العرب وحَـمَـلَة الثقافة الإسلامية مدعوون إلى تجديد علاقتهم بالاستشراق
أي علاقة مع تاريخ الاستشراق تتأسس على منطق التضاد والصدام، أضحت غير ذات مضمون، وبالتالي ليس من المُجدي أن نستمر في الرد على أطروحات المستشرقين «المُغرضة» كما سماها شيوخ ومثقفون مسلمون منذ منتصف القرن التاسع عشر، أو التصدي لهذه الرؤى الخاطئة عن طبيعة العرب وعقليتهم، لذلك فإن الخروج من ذلك الموقف الدفاعي سيجدد تعاملنا مع الاستشراق، فيحصره في نطاقه النافع، أو يحوله إلى موضوع ندرس من خلاله طريقة تفكير واضعيه.
انسحاب الاستشراق من دراستنا للتراث وعلم الاجتماع يزيد من شعورنا بجدية وخطورة المهمات المعرفية المُلقاة على كاهلنا اليوم، فبتخلينا عن هذه المهمات بالأمس ساهمنا في خلق هيمنة الاستشراق نفسه، هذه المهمات بالرغم من تعدد طُرقها هي المُشخصة في معركة الحداثة والتحديث. المقدمة السابقة تمثل مدخلاً إلى قضية في غاية الأهمية تُشكل برأي الكاتب والمفكر المغربي بنسالم حميش ثغرة مكشوفة لابد من العمل على سدها، وهي قلة المراجعات النقدية الجادة للتراث الاستشراقى بين باحثينا ومفكرينا، لذا طرحها في كتابه («العرب والإسلام في مرايا الاستشراق» - دار الشروق-295 ص) مؤكداً أن العرب وحملة الثقافة الإسلامية مدعوون إلى إعادة اكتشاف تراثهم غير أنهم لن يستحقوا هذا التراث ويتملكوه عبر الاكتفاء بالتحرك داخله أو تحت إمرته وسيادته، بل بتطوير القدرة على اغنائه بالإضافات والحلقات الجديدة التي من شأن حركة تدافعها وتفاعُلها أن تُنشئ تراثاً جديداً ومُكملاً، وهذا العمل الذي هو غاية الحداثة بعينها، وحده كفيل بتحويل مرافق من تراثنا التاريخي القديم والجديد أو من أصالتنا - كاللغة والفنون والآداب والرؤى الفكرية وغيرها - إلى قيمة ذات إشعاع ونفوذ في المجال الداخلي كما في الرحاب الخارجية. إذ أن الأصالة دون حداثة تركة مهزومة والحداثة دون أصالة طاقة مهدورة. ويعني حميش بذلك الاتجاه نحو تفعيل الآتي: أولاً، تحديث علاقتنا بتراثنا التاريخي، ثانياً، تحديث علاقتنا بالآخر، ثالثاً، تحديث علاقتنا بالسياسة.
مادة الكتاب توزعت على خمسة فصول ناقشت القضايا التالية: مرايا الاستشراق، مركبات ومحطات، المستشرقون والعقد الاستعماري، في مرآة الاستشراق التقليدي، في مرآة الاستشراق المجدد، المثقفون العرب ومرايا الاستشراق. وتحت عنوان «في مرآة الاستشراق المجدد» أوضح الفصل الرابع أن الاستشراق الجديد أو المجدد الذي ظهرت معالمه منذ منتصف القرن العشرين تضافرت على صنعه عوامل كثيرة من أهمها: استقلال البلدان المُستعمرة، وبالتالي تلاشى ارتباط الاستشراق بالظاهرة الاستعمارية، حيث أظهر هذا العامل التاريخي للمستشرقين الجُدد نقائص الهيمنة الغربية وحلقات الضعف في عالمية الأنموذج الحضاري الغربي، كما كشف لهم بالتوازي الخصوصيات الحضارية القومية وحقها في التحرير والنمو الذاتي. وبحسب حميش يكون الاستشراق الجديد، الذي يتنكر أحياناً حتى لأسمه، شاهداً من جهة على انكشاف الخدع والتزييف في كل الدعوات التمدينية والتعاونية الاستعمارية، ومن جهة أخرى على مشروعية استقلاليات الشعوب وضرورتها. كما أن ظهور العلوم الإنسانية وانتعاشها أحدث صدمة مُؤثرة في أُفق المستشرقين الفكري والمعرفي دفع المجددين منهم إلى الوقوف على وجوه القصور في مدارك الاستشراق التقليدي وفى أدواته ومناهجه، والتي تجلت في الشروخ التي أصابت مراياه بفعل انقطاعه شبه التام عن الرؤى الجديدة التي أفرزها تقدم العلوم الإنسانية.
عالج حميش هذه القضية من خلال تحليل نماذج من المناظرات الاستشراقية المعاصرة منها: (مناظرة بعنوان: الكلاسيكية والانتكاس الثقافي في تاريخ الإسلام - بلجيكا - حزيران/ يونيو1956)، بالإضافة إلى استعراض مواقف عدد من المستشرقين الممثلين لتحسين علاقات الاستشراق مع موضوعه ومع المناهج الاستكشافية المتطورة، منهم ( لوي ماسينيون وهنري لاووست وهنري كوربان وجاك بيرك وماكسيم رودنسون وأندريه ميكل).
ويشير حميش في الفصل الخامس «المثقفون العرب ومرايا الاستشراق» إلى أن التراكم النسبي الحاصل حالياً في مواقف المثقفين والباحثين العرب من الاستشراق يقترب بنا من تشكيل مادة بحثية يمكن من خلال تحليلها تقسيمهم إلى قسمين: الأول مواقف الرفض المتشنج، ويبرر هذه التسمية أن هذه المواقف لا تعتبر الاستشراق إلا كحركة استكشافية تبشيرية واكبت وعززت الحملات «الصليبية» الجديدة لأواخر القرن التاسع عشر وللنصف الأول للقرن العشرين والمتمثلة في الاستعمار الغربي للبلاد الإسلامية، ومن واجب المثقف المسلم أن يفضح حقيقته العدوانية التآمرية ويقف منه موقف المعارضة والتضاد، ولم يكن المعبرون عن هذه المواقف من العلماء التقليديين والدعاة السلفيين فحسب، وإنما نجدهم أيضاً بين مفكرين إسلاميين لهم ثقافة غربية والقدرة على التأليف بالفرنسية أو بالإنكليزية، ويُعد كتاب محمد البهى (الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي) نموذج واضح وبليغ لمواقف الرفض المتشنج، وذلك من حيث أن معارضته الحادة للاستشراق التي لا غبار عليها هي الصانعة لصورة المستشرق كمبشر وباعث لمقالات هي سموم مبثوثة لتقويض الهوية الإسلامية ومحوها. والقسم الثاني: المواقف التحليلية النقدية والتي يلفت حميش إلى إنها تتميز عن المواقف السابقة بجديتها وحصافتها كونها صادرة عن مثقفين يُشاد لهم بالبنان، ويحددهم بالاسم: أنور عبد الملك، هشام جعيط، عبد الله العروى، محمد أركون، وادوارد سعيد.
الكتاب ضم ملحقين: الأول يضم ثلاث مقالات، الأولى عن سيرة ذاتية - لعلها الأولى من نوعها - للمستشرق جاك بيرك، والثانية: في السياق نفسه عن المستشرق أندريه ميكل، والثالثة عن روجيه غارودى. أما الملحق الثاني: فيشمل مجموعة من الحوارات تصب كلها في بعض القضايا المعرفة الاستشراقية، أجراها بنسالم حميش مع المستشرقين جاك بيرك وماكسيم رودنسون، والباحثين العرب هشام جعيط وحسن حنفي.
وبنسالم حمِّيش مفكر، يشغل حاليًا منصب وزير الثقافة في الحكومة المغربية روائي وسيناريست يحمل دكتوراه الدولة من جامعة باريس في الفلسفة. له أعمال بالعربية والفرنسية في البحث والإبداع. تُرجمت بعض رواياته إلى لغات عدة، عضو في مؤسسات عربية وأجنبية. فاز بجوائز عديدة أهمها: جائزة الناقد للرواية (لندن، 1990)، جائزة الأطلس الكبير - الفرنسية (الرباط، 2000)، جائزة نجيب محفوظ (القاهرة، 2002)، جائزة الشارقة لـ «يونيسكو» (باريس، 2003)، ميدالية من الجمعية الأكاديمية الفرنسية للفنون والآداب والعلوم (باريس، 2009).
محمد عويس
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد