برج إيفل والشادور
ـ 1 ـ يبدو أن السيناريو معدّ بعناية مذهلة، والأدوار موزّعة بمهارة مهنية تثير الإعجاب، والمخرج «بهلوان» يجيد أساليب الخداع البصري، والتحايل السمعي، وإلا فكيف نفسر «التزامن الشيطاني» بين ما جرى في الشرق الأوسط من اقتتال وتدمير واغتصاب، وهذا التصعيد المفاجئ للعنصرية والكراهية والجنون في الفضاء السياسي والثقافي الغربي، خاصة في امتداده الأميركي؟.
شهد الأسبوع المنصرم ثلاثة «نتوءات سياسية» في العواصم الغربية، وصفها المراقبون بأنها «استثناءات لافتة» لا يمكن أن تكون عفو الخاطر:
أولها: البدء في محاكمة صحيفة هامشية ساخرة تدعى «شارلي ـ ابدو» متهمة بإعادة نشر الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للنبي العربي، التي كانت نشرتها الصحيفة الدانماركية «جلاد بوستين» على الرغم من أن المجلس الإسلامي الفرنسي قد طالب بتأجيل المحاكمة إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية الفرنسية.
وثانيها: مبادرة زعماء سياسيين معروفين باتزانهم وحكمتهم، بالمجاهرة بمساندتهم لموقف الصحيفة الساخرة دفاعاً عن «حرية التعبير» فيما زعم: مثل «نيكولا ساركوزي» وزير الداخلية الحالي ومرشح اليمين الديغولي لرئاسة الجمهورية، الذي كان يفاخر دوماً بأنه «صديق المسلمين» وبأنه هو الذي عمل على قيام «المجلس الأعلى للديانة الإسلامية في فرنسا» و«فرانسوا هولاند» الأمين العام للحزب الاشتراكي الفرنسي، ورفيق «سيغولين رويال» مرشحة الحزب الاشتراكي لرئاسة الجمهورية، الذي حضر شخصياً إلى المحكمة لإعلان تضامنه مع الصحيفة الساخرة، وأخيراً «فرانسوا بايرو» رئيس حزب الوسط الليبرالي، المرشح لرئاسة الجمهورية أيضاً، والذي ظهر على شاشة التلفزيون «متباكياً» على محاولة اغتيال «حرية التفكير».
وثالثها: تبرع صحيفة «جادة» كاللبيراسيون بأن تصدر، يوم المحاكمة محل الصحيفة الساخرة «شارلي ـ ابدو»، مزدانة بذات الرسوم الكاريكاتورية، وحافلة بالمقالات «الصاخبة» دفاعاً عن «شهيدة حرية التعبير».
ـ 2 ـ ولكن الشحن العنصري لم يقتصر على إبراز أهمية المحكمة ولا على تعاقب السياسيين والمفكرين «الأحرار» على المنابر، يندبون وينوحون على «احتضار الحضارة» وإنما انتقل هذا الشحن إلى المكتبات الكبيرة في شارع الريفولي، والسان جرمان دوبري، التي أبرزت واجهاتها، المضاءة بالنيون، والمزدانة بالمجسمات مجموعة من الكتب «المستوردة حديثاً من الولايات المتحدة» تتباكى على «انتحار الغرب» وتبشر بقرب إحلال اسم «أوروبيا» أي أوروبا العربية، مكان الاسم الأصلي، وانتقلت العدوى إلى محطات المترو، حيث احتلت الإعلانات والملصقات الكبيرة الجدران داعية إلى «الحذر واليقظة» لأن «البرابرة قادمون».
أما الكتب «الرجيمة» التي تحاط بالقرقعة الإعلامية وبدق الطبول والمستوردة حديثاً من الولايات المتحدة، فقد أصبحت معروفة من كثرة التحدث عنها.
لعل في مقدمتها كتاب «حينما تنام أوروبا» لـ «بروس باور» الذي يطبع للمرة الثانية ويشرح للغافلين والنيام كيف تنتحر أوروبا بهدوء، بسبب عدم مجابهتها «للتطرف الإسلامي» الذي يتجول في شوارعها، ويتسلق أبنيتها، حتى بات من المتوقع أن ينقلب برج إيفل إلى مئذنة.
ويأتي كتاب «آخر فرصة للغرب» لـ «توني بلانكي» في طبعته التاسعة المزيدة والمنقحة، ليتصدر كتب الإثارة «البوليسية»، وقد جاء في مقدمته: «إن خطر سيطرة الأصوليين الإسلاميين المتطرفين على مقاليد الأمور في أوروبا هو في منتهى الجدية، تماماً كما كان خطر النازيين في الأربعينيات، وكما سها الديمقراطيون، بغباء وعدم اكثرات، ولم يشعروا بفداحة المأساة، إلا بعد أن اندلعت الحرب العالمية الثانية، فكذلك لن تصحو أوروبا إلا بعد أن ترتدي العذراء الشادور».
وليس كتاب «المكعب والكاتدرائية» لـ «جورج فيغل» الذي نزلت إلى الأسواق طبعته العاشرة، بأقل عصبية وجنوناً إذ يتحدث بهلع وذعر عن انتحار أوروبا الديمغرافي، ويذكرنا بكتاب مشؤوم آخر عن «موت الغرب» لـ «بات بوش نان» الذي اكتشف أن سكان أوروبا في تناقص مستمر بمعدل 30% كل عشر سنوات في حين يتزايد المهاجرون العرب والمسلمون بمعدل 25% كل عشر سنوات، وينتهي إلى النتيجة التالية: «إن مهد الحضارة الغربية سينقلب إلى قبر جماعي كبير..».
أما «نيك غريفان» زعيم الحزب القومي البريطاني المتطرف الذي يتصدر كتابه واجهات المكتبات الباريسية، فإنه يصف الإسلام بأنه «دين منحرف وشرير، ولا يقبله إلاّ المختلون، لأنه قائم على العدوان والاغتصاب والجهل» ويطالب أوروبا بأن تطرد الجاليات الإسلامية بأسرع وقت ممكن، قبل أن يستفحل خطرهم ويقارن «نيك غريفان» بالزعيم اليميني المتطرف الفرنسي « لوبن» الذي نقل عنه قوله: «إن العرب والأفارقة ينقلون الى بلادنا الأمراض المعدية، والجراثيم القاتلة، نحن لسنا بحاجة الى حوار الحضارات، لأن حضارتنا مكتفية بذاتها!»
ولعل الإعلان الذي وزع كملصق في الحوانيت ومحطات المترو هو الأكثر إثارة، إذ جاء فيه: «إذا لم يتح لك أن ترى باريس حتى الآن، فاغتنم الفرصة قبل أن تموت، لأن كل معالمها سوف تتغير، وبرج ايفل سوف يتحول الى مئذنة..».
ـ 3 ـ اللافت ان لا حديث للأدبيات والدوريات الغربية، هذه الأيام، إلا عن «المستوطن العربي في الغرب»، وما أكثر المحاولات لفهم مزاجه وسلوكه وطموحاته من الخارج، ولكن قلما نجحت محاولة جادة في اختراق عالمه الداخلي المعقد المتناقض.
لقد تجاوز التأزم النفسي الذي يعيشه الإنسان العربي في أوروبا، مرحلة الاحراج، ليدخل مرحلة الانفصام. كان ينوس بين واقع يرفضه، ولكنه مرغم على أن يتعايش معه، بين حلم يتعلق به، ولكنه عاجز عن تحقيقه، فأضحى يتأرجح بين الشعور بالإحباط بسبب « تنشئته» في غيتو لا منافذ له، وبين الشعور بالتحدي، بسبب رغبته في اخضاع ظروفه الى إرادته، على أن هذه الحالة الرجراجة قد تركت اسقاطات على البنية الاجتماعية والاقتصادية للجاليات العربية التي لا تزال مصرة على البقاء في أوروبا، على الرغم من كل الأحداث التي عصفت بالحياة الدولية في السنوات الأخيرة.
ويمكن اختزال الخصال الأساسية للإنسان العربي في الاغتراب الأوروبي في ثلاث: أولاها الشرنقة: انه يبني لنفسه، وفي معظم الأحيان، لعائلته، بيتاً اسمنتياً، يقيه الأنواء، والعواصف، وقد لا يفكر بالخروج منه إلا للمجابهة المجانية، وهذا البيت هو أقرب ما يكون الى الشرنقة التي تلتف حول صاحبها بغرض حمايته، وغالباً ما يكون ضحية لها.
وثانيتها الانشطار: إنه يضع سلوكين متناقضين، أحدهما للاستهلاك الخارجي، ويتصف بالكياسة واللزوجة، والانصياع، وثانيهما للاستهلاك الداخلي، ويتصف بالشراسة، والعدوانية، والفظاظة، ومن التجاذب بين السلوكين، تتكون شخصية فريدة في تناقضاتها وعربدتها وانسحاقها، تقفز من تطرف إلى تطرف آخر قد يكون مضاداً، دون توقف: من الدمعة السخية التي لا مبرر لها الى القهقهة المجلجلة التي ليست أكثر من رد فعل طفولي على موقف عسير وغير مقبول، من الثورة المدمرة التي لا حدود لها الى الانصياع الطفولي، والاستعلام الذليل الذي ليس له محرض ولا هدف.
وثالثتها الشعور بالعدوانية: إنه يقلص كل امكاناته بعمل ارادي وكأنه يعاقب نفسه على إثم لم يقترفه، ولكنه يورم من هذه الامكانات في ظروف أخرى، وكأنه يعاقب الآخرين على موقف لم يتخذوه، وهذه الحركة الدائمة من التقليص الى التوريم تنعكس على طرز المحاكمة الفعلية وأنماط السلوك اليومي، حتى ليصعب على أقرانه، وخاصة على المقربين منه، أن يتعرفوا الى حقيقة معاناته النفسية الداخلية.
وحتى، حينما ينتقل الإنسان العربي من صف الجماهير الى ترف النخبة، وحتى حينما يخرج من الشرنقة والغيتو، ويصبح قادراً على أن يشارك ويساهم ويخترق المحرمات المكدسة أمامه وخلفه، فإنه يحمل معه في عملية الانتقال هذه الخصال الثلاث، كالوشم على الجسم، وقد يفشل في تجاوزها لأسباب هو بريء منها: إنها الضريبة التي لابد من أن يدفعها مكرهاً، في معظم الأحيان، إذا أراد أن يبقى في مهجره، والجزية التي يفتدي بها نفسه، حين يقع في المآزق والمحن.
ـ 4 ـ استفزازي هذا النفاق! في الوقت الذي تغير الطائرات الأميركية على المناطق الآهلة بالسكان في بغداد والمدن العراقية، تحت مظلة «حماية الأمن»، وفي الوقت الذي تقدم إسرائيل على تهديد المسجد الأقصى، ثالث الحرمين، وتطلق النار على الفلسطينيين الآمنين، وفي الوقت الذي تدك فيه قوات الناتو المدن في أفغانستان وتصفي الأبرياء، يتحدث العنصريون عن مخاطر «الأصولية» داخل بلادهم، ويتباكون على تحويل برج ايفل الى مئذنة، وارغام العذراء على ارتداء الشادور!.
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد