الجيش يربح ولا يحسم والحرب مسـتمرة
كان ذلك في الأيام الأخيرة من تشرين الثاني 2012. يمكن الجزم بأن أحداً من قادة محور إيران روسيا سوريا حزب الله لم ينم في تلك الأيام والليالي. إنه الهجوئم الاعنف الذي تشنّه المعارضة السورية على طريق مطار دمشق الدولي، تمهيداً لدخول العاصمة. هي «الغزوة الكبرى» التي أريد بها تغيير مسار التاريخ في المشرق العربي. لمن لا يذكر، انقطعت الاتصالات في سوريا، وبقيت معزولة عن شبكة الانترنت ليومين. ولم تعد إلا بعد تمكن الجيش السوري من صد الهجوم الأعنف للمعارضة على العاصمة.
كان هذا الهجوم أخطر من سابقه، ذلك الذي جرى في تموز 2012، رغم أن الأخير ـــ الذي تزامن مع تفجير مبنى الامن القومي واغتيال الضباط الأربعة (داوود راجحة، آصف شوكت، حسن تركماني، هشام اختيار) ـــ وصلت بعض معاركه إلى داخل العاصمة دمشق، سواء من جهة نهر عيشة والميدان، أو على محور جوبر ـــ العباسيين. «غزوتان» معارضتان للعاصمة في غضون 4 أشهر صدّهما الجيش السوري. لكن الامر لم يكن كذلك في مدينة حلب التي اجتاح المعارضون جزءاً كبيراً منها. لم تندلع معركة في العاصمة الاقتصادية لسوريا. سقطت أحياء حلبية من دون جهد قتالي. هي «الخديعة» التي تولّتها غرفة العمليات التركية القطرية السعودية الاميركية في تركيا. يقول مصدر معارض إن هذه الغرفة كانت تضم «مكتباً خاصاً» لتجنيد ضباط وشخصيات ذات تأثير في سوريا، ودفعهم إما إلى الانشقاق، أو إلى مساعدة مسلحي المعارضة على اجتياح مناطق أو ثكن عسكرية. ثمة مثال حي يضربه المصدر. بعد فرار العميد المتقاعد مناف طلاس من سوريا، لم يعوّل رعاة المعارضة عليه لكشف أسرار عسكرية، بل اقتصر دوره على تحديد شخصيات قابلة للانشقاق أو الشراء.
في تلك المرحلة، كانت الروح المعنوية للمعارضين تلامس السماء. باتت «جبهة النصرة» رأس حربة المهاجمين. وكان مجرد ذكر اسمها كافياً لسقوط منطقة ما نفسياً قبل خوض المعركة. لم يحل ذلك دون «صمود أسطوري» لعدد من مواقع الجيش التي حوصرت لأشهر.
أحد المطلعين على ما كان يجري في غرفة العمليات المركزية في تركيا كان يكرر أن استراتيجية المعارضة بسيطة جداً: «قوة النظام القتالية محدودة العدد. وقدرتنا على التجنيد تفوق قدرته. إذا قتلنا من جنود النخبة لديه 40 ألفاً، فسيسقط». طُبِّقت هذه النظرية بقسوة: «انتحاريون يستهدفون حواجز الجيش وثكنه. هدفت المعارضة إلى «كيّ وعي» مؤيدي النظام، بدماء أبنائهم.
الميدان لا يُتَرجَم إلا في السياسة. تراجُع النظام عسكرياً هو وليد البيئة ذاتها التي أنتجت «جنيف 1». روسيا، بحسب معنيين مباشرة بالمفاوضات الدائرة حول سوريا، ما كانت لتقف إلى جانب النظام لو أنه استمر بالتراجع في الميدان. فبين «غزوتي» دمشق وبعدهما، بدأت دوائر روسية تعطي إشارات للإدارة الأميركية، مفادها أن موسكو جاهزة للبحث في أسماء بديلة من الرئيس بشار الأسد. لكن الأخير وجيشه صمدا، ومعهما حليفاه الأوثقان: إيران وحزب الله. وبدرجة أقل، حكومة العراق المركزية.
في أرض المعركة، استمر الجيش السوري في الدفاع عن دمشق. لكن النزف لم يتوقف في مناطق بعيدة. سقطت الرقة من دون قتال أيضاً (آذار 2013). نقطة التحول الكبرى في المعركة أتت يوم 7 نيسان 2013. حينذاك، نفّذ الجيش هجوماً سيكون له الأثر البالغ على سير المعركة في سوريا كلها. عملية خاطفة أدّت إلى تطويق الغوطة الشرقية لدمشق. المسلحون الذين كانوا يدكّون أسوار دمشق، باتوا محاصَرين. بدل أن يدافع الجيش عن مدينة، صار يهاجم في بيئة ريفية تلائمه. من اتخذوا القرار حينذاك كانوا لا يزالون «دفاعيين» في جميع خطواتهم. كان أقصى طموحهم الحفاظ على دمشق، العاصمة، لأن من يحكمها يحكم سوريا.
بعد ذلك، بدأ المسار التصاعدي للجيش السوري. العتيبة، القصير، قرى مرج السلطان، بلدات الريف الجنوبي للعاصمة، ثم «الإنجاز الأكبر»: فك الحصار عن مدينة حلب عبر محافظة حماه (طريق السلمية ـــ أثريا ـــ خناصر). لم يعد الجيش السوري يقاتل كما في السابق. قالها أمير «النصرة»، أبو محمد الجولاني، في مقابلته مع قناة «الجزيرة»: «النظام يستخدم أسلوب حرب العصابات». هنا يظهر دور حزب الله. باستثناء معركة القصير، كان حضور مقاتلي الحزب «رمزياً»، إذا ما قيس بعديد الجيش السوري. لكن «الادوات المعرفية» لمقاتلي الحزب تجعلهم أقدر من أي جيش نظامي على فهم طريقة عمل المعارضين.
مقياس المعنويات انقلب لدى طرفي النزال. والرعب الذي كان ينصر «جبهة النصرة»، صار في صف أعدائها. بلدات الريف الجنوبي لدمشق، وأخيراً يبرود، نماذج لمعارك لم يحتج في كل منها الجيش والقوات الرديفة له إلى أكثر من 48 ساعة لحسم المعركة بعد الإعداد لها جيداً، وبهدوء. من بيَده القرار في دمشق، وكان يوماً يفكر حصراً في حماية العاصمة، صار يطمح نحو استعادة السيطرة على الغوطتين. ومن كان أقصى حلمه الحفاظ على طريق دمشق ـــ حمص، بات قاب قوسين أو أدنى من طرد مسلحي المعارضة من القلمون وحمص، وفرض تسويات في كافة أرجاء الريف الدمشقي. ومن عطّل الجزع تفكيره ودفع به إلى حد إرسال متفجرات إلى لبنان في سيارة ميشال سماحة، صار يفكّر في إقفال الحدود اللبنانية كأمر واقع لا محالة. وأبعد من المنطقة الوسطى، لم يعد الحديث عن استعادة حلب حلماً بعيد المنال. في السياسة، لم تكن روسيا والصين أصلب في وقوفهما إلى جانب النظام مما هما عليه الآن.
ثمة عوامل خارجية صبّت أيضاً في مصلحة النظام: تركيا وقطر انفضّتنا من حول السعودية. آل سعود أبعدوا بندر بن سلطان عن إدارة الملف السوري. والأكراد يقاتلون التكفيريين. تقاتُل التكفيريين سيطر على المشهد في الشمال. لكن كل ذلك لا يعني أن رعاة المعارضة يعيدون حساباتهم، أو أن المعارضة تستسلم. استفاد داعموها سابقاً من خبرة مقاتلي «داعش» و«النصرة» وشراستهم في معارك ريف اللاذقية وريف حلب والرقة، مثلاً. واليوم، يراهنون على جبهة زهران علوش الاسلامية. وغداً، على جمال معروف، قائد «جبهة ثوار سوريا»، الذي بدأت عملية تسويق صورته في الغرب كرمز للمعارضين المعتدلين. الأردن لن يقفل حدوده. سيمارس نظامه لعبته المفضلة: «سألبّي طلبات الجميع، وسأكذب على الجميع». غرب العراق أرض حرب لا مجال للسيطرة عليها. وتركيا أردوغان لا تزال تصرّ ـــ حتى الآن ـــ على إخراج دعمها للمعارضة السورية من أي نقاش مع إيران. أما خروج بندر، فمسألة داخية سعودية، متصلة بما بعد عبدالله بن عبد العزيز، وبالأمن الداخلي للمملكة، ولا تعني وقف نشاط آل سعود في الشام. القوى الكبرى المعادية للنظام تتحرك بين حدّين: لا تريد للنظام أن يفوز بسبب عدائه «الأصلي» لها، ولا للمعارضة أن تربح بسبب الخوف من «القاعدة». وفق هذه المعادلة، جرى حلّ أزمة «الكيميائي» قبل أشهر.
في الخلاصة، الحرب في سوريا مستمرة. المعارضة تخسر معاركها من دون أن تكفّ عن فتح الجبهات. والنظام يتقدّم من دون أن يحسم بالضربة القاضية. لكن من بيدهم القرار في دمشق يعدون بـ«مشهد جديد» في الميدان، بين حلب ودرعا.
حسن عليق
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد