الأرض, إما غائبة كلياً, وإما بيد مسؤولين قد يكون همهم الأوحد... الحفاظ على ما ظفروا به من مكاسب.
أجل, إن مثل هذه المؤسسات باتت, بالنسبة إلى البلدان العربية والإسلامية, من ضرورات الواقع المطلوب من أجل سياسة سليمة وسيادة حقيقية. إلا أنها لا يمكنها أن تقوم بفعالية وديمومة إلا ضمن فسحة واسعة من الحريات العامة والخاصة, تفتقر إليها, في واقع الأمر, جميع الدول العربية والإسلامية. وقد تبرّر ضغوط السياسات الغربية, واحتمال النزاعات الداخلية, أو حتى حدوث بعضها, قد تبرّر غياب جميع الحريات السياسية أو بعضها, لبعض الوقت! أما أن تلغيها كلها, كل الوقت, فذلك ليس سوى انتحار!
€ في كتابك اقتبست من ماركس وبريخت, واستشهدت بالأساطير اليونانية, وهو مثال حي على انفتاح الفكر الديني على الثقافة العالمية وليس التقوقع في إطار المدوّنات الدينية, فماذا تقول في العلاقة بين هذين القطبين المتصارعين في أغلب الأحيان؟
­ من نافل القول إن جوهر ما جاء في فكر ماركس, وفي مسرح بريخت­ وفي غيرهما من رهط المفكرين والمبدعين في كل بقعة وزمان­ بات جزءاً لا يتجزأ من التراث الثقافي الإنساني. أما الأساطير القديمة في الشرق والغرب, فإنها تشكل حصيلة جهود الإنسان الأولى, في فهم الكون وذاته, وسر علاقته بهذا الكون وبذاته, إنساناً ومجتمعاً.
وعلى الرغم من التباين النوعي القائم بين الأساطير وجميع ما جاء بعدها, من إبداعات فكرية ومسرحية وغنائية وملحمية وروائية وقصصية, صمدت أمام اختبار الزمان الذي لا يرحم, فإنها كلها تشكل تراثاً عالمياً واحداً, لا يجوز التقليل من شأنه, حتى إزاء الكتب الدينية المقدسة, أياً كان اسمها ومصدرها. فما من دين استبعد الحياة وإبداعاتها الكثيرة, أو أنكر قيمتها, إلا انتهى به الأمر إلى استبعاد الحياة له. أما ما يمكن ان يحدث, هنا أو هناك, من توتر أو نزاع بينهما, فمرده لا إلى جوهر الدين أو جوهر إبداعات الحياة, بل إلى الآخذ بهما. فالخلاف في الإنسان وفي طريقة فهمه لهذا الذي هبط عليه من «فوق», أو لهذا الذي نبع فيه من «تحت»... والغنى الإنساني والثقافي الحق, لا يقوم على نبذ أحدهما للآخر, بل على استيعابهما والتعامل معهما, على أنهما وجهان مشرقان لحقيقة واحدة وجمال واحد, بحيث يكمّل أحدهما الآخر, ويجمّل أحدهما الآخر.

المصدر: الكفاح العربي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...