فشل الاستراتيجية الغربية تجاه سوريا
الجمل ـ فلينت و هيلاري ليفيرت ـ ترجمة عبد المتين حميد:
مقدمة : وصلت قدرة الولايات المتحدة على تخريج الأمور وفقاً لهواها في الشرق الأوسط إلى نهايتها الحديّة – حتى ولو ساعدها بعض الشركاء الأوروبيين- بدليل تدخلاتها الفاشلة استراتيجياً في أفغانستان و العراق و ليبيا و أخيراً سوريا. في شهر آب من العام المنصرم, عجز أوباما عن تنفيذ تهديده العلني بمهاجمة سوريا, ففقدت واشنطن مصداقيتها إذا ما هددت لاحقاً بالاستخدام الفعّال للقوة في المنطقة. على الرغم من هذا, تصرّ النخب الأمريكية و الغربية على الاستمرار في الاعتقاد بأنها تستطيع إملاء مستقبل الشرق الأوسط عبر دعم عمليات التمرّد المسلحة للإطاحة بالحكومة السورية المعترف بها دوليّاً. تصرّ القوى الغربية على تخلي الرئيس الأسد عن السلطة حتى و لو كان يحظى بدعم غالبية السوريين و تمكّن من هزيمة المسلحين. إصرارهم يؤزم وضعهم – المتأزم أصلاً- في الشرق الأوسط. منذ اندلاع المظاهرات في بضعة مناطق من سورية في آذار 2011 و السياسة الغربية تركّز على زعزعة استقرار الرئيس الأسد و حكومته. كانت حسابات صناع القرار الأمريكيين و البريطانيين و معهم الفرنسيين تقتضي بتسديد ضربة قوية للمكانة الإقليمية الإيرانية عبر تقويض نظام الأسد, و كذلك تقوية ما يسمى "الصحوة العربية" التي اندلعت قبل الاضطرابات في سورية بفترة قليلة. كما أنّ الولايات المتحدة و شركاؤها البريطانيون و الفرنسيون أرادوا القول بأنّ "الثورات" لن تضرب فقط الأنظمة الفاشستية التابعة لواشنطن و التي تعاني من السخط الشعبي (بعد خسارة الأنظمة المؤيدة للغرب في تونس و مصر و فشل نظامي البحرين و اليمن), بل من الممكن أن تطال حكومات تتمتع بسياسة خارجية مستقلّة كحكومة الأسد. هكذا, بعيد بدء الاضطرابات في سوريا, صرّحت واشنطن و شركاءها الأوروبيين بوجوب رحيل الرئيس الأسد, و بدأت القوى الغربية بتشكيل "معارضة" مدعومة خارجياً - منبوذة داخلياً – لتشكيل تمرّد مسلح ضد حكومة الأسد.
جذور الفشل - منذ الحرب الباردة أصبح تغيير الأنظمة عبر الانقلابات و أعمال التمرّد المدعومة خارجياً من السمات المعتادة لسياسة الولايات المتحدة الخارجية. لقد اتبعت هذا النهج للتخلص من الحكومات التي تتحدى الطموحات الأمريكية و كذلك لمنع تشكّل خصوم جيوبوليتيكيين من الحلفاء. هذا النهج يتنافى مع المبادئ الأساسية للقانون و السياسة الدولية. في الوقت الذي يلقي فيه الغرب المواعظ عن احترام سلطة القانون و مراعاة الأعراف الدولية, تدعم أمريكا و حلفاءها الأوروبيين إسقاط الحكومات المعترف بها دولياً. لم يكن الرئيس الروسي بوتين هو الوحيد الذي انتقد النفاق الغربي في هذه النقطة بالذات, فالعديد من الشرق أوسطيين يعتبرون التشجيع الغربي للإطاحة بالحكومة الأوكرانية المنتخبة هو استحضار للانقلابات المدعومة أمريكياً في الشرق الأوسط من إيران 1953 إلى مصر في العام الماضي.
الاستراتيجية الغربية تجاه النزاع في سوريا هي أكثر من خرقاء؛ إنها خطأ جسيم. كان واضحاً منذ البداية لأي شخص متتبع بشكل واعٍ للوضع على الأرض في سوريا عدم إمكانية إسقاط الأسد بواسطة تسليح المعارضة المنقسمة بشكل كبير. المحصلة الوحيدة للدعم الخارجي للمعارضين المسلحين – نسبة كبيرة منهم غير سوريين – هو أخذ ما بدأ كاحتجاج أهلي للشكوى حول مواضيع معينة و من ثم تحويله – منذ البدايات - إلى حملة عسكرية (غير شرعية) بالأسلحة الثقيلة ضد الحكومة المعترف بها دولياً كعضو رسمي في الأمم المتحدة. مع العلم بأنّ القاعدة الشعبية للمعارضة أصغر من أن تُسقط هذه الحكومة و أقل من أن تشكّل نظاماً متماسكاً تستبدله بها.
منذ عهد الرئيس حافظ الأسد ظهر الإسلاميون كبديل وحيد لنظام البعث العلماني في سورية. طيلة ثلاثون عاماً من حكمه تمثّل الإسلاميون في حركة الإخوان المسلمين في سوريا. خلافاً للحركة الأم في مصر, مارست الحركة في سوريا العنف و أشعلت الاضطرابات و من ثمّ انهزمت أمام الأسد الأب. منذ أن استلم بشار الأسد الحكم عام 2000 و البديل الإسلامي يتمثّل في مجموعات أكثر راديكالية, بعضها مرتبط علانيةً بالقاعدة. هذه مشكلة لأولئك الراغبين بتحدي الرئيس الأسد. غالبية السوريين هم من العرب المنتمين للطائفة السنيّة إلا أن هؤلاء السوريون لا يرغبون بالعيش في ظل الخلافة الإسلامية بل يشكلون قاعدة متينة لحكم الأسد. فاستطلاعات الرأي منذ العام 2011, و المشاركة في الاستفتاء على الدستور الجديد في شباط 2012, و المشاركة في الانتخابات البرلمانية في أيار 2012, و غيرها من الشواهد تشير إلى أنّ نصف السوريين على الأقل مستمرين في دعم الأسد. ما من استطلاع رأي أو دليل يشير إلى وجود غالبية من السوريين ترغب استبدال زمرة من المعارضة بنظام الأسد. في الواقع, تشير تقديرات الناتو إلى انخفاض دعم المعارضة مع ازدياد انقسامها حدّةً ما بين ليبراليين علمانيين (يعيش معظمهم في لندن و باريس و واشنطن و قلة فقط في سوريا) و إخوان مسلمين و راديكاليين جهاديين (و هم المقاتلين الأكثر فاعليّة).
التكاليف الباهظة للعجرفة الغربية - أدّت استراتيجية الغرب تجاه سوريا إلى نتائج مدمّرة. سوريا, بالطبع, هي أكثر من دفع الثمن بوجود أكثر من 130 ألف قتيل (حتى الآن) و ملايين النازحين كنتيجة للحرب ما بين المسلّحين و القوات الحكومية. إيران – التي هي من وجهة نظر الغرب الهدف الحقيقي للحملة ضد الأسد – كان عليها أن تتحمل تكاليف الدعم المتزايد للحكومة السورية. إلا أنّ الاستراتيجية الغربية في التعامل مع المعارضين لإتمام مهمة سقوط الأسد لم تضعضع مكانة إيران الإقليمية. في نفس الوقت, يفرض الصراع السوري تكاليفاً أمنية و اقتصادية و سياسية خطيرة على الجوار السوري خصوصاً العراق و لبنان و تركيا. تكاليف تزداد ارتفاعاً مهددةً استقرار هذه الدول على المدى الطويل. على نطاق أوسع, يساعد الصراع السوري في تأجيج الانبعاث الخطير للتوترات الطائفية عبر الشرق الأوسط التي بدورها تعطي حياة جديدة للقاعدة و الحركات الجهادية في المنطقة.
على الطرف الآخر, برغم عدم نزف الولايات المتحدة و شركاؤها بريطانيا و فرنسا دماءً أو دفعهم أموالاً لقاء حربهم بالوكالة في سوريا, إلا أنهم يكابدون نماذج مختلفة من الأضرار التي جلبوها على أنفسهم و على مكانتهم الإقليمية, أهمها تسريع تكاثر و انتشار العنف الجهادي. لقد كان متوقعاً تماماً أن يؤدي تشجيع الرغبة السعودية لتكون المموّل و المزوّد الرئيس للمسلحين في سوريا أن يؤدي إلى رفع مستوى العنف و إلى هيمنة مقاتلي القاعدة و أشباهها على المعارضة. هذا التوقع ناشئ عن تجارب سابقة لأمريكا و حلفائها الأوروبيين مع السعودية في تمويل جهاديين لاستهداف أعداء مشتركين. لقد قاموا بذلك في أفغانستان فحصلوا على القاعدة و طالبان. و أعادوها في ليبيا أيضاً فكانت النتيجة مقتل السفير الأمريكي و ثلاثة من المسؤولين الأمريكيين معه. مع ذلك فقد اختارت القوى الغربية إعادة هذه التجربة في سوريا. فكانت النتيجة اليوم - كما تبيّن تقديرات مجمّع المخابرات الأمريكي - وجود حوالي 26 ألف متطرف يقاتلون في سوريا (أكثر من 7000 منهم استجلبوا من خارج سوريا). حذّر جيمس كلابر مدير وكالة المخابرات الوطنية من أنّ العديد من هؤلاء المتطرفين لن يتوقفوا عند إسقاط حكومة الأسد؛ هم يتهيؤون لمهاجمة المصالح الغربية بما فيها الأراضي الأمريكية مباشرةً. كما أقرّت أجهزة مخابرات الأعضاء الدائمين الخمسة في مجلس الأمن بالتهديد الأمني المتصاعد الخطير الذي يشكلّه التطرف الجهادي في سوريا. على الحكومات الأمريكية و البريطانية و الفرنسية لوم أنفسهم فقط, و على الحكومتين الروسية و الصينية لومهم أيضاً. ثمنٌ آخر تدفعه القوى الغربية نتيجة سياستها الخاطئة تجاه سوريا و هو زيادة استقطاب العلاقات مع روسيا و الصين.
على الصعيد الاستراتيجي, سرّع الصراع السوري زيادة التعاون الصيني-الروسي لصد الجهود الغربية في امتلاك توازن القوى في الشرق الأوسط عبر الإطاحة بالحكومات المستقلة في المنطقة؛ تلك التي لا تدور في فلك الغرب. في 17 آذار 2011 تبنى مجلس الأمن قراراً يسمح باستخدام القوة لحماية المدنيين في ليبيا؛ خلال وقت قصر حوّلت واشنطن و شركاؤها القرار من حماية المدنيين إلى حملة عسكرية هدفها تغيير النظام الليبي بالقوة. على مدى أسابيع بعدها, كان المسؤولون الروس و الصينيون يصفون إذعانهم و قبولهم للقرار حول ليبيا بالـ "خطأ" و هم لا يرغبون في تكرار ذلك الخطأ في سوريا. في حزيران 2011 بيّنت بكين و موسكو استعدادهما لاستخدام حق الفيتو لمنع التدخل الخارجي في سوريا. كانوا قد استخدموه ثلاث مرات و هم مستعدون لاستخدامه مجدداً.
بالكاد تمكنت السياسة الغربية تجاه سوريا من إقناع شعوب الشرق الأوسط من أنّ الغرب يدعم رغبتهم في التغيير السياسي فقط. تخيلت أمريكا و شركاؤها الغربيون من أنّ دعمهم المعارضين السوريين و مطالبتهم برحيل الأسد فإنهم بهذا يضعون نفسهم على الجانب الصحيح من التاريخ. إلا أنّ الحقيقة المرّة التي لا يمكن إنكارها تتمثل في كون مطالب الشعوب العربية أن تكون قياداتهم مسؤولة تجاههم هم لا تجاه واشنطن و حلفائها. هذه الحقيقة تهدد استراتيجية الغرب على المدى الطويل في تأمين الهيمنة الإقليمية بالتعاون مع الحكام المستبدين المحليين. فمشكلة الغرب مع سوريا ليست في أنّ الرئيس الأسد كما يقولون "مستبد", بل لأنه ليس متعاوناً معهم.
التمسك الغربي بسياسته الفاشلة – الوسيلة الوحيدة لحل النزاع السوري هي انتهاج دبلوماسية جادة باتجاه تحقيق تسوية سياسية مبنية على تقاسم السلطة ما بين حكومة الأسد و عناصر من المعارضة. روسيا و الصين و إيران و حتى حكومة الأسد جميعها تقرّ بذلك. و لكن و بسبب التشبث بمطلب رحيل الأسد دون أدنى نيّة للمساومة فإنّ أوباما و شركاءه الأوروبيين أفشلوا العديد من طروحات الحل التفاوضي. هذا بدا جليّاً في مؤتمر "جنيف II" في كانون الثاني الماضي. حينها أصرّت الولايات المتحدة و شركاؤها على أن يكون "جنيف I" عام 2012 هو الأساس لتسوية الصراع لأنّه – كما يدّعون - يتضمّن تخلي الرئيس الأسد عن السلطة. هذا الإدعاء أقل ما يقال فيه أنّه مخادع. حقيقة الأمر في "جنيف I" أرادت أمريكا و معها بريطانيا و فرنسا وضع صيغة معيّنة في البيان الرسمي النهائي تحظر على الرئيس الأسد أيّ دور سياسي في المستقبل, و لكن روسيا و الصين أصرتا على عدم استخدام هكذا صيغة؛ و هذا ما كان. إلا أنّ القوى الغربية تابعت الإدعاء بأنّ "جنيف I" يمنع الأسد من أن يكون جزءاً من الحكومة الانتقالية و من أن يترشح للانتخابات بعد حصول التسوية؛ و هذا كله غير صحيح.
على الرغم من أن طهران حاسمة في دعم أيّ جهود جادة لحلّ الصراع, إلا أنّ واشنطن و شريكتيها البريطانية و الفرنسية وقفوا في وجه إيران و منعوها من أخذ مكانٍ في "جنيف II" لمعرفتهم المسبّقة بأنّ إيران لن تقبل قراءتهم المشوّهة لـ"جنيف I" فيما يتعلق بمستقبل الأسد. بسبب ذلك, كل ما نتج عن "جنيف II" حتى الآن هو انفراجة محدودة للموجودين في حمص القديمة مع عدم وجود أي تقدّم جوهري في قلب قضية الصراع.
على أرض المعركة تتابع القوات الحكومية السورية تحقيق الانتصارات. و على الغالب فإنّ الرئيس الأسد و داعميه يجهزون تحديّاً سياسياً حاسماً للمعارضة و داعميها الغربيين, فمن المفترض أن تعقد سوريا انتخاباتها الرئاسية التالية هذا العام, ستكون الانتخابات الأولى في ظل تبني الدستور 2012 الذي يسمح بوجود عدّة مرشحين من أحزاب متعددة. سيعمل الرئيس الأسد و حكومته جاهدين لعقد هذه الانتخابات و لتحدي المعارضة و الغرب أن يطرحوا مرشحيهم في وجه الأسد. إن تمكّن الرئيس الأسد من عقد الانتخابات فنجاحه حتمي. عندها سيعزّز موقفه كرئيس شرعي لحكومةٍ سوريةٍ معترفٍ بها دوليّاً. أمّا المعارضة فمصيرها التهميش الكامل.
يبقى السؤال الأهم و هو كم يجب أن يموت من السوريين قبل أن تصبح الولايات المتحدة و شركاؤها جادين في العمل على وضع حل للصراع في سوريا؟
فلينت و هيلاري ليفيرت- عمل فلينت كخبير الشرق الأوسط لمجلس الأمن الوطني في إدارة بوش حتى حرب العراق و عمل قبلها لدى السي آي ايه؛ عملت هيلاري كخبيرة الشأن الإيراني في مجلس الأمن الوطني و كانت أحد القلائل الذين سُمح لهم بالتفاوض مع الإيرانيين حول أفغانستان و القاعدة و العراق.
http://www.worldfinancialreview.com/?p=4468
إضافة تعليق جديد