كيف ستؤثر الأزمة الأوكرانية على الأزمة السورية؟
الجمل ـ محمد صالح الفتيح: مازال الوضع في كييف يتطور بنفس الطريقة التي بدأ بها؛ فالبداية الغامضة والتدحرج غير المنظور للأحداث مايزال السمة البارزة للوضع الأوكراني. فالأحداث التي احتدمت بسرعة لتصل إلى سقوط حوالي مئة قتيل في يوم واحد ثم جلوس المختصمين إلى جلسة تفاوض واحدة مفاجئة وإعلان التوصل إلى اتفاق يشمل بنوداً كثيرة وكبيرة بعد بضع ساعات من التفاوض ثم نقض ذلك الاتفاق بعد بضعة أيام كل هذا يشير إلى أن الوضع الأوكراني سيحمل لنا المزيد من المفاجآت في المستقبل. في الحقيقة قد يكون العرب عموماً، والسوريون تحديداً، هم أكثر من تفاجأ بالأحداث الأوكرانية؛ فمنذ البداية، وإذا ما راقبنا ردود الفعل الشعبية السورية على ما يجري في أوكرانيا لوجدناها تنحصر في مجالين اثنين؛ فالمعارضون استغلوا الأحداث واستخدموها كفرصة جديدة لرفع المعنويات من خلال الترويج لفكرة عقد صفقة بين موسكو وواشنطن تتم فيها مقايضة دمشق مقابل كييف. أما باقي الشعب فقد انخرط في البحث عن أوجه التشابه بين الأحداث في سورية وأوكرانيا والسخرية وإطلاق النكاث من خلال الكلام – مثلاً – عن شهود العيان في "كييف المحطة" و "كييف البلد". المسألة الأوكرانية بكل تأكيد لها أبعاد أكبر بكثير. هذه المقالة تحاول إلقاء الضوء على بعض هذه الأبعاد من خلال تلخيص بعض الأحداث التاريخية وثم ربطها بما يحصل وماقد يحصل في المستقبل؛ مثل هذا المسعى سيتطرق – بطبيعة الحال – لمقولة "كييف مقابل دمشق".
أوكرانيا وروسيا: لمحة تاريخية
بداية، أوكرانيا من حيث المساحة هي أكبر دولة في أوربا، بمساحة تزيد عن 600 ألف كم مربع. والعلاقة بين هذا الإقليم وروسيا هي معقدة وتلخيصها من خلال الحديث عن وحدة العرق السلافي بينهما فيه الكثير من التبسيط: فأوكرانيا التي يبلغ عدد سكانها أكثر من 44 مليون نسمة لاتضم سوى أقلية من الروس تقدر بحوالي 17% من السكان ينتشرون في شرق أوكرانيا و شبه جزيرة القرم فيما الغالبية العظمى – 77% – هم من الأوكران والباقي هم من أقليات بيلاروسية ورومانية وتتارية. والدولة التي تعرف اليوم باسم أوكرانيا لم يكن لها حدودٌ جغرافية واضحة خلال القرون الثلاثة الماضية فقد كانت موضع صراع وتنافس بين قوى دولية كبرى – بمافيها روسيا القيصرية والامبراطورية العثمانية وفرنسا وبريطانيا وألمانيا النازية. ولعل أشهر حلقة في حلقات الصراع على أوكرانيا هي مايعرف بحرب القرم التي دارت رحاها بيين روسيا القيصرية من جانب والامبراطورية العثمانية وفرنسا وبريطانيا ومملكة ساردينيا من جانب آخر وانتهت الحرب التي استمرت لثلاث سنوات (1853 – 1856) بهزيمة روسيا القيصرية وخسارة سيطرتها على شبه جزيرة القرم علاوة عن أرواح أكثر من 140 ألف جندي روسي.
في مطلع القرن العشرين تم ضم أوكرانيا رسمياً إلى الاتحاد السوفيتي وتعرضت خلال الحرب العالمية الثانية إلى الاجتياح من قبل ألمانيا النازية وانخرط قسم من السكان في صفوف القوات النازية ضد القوات السوفيتية. ولكن الاتحاد السوفيتي انتصر وبقيت أوكرانيا جزءاً مهماً منه ولاسيما من حيث تمركز قطعات عسكرية حيوية في الأراضي الأوكرانية وإقامة العديد من المنشآت الصناعية الثقيلة التي ماتزال تشكل إلى اليوم عصب الصناعة والاقتصاد الأوكراني. وهكذا بقي الحال في أوكرانيا إلى أن تفكك الاتحاد السوفيتي حيث سارعت أوكرانيا إلى الاستقلال عنه ورفض الانضمام إلى الاتحاد الروسي المنبثق عنه. لم تكن أوكرانيا هي الدولة الوحيدة التي فضلت عدم الدخول في الاتحاد الروسي ولكن هناك عوامل مميزة للقرار الأوكراني.
أوكرانيا وروسيا: الأزمات الراهنة
كان القرار الأوكراني مدفوعاً بتحريض غربي وأمريكي خصوصاً وظهر هذا التحريض على وجه الخصوص من خلال إصرار الحكومة الأوكرانية حينها على الاحتفاظ بالسلاح الروسي الحديث الموجود على الأراضي الأوكرانية عند الانفصال. ومن المضحك – أو المبكي – ماحصل مثلاً لقاذفات القنابل الاستراتيجية من طرازي Tu-22 و Tu-160 التي ورثت أوكرانيا نصف الاسطول السوفيتي منها؛ وبعد الانفصال رفضت كييف تسليم هذه الطائرات لموسكو وأصرت على الاحتفاظ بها – بتحريض أمريكي – ولكن المفارقة كانت عندما اكتشفت كييف أن كلفة تشغيل هذه الطائرات كانت مرتفعة للغاية وتفوق قدرة الاقتصاد الأوكراني. يومها حاولت موسكو إغراء كييف بإسقاط الديون الروسية عنها مقابل إعادة هذه الطائرات ولكن الولايات المتحدة تدخلت وقدمت منحة مالية للحكومة الأوكرانية شريطة أن يقوم الجيش الأوكراني بإخراج هذه الطائرات من الخدمة وتفكيكها بدلاً من وضعها في المستودعات كما يحصل في العادة. وهكذا نجحت الولايات المتحدة في اضعاف سلاح مهم من أسلحة روسيا ومنعت أي أحد من الاستفادة من تلك الطائرات. وإلى اليوم مايزال مشهد الآلات الثقيلة وهي تهشم هياكل تلك الطائرات يحز في نفوس العسكريين الروس (انظر الصورة).
هكذا يبدو من الواضح أن العلاقة بين أوكرانيا وروسيا لم تكن في الحقيقة علاقة ودية كما هي الحال في العلاقة الروسية البيلاروسية أو العلاقة الروسية السورية. ويظهر انعدام هذا الود – إضافة إلى ماذكر أعلاه – في نقطتين رئيسيتين. الأولى هي ميناء مدينة "سيفاستوبول" الأوكرانية المطلة على البحر الأسود التي يرابط فيها أسطول البحر الأسود الروسي. هذه المدينة بقيت تبعيتها موضع خلاف بين كييف وموسكو بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. فبالإضافة إلى وقوعها في شبه جزيرة القرم التي حاربت روسيا كثيراً من أجلها عبر التاريخ، فهي تضم القاعدة البحرية الروسية الوحيدة خارج الأراضي الروسية. وبينما كانت موسكو تصر أن هذه المدينة في عهد الاتحاد السوفيتي لم تكن أبداً تابعة للتقسيمات الإدارية الأوكرانية، كانت أوكرانيا تنكر ذلك مستندة إلى الوضع الراهن القائم منذ انهيار الاتحاد السوفيتي وإلى أن هذه المدينة لاتملك أي حدود برية مع روسيا. في النهاية رضخت موسكو وقبلت، في العام 1997، توقيع اتفاقية تستأجر فيها الميناء لمدة 20 عاماً قابلة للتجديد. ولكن الحكومات الأوكرانية التالية والسابقة لحكومة يانوكوفيتش – ولاسيما حكومة يوليا تيموشنكو – كانت تكرر دوماً أنها لن تقوم بتجديد العقد وأنها تهدد بين حين وآخر بأنها ستنقض العقد أساساً. النقطة الثانية هي مسألة الأنابيب التي تنقل الغاز الروسي إلى دول الاتحاد الأوربي عبر الأراضي الأوكرانية وتتقاضى أوكرانيا تعويضاً عن ذلك المرور على شكل حصة من الغاز الروسي تقتطع من ذاك المتجه إلى أوربا. ولكن الخبر الرئيسي في نشرات الأخبار في كل شتاء خلال العقد الماضي كان إما حول مطالبة كييف بحصة أكبر من الغاز أو بإيقاف موسكو لتدفق الغاز إلى أوربا بحجة أن كييف تقتطع منه أكثر من المتفق عليه. هاتان المشكلتان تم تسويتهما وفقاً لاتفاقية جديدة تم تمريرها بصعوبة في البرلمان الأوكراني (بموافقة 52% من الأعضاء) بعد شهرين من فوز فيكتور يانوكوفيتش بالانتخابات الرئاسية عام 2010. الاتفاقية الجديدة تحدد حصة كييف من الغاز الروسي وتجدد عقد تأجير ميناء سيفاستوبول حتى سنة 2042 قابلة للتمديد حتى سنة 2047. هذه اللفتة التاريخية كانت ضرورية للفت النظر لطبيعة العلاقة بين موسكو وكييف ويبقى السؤال الآن هو إلى أي مدى يمكن لموسكو أن تذهب في دفاعها عن مصالحها في أوكرانيا؟
خيارات موسكو
إن الاعتقاد بأن الضرب داخل مناطق النفوذ الروسية المباشرة - والمقصود هنا بالطبع هو أوكرانيا - سيدفع روسيا إلى التفاهم سريعاً مع الولايات المتحدة حول سورية والقيام بصفقة ما – من قبيل مبادلة كييف بدمشق – هو اعتقاد فيه الكثير من السطحية والتبسيط إلى درجة السذاجة لايتناسب أبداً مع تعقيد الحالتين الأوكرانية والسورية خصوصاً وتعقيد الواقع الدولي اليوم عموماً. فمن ناحية أولى، فقد تغير الوضع في موسكو تغيراً كبيراً منذ أن خرج يلتسين من الكريملين مخلياً الساحة لفلاديمير بوتين. فروسيا بوتين تختلف تماماً عما سبقها في الفترة التي تلت سقوط الاتحاد السوفيتي فعلى سبيل المثال قابلت موسكو بوتين محاولات الناتو الرامية إلى نشر رادار منظومة الدفاع الصاروخي الخاصة به في أراضي بولندا والتشيك بالعديد من الخطوات العدائية ليس أقلها نشر منظومات إضافية من صواريخ أرض أرض موجهة نحو الدولتين – مع العلم أن بولندا والتشيك لاتملكان حدوداً برية مع روسيا أساساً. التجربة الجورجية في صيف العام 2008 يجب أن لاتُنسى في هذا السياق فقد أثبت موسكو أنها لن تتردد في استعمال القوة العسكرية متى ما حاول أحدهم التحرك عند حدود حلفاءها المباشرين – كما كانت الحال يومها مع حليفتيها أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا.
ولكن ماحصل في أوسيتيا الجنوبية عام 2008 لايشابه أوكرانيا تماماً. ففي أوكرانيا لاتوجد جمهورية مستقلة تتعرض للهجوم ولكن هناك مواطنون روس يعيشون في مناطق محددة من أوكرانيا وهؤلاء المواطنون يشعرون أنهم مهددون ويطالبون روسيا بحمايتهم. روسيا أعلنت صراحة أنها ستتدخل لحماية هؤلاء المواطنين وقد قدم مجلس النواب الروسي – الدوما – موافقته بالإجماع على طلب الرئيس الروسي إرسال القوات الروسية إلى أوكرانيا لإعادة الأمن إليها. ولكن ماذا سيكون حجم التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا؟
بالرغم من أن التدخل العسكري الروسي سيحصل ربما في غضون الساعات المقبلة إلا أنه لن يكون بحجم التدخل السوفيتي في هنغاريا (1956) وتشيكوسلوفاكيا (1968) أو حتى ذاك الملمح به في حالة بولندا (1980-1981)؛ وذلك لأسباب كثيرة، ليس أهمها أن الجيش الروسي اليوم ليس جيش الاتحاد السوفيتي ذو المئة ألف دبابة، بل لأن القيادة الروسية الحالية تدرك أن اللجوء إلى المواجهة الشاملة سيكون من مصلحة الولايات المتحدة وحلف الناتو. فالجيش الروسي اليوم مايزال – من حيث نوعية وحداثة أسلحته – على حاله عند نهاية الحرب الباردة منذ ربع قرن. فالأسلحة الحديثة التي تم إدخالها إلى الخدمة في الجيش الروسي لاتعادل نسبتها 5 إلى 10% من حجم العتاد الروسي والنسبة الغالبة هي أسلحة قديمة. فدبابة تي-90 الروسية التي صنعت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي لايزيد عددها عن 800 دبابة من أصل حوالي 20 ألف دبابة تشكل ترسانة الجيش الروسي اليوم وحالٌ مشابهة يمكن أن تلاحظ في القوات الجوية والبحرية والصاروخية. صحيح أن روسيا تعتمد في حماية نفسها ضد أي تهديد خارجي على الأسلحة النووية والأسلحة غير التقليدية عموماً ولكن هذه الأسلحة لايمكن استخدامها في صراعات مثل تلك في أفغانستان والشيشان وجورجيا سابقاً وأوكرانيا حالياً. القيادة الروسية تدرك تماماً هذه المحدودية كما تدرك أن الهدف الغربي هو توريط الجيش الروسي بصراعات هنا وهناك تستنزف قواته وتعرقل جهود إعادة بنائه وتحويله إلى جيش حديث متكامل. ظهرت حالة التوريط هذه في حرب الشيشان الأولى عندما خسر الجيش الروسي ـ المنهك أصلاً بسبب حرب أفغانستان التي لم يكن قد مضى على خسارته فيها سوى بضع سنوات وبسبب الظروف الاقتصادية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ـ عدداً يصل إلى أكثر من ألف دبابة وعربة مدرعة إضافة إلى أرواح ألاف الجنود وهزم في النهاية واضطر إلى التقهقر والخروج من الشيشان الضئيلة الحجم. الاستيعاب الروسي للفخ الغربي ظهر مع وصول فلاديمير بوتين إلى رئاسة الوزراء في نهاية القرن العشرين؛ فعندما شنت موسكو حرب الشيشان الثانية ظهر تأثير عقلية الاستخبارات التي يتمتع بها بوتين. فلم تكن حرب الشيشان الثانية حرباً تعتمد على العنصر العسكري الفج وحده بل اعتمدت على عمليات القوات الخاصة وقنوات الاستخبارات من حيث خلق حلفاء لها على الأرض من بين الأفراد الذين كان يمكن أن يكونوا أعداء لها. مثل هذه الطريقة في إدارة الحرب لم تنجح فقط في تقليل الخسائر العسكرية والبشرية بل ضمنت نصراً كبيراً بثمن منخفض نسبياً واستقراراً مايزال قائماً في الشيشان بعد أكثر من 14 عاماً من تلك الحرب.
ظهر تأثير عقلية بوتين مرة أخرى في حرب جورجيا عام 2008. فبعد تسديد ضربات جوية وبرية على جورجيا ظهرت خلالها العاصمة الجورجية تبليسي على وشك السقوط، توقف الجيش الروسي في اللحظة الأخيرة محتفظاً بنصره دون أن يسمح للغرب بأن يورطه في حربٍ طويلة تلقي فيها الخسائر البشرية والدعاية الإعلامية بظلها على الانتصار الأولي. أدركت روسيا بوتين السؤال الذي غفلت عنه القيادة السوفيتية سابقاً: السؤال ليس هو هل نتدخل أم لا، بل ماذا سيحصل في اليوم التالي بعد أن نتدخل؟ كان الاتحاد السوفيتي قد بدأ يدرك هذه النقطة في الحقيقة عندما تردد في إرسال قواته إلى بولندا عام 1980 وروسيا اليوم تبدو قد استوعبت تماماً قواعد اللعبة وأدركت حجم المستنقع الذي يشكله التدخل العسكري.
إذاً أمام روسيا اليوم خياران من الناحية العسكرية. الأول هو التدخل في كامل الجمهورية الأوكرانية بما في ذلك الأجزاء الغربية من أوكرانيا وهي الأجزاء التي يقطنها الأوكران ذوي الهوى الأوربي والذين قد خرجوا في السابق ضد الرئيس يانوكوفيتش. التدخل الروسي هناك سيقابل بمقاومة شعبية غالباً وربما بمواجهة عسكرية أيضاً من القوات الحكومية التي سيناصرها الغرب والذي قد يتدخل هناك بشكل مباشر أو غير مباشر. وحتى لو قيض لهذا التدخل العسكري أن يمر في الفترة الأولى بدون مقاومة كبيرة ونجح في وضع رئيس أوكراني موالي لموسكو في كييف فإن الأزمة ستستمر ولن تنتهي حيث سيصبح من مسؤولية موسكو تقديم المساندة الاقتصادية للحكومة الجديدة؛ وهذا سيعني فرض أعباء اقتصادية كبيرة على الاقتصاد الروسي الذي، مهما بلغ من القوة، لن يستطيع مساندة اقتصاد متهالك وحاجات أكثر من أربعين مليون نسمة.
الخيار الثاني هو إرسال قوات محدودة إلى شبه جزيرة القرم وربما إلى شرق أوكرانيا – ولاسيما مدينة خاركوف التي رفع فيها اليوم العلم الروسي – حيث توجد أغلبية من المواطنين الذين يتكلمون الروسية ويوالون موسكو وكانوا قد انتخبوا يانوكوفيتش. هذا الخيار يعني أن التدخل العسكري لن يواجه بمقاومة من قبل الأهالي المقيمين هناك وكما يعني أيضاً الاستفادة من الحالة الضبابية للتوصيف القانوني لهذه الأجزاء من أوكرانيا ولاسيما إقليم شبه جزيرة القرم الذي يتمتع بالحكم الذاتي. هذه الحالة الضبابية تعني أنه من الصعب جداً تصوير التدخل الروسي على أنه تدخل عسكري مرفوض محلياً ودولياً وتعني بالتالي ضمان حماية المصالح الروسية بالحد الأدنى للخسائر. هذا الخيار لو اتبع لن يتطلب من موسكو أن تقدم الدعم الاقتصادي لكامل الاقتصاد الأوكراني بل يكفي أن تقدم الدعم للأجزاء التي يقيم فيها الموالون لها من الروس وتلك الأجزاء تمتلك اقتصاداً يعتمد على الصناعة بالدرجة الأولى وليس كاقتصاد بقية غرب أوكرانيا الذي يعتمد على الخدمات. هذا التدخل المحدود يعني أيضاً – على المدى القصير – توريط أوربا والولايات المتحدة في تقديم الدعم الاقتصادي لحكومة كييف الموالية لها كي لاتسقط. هذا الدعم سيكون مكلفاً جداً ولن يكون من الممكن التوافق عليه بسهولة وخصوصاً أن أوكرانيا لم توقع بعد اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوربي – والذي كان قد تردد في الماضي في تقديم الدعم للاقتصاد اليوناني. وهكذا، على المدى الطويل، سيظهر أن الاتحاد الأوربي عاجز عن انقاذ الحكومة الأوكرانية؛ وبينما تكون كييف تتداعى اقتصادياً، ستكون خاركوف والقرم تنتعش وتنمو في ظل الوجود الروسي. وسيصبح خضوع بقية أوكرانيا لموسكو هو الاحتمال الحتمي الذي قد يتأخر ولكنه سيأتي بكل تأكيد إلا إذا قرر الغرب أن يلقي بكل ثقله خلف حكومة كييف التي تعاني من بين ما تعانيه من دين خارجي يزيد عن 134 مليار دولار؛ ومثل هذا القرار سيكون له كلفة مالية هائلة ستسر لها موسكو كثيراً.
كييف ودمشق
من الواضح إذاً أن خيار التدخل المحدود هو خيار يكاد يكون إيجابياً مئة بالمئة وبدون أي خسائر أو تكاليف تقع على عاتق موسكو على عكس خيار التدخل الشامل. وهذا الخيار يعني أيضاً أن موسكو باتت تدرك تماماً قواعد العالم الدولي الجديد ولم يعد من الممكن توريطها أو أخذها على حين غرة كما حصل في حالتي العراق وليبيا. الكلام حول العراق وليبيا يقودنا إلى التساؤل المنطقي التالي: كيف ستؤثر الأزمة الأوكرانية على الأزمة السورية؟
سيكون هناك بكل تأكيد تأثيرات تنعكس على الواقع السوري. ففي البداية أن أي تحدي روسي للمحور الغربي يعني أن أي إمكانية لفرض إرادة غربية وحيدة على سورية تصبح شبه معدومة وأن الصراع مع وحول سورية هو صراع عالمي بكل معنى الكلمة لايمكن أن تؤثر فيه نزوات قوى إقليمية مثل السعودية أو تركيا أو إسرائيل. ومن ناحية أخرى إن التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا – سواء أكان محدوداً أم شاملاً – يعني أن على الغرب أن يرد ولكن الرد الغربي إن حصل في أوكرانيا نفسها فهو يعني أن زخم الحرب الغربية على سورية سيتراجع وذلك لاستحالة تأزيم الوضع عسكرياً في سورية وأوكرانيا في نفس الوقت. أما إن قرر الغرب الرد على التدخل الروسي في أوكرانيا من خلال تأزيم الوضع في سورية فهذا يعني تحويل سورية إلى ساحة صريحة للصراع الروسي الغربي ويعني أيضاً – بطبيعة الحال – أن روسيا ستقدم دعماً أكبر للحكومة السورية والجيش السوري وتنخرط أكبر في الصراع الجاري. هناك طبعاً احتمال ضئيل – ولكنه موجود – وهو أن تمضي الأمور في أوكرانيا وسورية إلى تسوية سريعة لعدم رغبة الغرب بتأزيم الأوضاع أكثر. ولكن هذا لم يكن أبداً سلوكاً غربياً.
الجمل
إضافة تعليق جديد