صمود سورية والأحادية الأميركية
إن صمود سورية وبدعم من حزب الله وإيران في مواجهة الهجمة الأميركية، أدى الى قلب الموازين الاقليمية والعالمية والى تكوّن عالم جديد لم يكن في حسبان أحد. فمنذ ما يقارب الربع قرن والولايات المتحدة الأميركية تتربع على عرش العالم، تصول وتجول لا منازع لها؛ تُلزم الدول التحول الى أجرام تدور في فلكها على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
1ــ الأحادية الأميركية
لجأت الولايات المتحدة الأميركية في بداية عهدها الأحادي الى القوة المرنة الناعمة لتطويع الدول، وخاصة الدول الضعيفة منها، فانصاعت تلقائياً لعجزها عن المواجهة، ولمعرفتها أن الاتحاد السوفياتي لم يعد موجوداً لدعمها.
فرضت الولايات المتحدة الأميركية عقوبات اقتصادية على من يناوئها، وحافظت على نفوذها عبر مطالبة الدول الاخرى بممارسة الحصار الاقتصادي. والمعروف أن مبدأ الحصار ممنوع في المعاهدات الدولية لأنه يؤدي الى معاقبة الشعب وليس الحكومة التي تحاول الولايات المتحدة الاميركية تطويعها.
دام هذا الامر عقداً من الزمن استفادت منه الولايات المتحدة الاميركية لتمكين قبضتها على اوروبا الشرقية وتحجيم النفوذ الروسي فيها، تارة تحت ستار محاربة الدكتاتورية، وتارة أخرى على أساس إنقاذ المسلمين من جور المسيحيين! وكانت النتيجة وقوع اوروبا كاملة تحت السيطرة الاميركية وأضحت هذه الاخيرة على مشارف الحدود الروسية.
جرت كل تلك التحولات في خضم شعور الدول بالعجز الكامل أمام الآلة العسكرية الاميركية الضخمة التي أسرعت الخطى باتجاه محاصرة الصين التي تشارف على التربع على رأس الهرم الاقتصادي العالمي.
كان من الممكن أن تحكم أميركا العالم لفترة طويلة لولا حدثين هزّا عرشها، وتأتّيا نتيجة تصرفها الخاطئ، أي أن الخلل الذي أدى الى تقهقر الولايات المتحدة السريع نتج من أفعالها لا بسبب عامل خارجي.
الحدث الاول، ليس تدمير مركز التجارة العالمي في نيويورك في الحادي عشر من أيلول عام 2001، بل رد الفعل الذي أطاح كلية بسياسة القوة الناعمة التي كانت تستخدمها الولايات المتحدة الاميركية والتي تكسب عبرها الدول دونما عناء أو مجهود عسكري. أما الحدث الثاني فتمحور حول انهيار المصارف الاميركية في شهر ايلول من عام 2008 ما أدى الى إفلاسها وإفقار الشعب كما الخزينة الاميركية.
سرّعت أحداث أيلول 2001 في انحسار نفوذ أميركا، بسبب لجوئها الى تدخل عسكري مباشر يحاكي النسق الكلاسيكي لسيطرة الامبراطوريات في القرون الماضية فظهرت للملأ مكامن ضعفها، وعلى رأسها عجزها عن تجنيد أميركيين يقبلون بحرب طويلة خارج وطنهم، عدا عن أن الاحتلال أمر سهل، لكن البقاء على أرض محتلة أمر آخر تماماً.
علاوة على ذلك، بانَ خلل الولايات المتحدة الاميركية ونفاقها حين أحجمت عن مواجهة التيار الوهابي المتمركز في السعودية والذي انتج الارهاب في نيويورك؛ وبدلاً من ذلك سارعت الى استعمال أحداث نيويورك ذريعة لاحتلال دول تطمع في خيراتها ومركزها الجيواستراتيجي كالعراق.
استحالة الانتقام من المملكة السعودية ناتج عن سببين رئيسيين؛ أولهما أن الولايات المتحدة الاميركية تحتكر النفط السعودي، وبالتالي لن تهدر مصالحها المادية. وثانيهما، أنها مسؤولة عن تسليح هؤلاء الارهابيين الوهابيين التكفيريين منذ ثمانينيات القرن الماضي حين استعملتهم في حربها ضد السوفيات في افغانستان. ولقد ظهرت صور قادة هؤلاء الارهابيين في البيت الابيض خلال استقبال الرئيس الاميركي رونالد ريغان لهم على أنهم «المقاتلون الافغان العرب الاحرار».
وجدت ادارة بوش الابن ان الفرصة سانحة لتظهير خرائطها التوسعية القديمة، فرسمت خطة معالم امبراطوريتها الجديدة بالحديد والنار، بدءاً من الحرب على أفغانستان، ثم العراق وسوريا ولبنان (حزب الله)، ومحاصرة إيران. منّت نفسها بالسيطرة الكاملة على الشرق الاوسط وتسليم مقاليد الحكم «لإسرائيل» وحلفائها الآخرين قبل الانتقال الى الشرق الاقصى.
لم تنجح الولايات المتحدة الاميركية في مراميها: فشلت في السيطرة على الوضع في افغانستان، وبرزت مقاومة شديدة لوجودها في العراق منعتها من متابعة مسيرتها الى سوريا ومن ثم لبنان، الا انها استطاعت أن تفرز فريقاً وزارياً لبنانياً دعمها في استصدار القرار 1559 والذي بموجبه خرجت القوات السورية من لبنان، كما أمّن لها اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري التدخل في الشؤون اللبنانية تحت البند السابع واقامة محكمة دولية هي بمثابة وصية على لبنان!
عرّت هذه الحروب حدود القوة الاميركية التي كانت تهابها جميع الدول من دون استثناء، وبدا أنه من الممكن مقارعتها، ومما زاد في هذا اليقين انتصار المقاومة اللبنانية، وعلى رأسها حزب الله في مواجهة أميركا و«إسرائيل» عام 2006، اذ أن وزيرة الخارجية الاميركية لم تشأ أن تتوقف الحرب قبل دحر المقاومة. ذهبت أحلام المحافظين الجدد أدراج الرياح، كما تبدد أيضاً الفائض المالي الذي كان موجوداً في الخزانة الاميركية، من دون أن تعوض الادارة الاميركية خسارتها بالاستيلاء على النفط العراقي كما كانت تأمل. تزامن هذا التلاشي مع افلاس المصارف الاميركية بمليارات الدولارات جراء تهوّر مصارف الاستثمار بغية الربح الفاحش والسريع، ومما زاد في المأساة عدم وجود رقابة مالية على عمل المصارف الاميركية بعد أن عمد الرئيس بيل كلينتون على إلغائها عام 1999 فيما عُرف بـ deregulation بناء على اقتراح رئيس البنك الفدرالي آنذاك، ألان غرينسبان.
وصل باراك أوباما الى سدة الرئاسة عام 2009، وانتُخب بشكل اساسي لمعالجة التدهور المالي، فتوقف زحف الامبراطورية الاميركية، وأوكلت هذه الاخيرة مصير الشرق الاوسط الى حلفائها ووكلائها في المنطقة: «اسرائيل» والسعودية وتركيا وقطر لمواجهة إيران وسورية وجبهة المقاومة.
2ــ الحرب على سورية
تضاربت أهداف الوكلاء والحلفاء: «إسرائيل» تريد حرب الكل ضد الكل فترتاح هي. السعودية تريد سيطرة كاملة على العراق وسوريا ولبنان باسم السنة الوهابية. قطر الوهابية أيضاً تريد مد انابيب الغاز عبر سوريا الى اوروبا ومزاحمة الغاز الروسي، أما تركيا فتريد اعادة أمجاد السلطنة العثمانية باسم الاخوان المسلمين.
تصدعت جبهة الحلفاء التي كانت تمثل جبهة واحدة تحت الراية الاميركية حالما انحسر النفوذ الاميركي، وتضاربت المصالح والاولويات في ما بينها.
أراد هؤلاء الحلفاء، تماماً كالولايات المتحدة الاميركية الاستيلاء على أراضي الغير من دون توريط انفسهم بشكل مباشر، فعمدوا الى الادوات نفسها التي اتكلت عليها الولايات المتحدة الاميركية في حربها على السوفيات: المقاتلون التكفيريون الوهابيون والاخوان المسلمون.
أخذت أعداد التكفيرية الوهابية بالازدياد بشكل كبير جراء التمويل السعودي للمدارس الدينية والمساجد المنتشرة في أرجاء العالم وخاصة في باكستان والشيشان، والبلدان العربية، والتمويل الخليجي للمقاتلين المتدفقين على الارض السورية من حدود الاردن ولبنان وتركيا.
هذه المدارس الدينية المجانية لقّحت عشرات الآلاف من الشبان العرب على الامتثال للنموذج الوهابي التكفيري على أنه جادة الصواب السني، وحثتهم على نبذ تراثهم الحضري الذي لا يمت للاسلام الوهابي بصلة. بداية، وجد هذا المنحى صدى في مصر حيث انتشرت المناهج السلفية، واتباع السيد قطب، وبروز جماعة «التكفير والهجرة» عام 1971.
تمّ دعم هذه الجماعات التكفيرية من قبل السعودية وكذلك الولايات المتحدة الاميركية التي استعملتها لتحارب كل الايديولوجيات القومية التي تقف حاجزاً أمام التمدد الامبراطوري الاميركي.
الغريب في الامر أنه وبالرغم من أن هؤلاء المقاتلين التكفيريين الوهابيين موجودون منذ الحرب الأميركية في أفغانستان، وبالرغم من ان الفكر الوهابي والسلفي كان آخذاً في الانتشار في كل الدول العربية من دون استثناء، وعمل على تغيير الانماط الاجتماعية، وتغييب دور العقل وذلك منذ سبعينيات القرن الماضي، نجد كتّاباً يطالعونا بأن الحركات التكفيرية كالنصرة والدولة الاسلامية وغيرها ما هي الا نتيجة «الظلم والاستبداد» من قبل النظام السوري.
وقفت سورية ضد الاحتلال الاميركي للعراق عام 2003، ولم تشارك في الحلف الذي أنشأته الولايات المتحدة الاميركية. وكان لا بد أن تدفع الثمن.
سرعان ما حط وزير الخارجية الاميركي آنذاك، كولن باول في دمشق مباشرة بعد احتلال العراق مهدداً سورية بالحرب اذا لم تقم بإخراج قواتها العسكرية من لبنان، واذا لم تتوقف عن مساندة المقاومة الفلسطينية التي حرص كولن باول على تسميتها «بالارهابية» .
بعد احتلال العراق تحوّلت سورية الى الهدف التالي للادارة الاميركية لسببين رئيسيين: علاقتها الوثيقة بإيران ودعمها للمقاومتين اللبنانية والفلسطينية. لم تبدأ الحرب على سورية عام 2011، بل مباشرة بعد سقوط صدام حسين لأن الادارة الاميركية كانت تعتقد بأن أحجار الدومينو ستتهاوى أمام جبروتها، قطعة تلو الاخرى.
حين لم يلتزم الرئيس بشار الاسد بالاوامر الاميركية صدر القرار الاممي 1559 مطالباً بخروج القوات السورية من لبنان، تبعه بعد أشهر معدودة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري.
أُجبرت سورية على الانسحاب من لبنان، وكانت هذه بداية الحرب عليها لأنها لم تذعن لأوامر كولن باول كما أملاها في زيارته اليتيمة لدمشق.
مضت سنوات عشر قبل أن يصرح الرئيس الاسد عام 2015 بأنه لم يكن لدى سورية اي خيار الا خيار الحرب، لأن الخيار الآخر كان الاستسلام والموت، أي لا خيار.
استطاع الاسد أن يتخطى الموجة العاتية، لا بل إن صمود سورية أدى الى توقف دحرجة كرة الثلج الاميركية، ثم البدء بذوبانها، بدءاً بسقوط المشروع التركي الاخواني، فلولا صمود سورية لما سقط مرسي وحكم الاخوان في مصر، ولولا قرار المواجهة لما تراجعت الهجمات التكفيرية وارتدت نحو البلدان التي صنعتها وموّلتها، ولولا هذه المواجهة لما ظهرت المقاومة في الجولان مهددة «اسرائيل». أرادت الولايات المتحدة الاميركية أن تهزم سورية ومعها محور المقاومة، الا أن الدرس الكبير الذي تعلّمه شعبنا أن المواجهة تقدم لنا فرص النصر، فتراجع الهجمة الاميركية باد للعيان، وما كانت هذه الاخيرة أقدمت على التفاوض مع إيران لولا معرفتها بأنها عاجزة عن خوض معركة معها. هنا أيضاً، فتح صمود الجيش السوري الباب لإيران كي تتقدم وتكسب نقاطاً استراتيجية.
الامر نفسه ينطبق على روسيا التي كانت مترددة في بداية الحرب، الا أن قوة الشعب السوري ومحور المقاومة أمدّت روسيا بدفعة سمحت لها بالتخطيط لبناء عالم جديد تزول فيه الأحادية الاميركية.
لقد غيّرت الحرب السورية العالم. عام 2010 كانت الولايات المتحدة الاميركية تطيح بالأنظمة وتفرض العقوبات وتجبر الدول على السير في ركابها، أما في عام 2015، نشاهد تمرد العديد من الدول (البريكس)، والبدء بإنشاء مؤسسات اقتصادية عالمية بديلة للهيمنة الاميركية، ومصارف آسيوية (كالمصرف الاستثماري الآسيوي) تزاحم البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، كما بدأ البحث جدياً بالتعامل بين الدول الآسيوية بعملاتها المحلية والتخلي تدريجاً عن الدولار.
حاربت الولايات المتحدة الاميركية إيران محاولة فك السلسلة المترابطة لمحور المقاومة من طهران الى دمشق فبيروت من دون جدوى، ما أجبرها في النهاية على إجراء مفاوضات ندية معها، اذ أن رئيس الولايات المتحدة الاميركية باراك اوباما لم يقتنع بعقم استعمال القوة المادية في سياسته الخارجية إلا بعد مرور ست سنوات على حكمه واقترابه من نهايتها من دون أن تحقق إدارته شيئاً يُذكر، فلجأ في سنته ما قبل الاخيرة، وقبل البدء بالتنافس بين الجمهوريين والديمقراطيين على رئاسة الجمهورية، الى الوسائل الدبلوماسية لحل مشاكل الدول وعلى رأسها الصراع الدامي مع إيران الذي امتدّ عقوداً مديدة، ثم التوجه نحو محاربة الارهاب السلفي الوهابي الذي أُفلت من عقاله، والذي أوجده وموّله حلفاء الولايات المتحدة الاميركية بالذات في سورية والعراق وليبيا وبموافقة اميركا التي لم تتأخر عن تأمين غطاء أطلسي لتدميرالجيش الليبي وقتل الرئيس الليبي معمر القذافي.
قناعة اوباما بأن الحل الوحيد المتاح هو التفاوض، أتت نتيجة تقدٌم ايران بالرغم من العقوبات الجائرة التي لم تستطع أن توقف مسارها التكنولوجي والنووي أو حتى برامج التنمية، وأتت نتيجة صمود وصبر الشعب الايراني ودعمه لقيادته، ما أظهر تماسكاً وطنياً/ قومياً شديداً بالرغم من محاولات الولايات المتحدة الاميركية زرع فتنة داخلية تطيح بالقيادة الحالية.
الامر نفسه ينطبق على الحرب الدائرة في سورية والتي تجاوزت السنوات الاربع، فكلما مر الزمن وتبين خطل الادعاءات الغربية بالديمقراطية وحقوق الانسان، تماسك الشعب والتف حول قيادته وجيشه مؤكداً استقلالية قراره بمعزل عن تدخل دول الاطلسي.
هذا الصمود أطاح بالخريطة السياسية للشرق الاوسط كما ثبتتها الولايات المتحدة الاميركية مع نهاية الحرب العالمية الثانية، فتحالفها عبر حلف شمالي الاطلسي مع تركيا، وهيمنة قراراتها على السعودية ونفطها، ودول الخليج عموماً، وتماهيها مع مصلحة «إسرائيل»، كل هذه التحالفات تضعضعت بدءاً من بداية القرن الواحد والعشرين، وربما نستطيع القول إن دحر «إسرائيل» من قبل محور المقاومة عام 2000، شكّل مفصلاً لتراجع «إسرائيل» ودورها في تهديد الدول الرافضة لهيمنتها واستيطانها. فبالكاد يقدر الكيان الصهيوني اليوم على الدفاع عن نفسه بعد أن كان يقصف طوال النصف الثاني من القرن الماضي يمنة ويسرة، من مصر الى العراق وسورية وفلسطين ولبنان وهو مرتاح البال أن لا ردّ لضرباته.
لم يعد من الممكن للولايات المتحدة الاميركية أن تستعمل «اسرائيل» كعصا غليظة تؤدب بها دول المنطقة «المارقة» على إرادتها. تحررت إيران واضطر الغرب الاستعماري على الاعتراف باستقلالها الفكري والسياسي. ومن ثم بادرت إيران الى مواجهة النفوذ الاميركي والصهيوني في منطقة الشرق الأوسط من تركيا الى المملكة السعودية، فدعمت سورية الرافضة للخضوع «لإسرائيل» وكذلك المقاومة في لبنان، ما أضعف النفوذ السعودي الذي كان يتكئ على مهادنته للكيان الصهيوني والسير في ركاب الولايات المتحدة الاميركية.
مطالبة الثورة في اليمن باستقلالها عن السيطرة السعودية ليست إلا مثالاً ساطعاً لتلاشي النفوذ السعودي، أو بالأحرى تلاشي النفوذ الاميركي الذي نصّب دولة كالسعودية لتدير العالم العربي بعد هزيمة 1967 وتعيدنا نحن المشرقيين مئات من السنين الى الوراء، وليس لنا دلالة على ذلك إلا العودة الى النهضة الفكرية الرائعة التي امتدت من العراق الى المغرب في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. ومن بعدها، وبمباركة الولايات المتحدة الاميركية تغلغلت الوهابية في أرجائنا تكفّر من يجرؤ على ممارسة الحرية الفكرية أو الشخصية، أو أي نوع من الحريات، فضمُرت الحياة واستحالت الى تمتمات ببغائية نرددها علًها تبعد عنا رجس الشياطين التي توسوس لنا بارتكاب عظائم الامور من خلق وتطور وابداع.
3ــ تعددية الاقطاب الدولية في المشرق العربي
مما لا شك فيه أن دخول أطراف دولية متعددة في الصراع على المشرق العربي قد غيّر الخريطة الجغراسية بشكل كبير، فقرار الولايات المتحدة الاميركية بعدم التدخل عسكرياً على أرض بلدان الشرق الاوسط اتُخذ بعد فشل مغامرتها في العراق، وبيان بايكر-هاملتون المدعوم من قبل الجمهوريين والديمقراطيين أكد هذا المنحى، وتم اختيار باراك أوباما على هذا الاساس.
إن عدم تدخّل الولايات المتحدة البري لا يعني عدم تدخلها باشكال أخرى أي بالقصف جواً أو بحراً، المهم بالنسبة لها عدم وجود جنود اميركيين على أرض المعركة يُقتلون فينتج من ذلك ردود فعل شعبية، خاصة أن الشعور الطاغي بين الاميركيين أن الجندي الاميركي وُجد ليدافع عن وطنه لا أن يقوم بمغامرات في دول لا تهدد أمنه القومي. لذلك تمحورت حقبة أوباما في سنواتها الست وحتى عام 2015 على محاولات إخضاع الدول الرافضة للهيمنة الاميركية عبر استعمال الطائرات والبوارج العسكرية كما حصل في ليبيا، والتحالف مع دول الخليج لإنشاء جيش من الوهابيين التكفيريين الذين يقومون بتدمير الدول والتنظيمات الرافضة للسيطرة الاميركية. الحرب على ليبيا مثّلت الحد الفاصل بين أحادية وتعددية الاقطاب. فحتى تلك اللحظة كانت روسيا والصين توافقان على القرارات الاميركية في مجلس الامن، ولم تبرز معارضة هاتين الدولتين العظميين الا حين وصل الامر الى الحرب على سورية، فوجدت روسيا أن مصلحتها القومية أضحت مهددة بتحول البحر المتوسط بكامله الى ميناء أميركي. لذلك الفرضيات التي انتشرت في بداية الحرب السورية بأن روسيا لن تساند سورية لم تكن في محلها، اذ أن السبب الرئيس لموقفها ودعمها لسورية هو مصلحتها قبل أي شيء آخر. الامر نفسه ينطبق على إيران، فدعمها لسورية هو في النهاية دعم لمصالحها، لذلك من السذاجة بمكان توقٌع بعض الصحافيين انكفاء إيران بعد توقيع الاتفاق على حصر الطاقة النووية بالنشاطات السلمية. فالدعم الايراني لسورية نابع عن مصلحة مشتركة للبلدين. لم يتورّع الرئيس أوباما في بداية عهده من ترسيخ دعائم الامبراطورية الاميركية عبر العقوبات الاقتصادية على إيران وسورية وغيرهما من الدول، وعبر التهديد بالحرب مراراً على سورية والمطالبة صراحة بإسقاط النظام، لكن موقفه تغيّر بعد أن باءت محاولات ادارته بالفشل فوجد أنه لم يعد أمامه متسع من الوقت وقد قاربت رئاسته على الانتهاء. مالأ الجمهوريين وتنازل لهم داخلياً وخارجياً، فماذا كانت النتيجة؟ خسارة الديمقراطيين للكونغرس ومجلس الشيوخ معاً بعدما حاز الجمهوريون الغالبية فيهما وأصبحوا يناوئونه علناً حتى أن مجلس النواب دعا رئيس الوزراء «الاسرائيلي» بنيامين نتنياهو الى القاء كلمة من دون موافقة رئيس الجمهورية فيما يُعتبر سابقة لم تعهدها الادارة الاميركية من قبل. لم يبق من فسحة أمام أوباما الا استعمال صلاحياته كرئيس للجمهورية في ما تبقى من الوقت، فسارع الى فتح باب المفاوضات مع إيران بعد أن بادر الى مكالمة هاتفية مع الرئيس روحاني الذي كان على أهبة مغادرة نويورك في 25 أيلول من عام 2014. بعد أن لاحت امكانية الاتفاق بين ايران والولايات المتحدة الاميركية في نهاية شهر حزيران من هذه السنة، دعا الرئيس أوباما الصحافي توماس فريدمان الى إجراء مقابلة معه ليقول إنه يؤمن بالحوار مع الاعداء بدلاً من فرض العقوبات واحكام الحصار عليهم. اذا الامر كذلك، لماذا لم يعمد أوباما الى هذا الاسلوب منذ البداية؟. الارجح أن مسار الاحداث ألزمه بالحوار، فنتائج الحصار والعقوبات على إيران لم تؤدِ الى النتيجة المتوخاة، وتقدمت إيران في السنوات الماضية بدلاً من أن تقهقر خاصة في مضمار الابحاث التكنولوجية والنووية! الوقائع على الارض هي التي تغير السياسات الاميركية ولا شيء آخر. فثبات سورية مثال آخر لمراجعة الادارة الاميركية لموقفها الداعم للمسلحين التكفيريين والدول التي رعتهم، ما اضطر وزير خارجيتها بعد أربع سنوات من الحرب على الاعتراف بأن محاورة الرئيس بشار الاسد ضرورية لإنهاء القتال.
من سيخلف أوباما سيواجه هذه الحقائق، ومنها حقيقة أن الولايات المتحدة الاميركية لم تعد اللاعب الاوحد على ساحة المشرق العربي، وأن محور المقاومة هزم حلفاءها الذين اتكأت عليهم، وفتح الباب أمام سوراقيا وايران لتشييد منطقة حرة، مستقلة جراء انكسار ديكتاتورية واستبداد الاحادية الاميركية، وتحوّل العالم الى تعددية أقطاب تأخذ في عين الاعتبار مصالح الدول والشعوب من دون استثناء.
صفية أنطون سعادة
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد