هجرة السنونو لـ (حيدر حيدر) تروي حكاية الاغتراب الممزوجة بالسيرة الذاتية

24-02-2011

هجرة السنونو لـ (حيدر حيدر) تروي حكاية الاغتراب الممزوجة بالسيرة الذاتية

في لقطات سينمائية مشغولة ببراعة، وفي أكثر من زمان ومكان، وفي أكثر من جغرافيا.

يمضي الأديب حيدر حيدر في روايته الأخيرة هجرة السنونو الصادرة عن دار الفرات - ورد مشتغلا على سرد السيرة الذاتية للإنسان المتماهية إلى حد بعيد مع سيرته الذاتية، ومن خلال هذه السيرة يضيء سيرة أخرى هي سيرة المكان -بيروت- في زمن صعب، زمن لعب دوره في تغيير جغرافيا المنطقة السياسية، زمن الحرب الأهلية وما أرسته من جروح وشروخ على مستوى كل فصائلها السياسية والاجتماعية والثقافية. ‏

تبدأ الروية بخروج «هزيم» من مدينة طرطوس إلى بيروت أوائل السبعينيات، إثر زواج فاشل دمره روحيا، وهناك يلتقي بصديقه السوري رئيف شاهين الذي سبقه إلى هناك، ليكونا ثنائيا ثقافيا في مدينة تشرع حربها الأهلية الشرسة أبوابها الأكثر اتساعا. ‏

لم يجد هزيم مفرا من البقاء فيها، فهي على حد تعبيره أفضل من بلاد تضيق به أينما اتجه، ويصبح رئيف دليله في التعرف على المدينة... باراتها... حاناتها... الوسط الثقافي... النساء في تفاصيلها. ثم يعمل هزيم في المؤسسة العربية للدراسات والنشر قبل أن يتم اغتيال مديرها الدكتور عبد الوهاب الكيالي الذي سيفتح اغتياله باب الجحيم في مدينة تغص في تلك الفترة بأجهزة المخابرات من كل حدب وصوب.
 
‏ محطات مهمة سيمر بها هزيم لتشكل تضاريس حياته في مدينة أبوابها أيضا مشرعة على المفاجآت التي كان أولها اغتيال صديقه مهدي عامل الذي سيدخله في دوامة من الحزن لا تنتهي...الحزن الذي أرسى له بعده عن أولاده وأمه. ‏

وهناك أيضاً، يعرج على محطة أخرى من حياته عبر شخصية المثقفة العراقية سامية عبد الأمير التي تصل إلى بيروت بهدف تأسيس مجلة ثقافية فتختاره رئيسا لتحريرها، لكنه سرعان ما يجد نفسه مراقباً أمنيا ويتهم بعلاقته بتنظيم من تنظيمات العراق، هذه التهمة ستكلفه سنوات أخرى من الهجرة خارج البلاد فيغادر بيروت إلى قبرص، ليعمل كمسؤول في القسم الثقافي في مجلة الموقف العربي، ومن ثم عودته إلى سورية. ‏

يروي حيدر حيدر في هجرة السنونو سيرة الهزيمة..هزيمة الإنسان والمكان فمن اختياره لاسم هزيم التي تغص حياته بالهزائم المتكررة بدءاً من هزيمة الزواج إلى هزيمته في عدم قدرته على حماية عشيقته وخروجه من البلاد وهزيمته أمام حرب أهلية كانت أشد ضراوة من قدرته على احتمالها وامتحان وفائه لمدينة احتضنته فيهزم خارجا منها، انتقالا إلى أشخاص الرواية رئيف شاهين وشوقي وسامية عبد الأمير و... الذين يهزمون وسط حرب لا ترحم. ‏

يروي حيدر حيدر تلك السير عبر خطين متوازيين الأول يبدأ بطفولة قاسية تحت سطوة أب صارم لفتى توزع بين الريف والمدينة وفي أعماقه توق سري غامض راح ينجلي مع الزمن إلى المدينة الأكثر حرية ورحابة ليصبح أكثر قدرة على التمرد والاستقلال فيعمل على تشييد زمنه الخاص حيث يقصي الزمن الخارجي الزمن الداخلي المنسوج من الولع وإزاحة العالم، ومن ثم الحب والزواج... الزواج الذي يفضي إلى متاهات البغض والكره ليكتشف في داخله الوحش والشيطان والرحمن والعاقل والمجنون متسائلا أين تولد تلك الكراهية وكيف تتعمق تلك الصدوع بين رجل وامرأة كانا عاشقين قبل الزواج.... أين يكمن العطب (ص75) وذلك سيؤرقه طويلا...حين يكتشف أنه كان يحمل بداخله ذلك التناقض بين القسوة الضارية، والحنان الإنساني اللامتناهي( ص79) يتفرع عن هذا الخط... ذكرياته في دمشق وعلاقته بمها القادري ومن ثم عودته إلى طرطوس، أما الخط الرئيسي الثاني فيبدأ لحظة وصوله إلى بيروت وهنا يبدأ حيدر حيدر بتأريخ حياة مدينة كبيروت موثقا أحداثها عن طريق الحورات التي انتقلت إلى دائرة الحوار الفكري والحضاري والثقافي وارتفاع مستواه ليكون صورة تحليلية للمجتمع بتنويعاته ومذاهبه وطوائفه ومثقفيه. ‏

يقول رئيف: بيروت بتركيبتها السياسية وأطيافها الطائفية لم تستطع أن تؤسس وطنا حقيقياً... فالولاء أولا وأخيرا للطائفة لكنهم استطاعوا أن يرسوا نوعا من الليبرالية حملت في داخلها جنين حرب أهلية وهذا المناخ الديمقراطي كان مرتعا خصبا للمخابرات والجواسيس والمافيات وتجار الأسلحة من أنحاء العالم. ‏

انتقالاً إلى تحليل تركيبة المثقف اللبناني \مزاجية المثقف اللبناني تؤهله ميكافيليا للانتقال من موقع اليسار إلى موقع اليمين أو من موقع العروبة إلى أحضان الإسلام. ‏

مرورا باجتياح بيروت وخروج الفصائل الفلسطينية منها وسنوات الحرب الأهلية إلى لحظة خروجه منها باتجاه قبرص ومن ثم عودته إلى سورية. ‏

تعددية الأصوات ‏
تتميز هجرة السنونو بتعدد الأصوات داخلها فلا وجود للراوي العليم والعارف بكل شيء وإنما أفسح الكاتب المجال لكل شخصية أن تعبّر عن نفسها دون تزييف ودون تدخل الراوي إضافة إلى صوت المكان الذي كان عاليا في الرواية ولعب دوره في مصائر الشخصيات وتشكيل هزائمها ،وهنا يبتعد حيدر حيدر عن التفاصيل الصغيرة التي يقع في مطباتها الكثيرون مثلا يقول تواعدنا على اللقاء والتقينا تاركا المجال للقارئ ليكمل الفراغات مشاركا في العمل الروائي. ‏

هجرة السنونو هي رواية الاغتراب الممزوجة بالسيرة الذاتية ويتضح هذا من العنوان حيث السنونو رمز الحركة الإرادية التي تطفو فوق معوقات المكان والهجرة الحركة الإرادية في السعي نحو الاغتراب، وهذه الهجرة كانت رمزا لقرار رحيل مفاجئ جاء من داخل الذات، ولكن لم يتم تقطيع كامل لكل الأواصر مع الشرائح الملاصقة القريبة من النفس والجسد وإن بدا كذلك، وهذه العودة للجذور من خلال العودة إلى الطفولة، كانت بسبب اشتداد البعد المكاني الذي قد يثير مخاوف انقطاع الصلة مع هذه الجذور أو ربما انقطاع المرجعية التي يستند إليها الإنسان. ‏

ملامح السيرة الذاتية ‏
إن اتصال الرواية بالسيرة الذاتية والاغتراب وما ينتج عن ذلك من بروز نزعة الأنا مع الآخر ومحاولة رؤية الذات من بعيد سيشكل علامة بارزة في عدد غير قليل من الأعمال على سبيل المثال لا الحصر... (عصفور من الشرق) لتوفيق الحكيم... (الحب في المنفى) لبهاء طاهر... (الأيام) لطه حسين... (قنديل أم هاشم) ليحيى حقي... (الحي اللاتيني) لسهيل إدريس، ويمكن أن نضيف (هجرة السنونو) إلى هذه القائمة وإن اهتم حيدر حيدر بالتأريخ للمكان والتوثيق أكثر من اهتمامه بالتخييل السردي. ‏

وهنا ينزع حيدر نحو اختيار جمالي يتأسس على الشعرية والذي يسميه بحافة الشعرية على حد تعبيره حيث يكون هذا الاختيار جزءاً من الحداثة التي تعمل على تغيير البنية القديمة من الوصف ورؤية الأشياء وذلك عبر إعطاء اللغة مداليل جمالية، فالمناخ الشعري الموجود ضمن الرواية ومن ضمنه المجاز يعتبره جزءاً من العنصر التخيلي في رؤية الإنسان والأشياء التي ينقلها من التقليد إلى الحداثة فجعلنا نعيش التاريخ مجددا باعتباره ما قبل الحاضر في إضفاء حياة شعرية على القوى التاريخية والاجتماعية والإنسانية التي جعلت من خلا ل مسار طويل حياتنا الراهنة على ما هي عليه. ‏

رولا حسن

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...